"قرار اختيار الكلية أصعب من قرار الزواج، ولا أعلم كيف لطالب في الثامنة عشر من عمره أن يتخذ هذا القرار"، كلمة قالها لي دكتور جامعي، وبالفعل فترة الدراسة تلك من أهم الفترات في حياتنا، وبناءً عليها تتشكل حياتنا فيما بعد.
عليها تُبنى حياتنا العملية، ومنها أيضاً قد يتشكل وعينا بالعلاقات الإنسانية المختلفة، حب وزمالة، وكذلك علاقاتنا بالدكاترة على المستوى الدراسي والإنساني، قد يمتد تأثيرها إلى ما بعد الحياة الجامعية.
"الدكاترة نوعان، نوع فاقد الشغف، وده بيكون عنده المهم نشتري الكتاب، وناخد أعمال السنة عليه، ونوع شغوف بمادته، بيحاول يوصل المعلومة بأكتر من طريقة، وبيعلمك إزاي تبحث عشان تفهم، وده النوع اللي أنا بحبه"، قالت نورهان (21 سنة) طالبة في كلية آداب، متحدثة عن أنماط الدكاترة الجامعيين في مصر، كما خبرتهم، وسمعت من زملائها في جامعات أخرى.
تتعامل نورهان مع كل نوع بطريقته الخاصة، بدرجة توحي للسامع أن لها شخصيتان مختلفتان، تقول: "تتلخص علاقتي بدكاترة النوع الأول في شرائي للكتاب حتى أحصل على أعمال السنة، وتحضير ملخصات لكل مادة منها كي أستطيع النجاح".
لم تكن نورهان راضية عن شخصيتها الأولى تلك، وقررت في إحدى المرات التمرد، وعدم شراء الكتاب، فرسبت، ولكنها لم تستسلم، فقد اشتكت لدكتورة أخرى، شكل هذا ضغطاً على دكتور المادة، ونجحت هي وزملاؤها المتمردون، الذين لم يشتروا الكتاب، في النهاية.
يصف هادي هذا النوع من الدكاترة بـ"الخائنين للمكان الذين يتولون مهامه، ولابد من وجود آلية لتقييم سلوك دكاترة الجامعة، لأن سلطاتهم مطلقة على الطلبة، وهذا لا يصح"
أما الشخصية الأخرى لنورهان، ويبدو أنها تتناغم معها أكثر، فتظهر مع النوع الآخر من الدكاترة، تقول: "أما النوع الثاني من الدكاترة، أبذل معه أقصى جهدي، وبالفعل كل منا يُجني ثمار ما بذل من جهد في نهاية العام، فمثلًا كانت هناك دكتورة تُدرس لنا مادة أدب الطفل، وهي مادة صعبة، لكن هذه الدكتورة أعطت للمادة بُعداً آخر ممتعاً، فكانت تُحفزنا على الحضور في مسرح العرائس، مما أفادنا بشكل كبير في دراسة المادة".
ولاحظت نورهان أن النوع الثاني، إضافة إلى شغفه، يتمتع بإنسانية و"طيبة قلب" مقارنة بالنوع الأول، توضح: "كان رقم الهاتف الشخصي لهذه الدكتورة مع طلبة الدُفعة كلها، وكل من يحتاج أن يسألها على أي معلومة تخص المنهج كانت تجيبه دون تذمر، على عكس من دكتور النحو (النوع الأول)، الذي ذهبت أطلب منه رقم هاتفه، فأغلق زجاج سيارته في وجهي، دون حتى أن يعلم لمَ أحتاج إلى رقمه".
ذكرتني قصة نورهان بتجربتي الجامعية، وبالدكتور منصور، الذي درس لي مادة "قاعة بحث" في قسم اللغة العبرية بكلية الألسن في سنتي الأولى، وكنت آنذاك غير مهتمة بالدراسة الجامعية.
فوجئت بموافقته على موضوع كنت أراه غريباً وجريئاً "الصهيونية والسينما العالمية"، والطريقة التي أعددت بها البحث، وأنجزته، لم تحقق لي رضاً يشعر به الطالب بعد نجاحه في مهمته الدراسية، ولكن صالحت بين حبي للكتابة والفن والإبداع، والدراسة الجامعية.
دكاترة "ما عندهمش ضمير"
ينظر هادي، اسم مستعار (25 سنة)، طالب في كلية طب القصر العيني، في الجانب الإنساني، فهو يرى بعضهم "ما عندهمش ضمير"، وهي كلمة شائعة في الجامعة لمن يهمل شرح وفهم المادة.
يقول: "كانت هناك دكتورة تشرح لنا نظرياً، رغم أنه من المفترض أن منهجها مقتصر على الشرح العملي فقط، لكن مع ظروف الكورونا والحجر، لم يكن هناك عدد مرضى كافٍ للدراسة العملية، فكانت تقول لا بد أن تستفيدوا طالما حضرتم".
"كما أن هناك دكاترة تُدرس ساعات إضافية للطلبة دون مقابل، رغم كبر سنهم، ورغم أن هذه المناهج إذا دُرست في دروس خاصة تصل تكلفتها إلى ثلاثة آلاف جنيه (يقترب من الـ 200 دولار)".
وفقاً لتصنيف هادي، فهذا السلوك طبيعي مع "الأساتذة اللي عندها ضمير"، ولا يقتصر النوع الجيد من الدكاترة على احترافيته في المحاضرة، ولكن على مواقفه الإنسانية، التي لا ينساها له الطلبة حتى بعد تخرجهم، يقول هادي: "عندما كانت جدتي مريضة، اتصلت بدكتورة سهير، فاهتمت كثيراً بالأمر، ووصفت علاجاً لها، وفي مرة أخرى كان أحد أفراد عائلتي مُتعباً أيضاً فأرسلت رسالة على الواتس آب لدكتور علي، الذي طلب مني أن أتصل به، وشرح لي كيف يجب أن أتصرف بالضبط".
النوع الآخر من الدكاترة بالنسبة لهادي "اللي ما عندهمش ضمير"، ويحكي عن أحدهم: "كانت لدينا محاضرة ميعادها الساعة التاسعة صباحاً، تأخر دكتور المادة عنها ساعة وربع، وبالتالي قرر بعض الطلبة المغادرة، فعندما أتى الدكتور تضايق من الأمر، وقال: "أنا آجي وقت ما أنا عايز، وأنتوا تيجوا على ميعادي"، وفي محاضرة لدكتور آخر، كان دكتور المادة يُدخن، وعندما أبدى طالب استياءه، كان رد الدكتور: "طلع وشك من الشباك".
تأخر الدكتور عن المحاضرة، فانصرف معظم الطلاب، فغضب وقال: "أنا آجي وقت ما أنا عايز، وأنتوا تيجوا على ميعادي"، ودخن في محاضرة أخرى، وعندما أبدى طالب استياءه، قال: "طلع وشك من الشباك"
الدكاترة "اللي ما عندهاش ضمير" يتنوعون في سلوكياتهم المجحفة حيال الطلبة، بغض النظر عن توجهاتهم الفكرية والثقافية، فإذا كان علمانياً منفتحاً يعامل المتدينين بعنصرية، وإن كان متديناً محافظاً يعامل الآخرين بعنصرية، يحكي: "درس لي دكتور كان يطرد أي طالبة منتقبة من المحاضرة، ويسخر من الطالبات المحجبات".
وهناك أيضاً من يتفوه بألفاظ خارجة تنال من كرامة الطالب وكبريائه، يضيف: "من المواقف التي لا أنساها، كان هناك دكتور في امتحان مادته لا بد أن نبدأ بمعلومات شخصية عن المريض منها حالته الاجتماعية، فقال له صديقي في هذه الخانة "المريض غير متزوج"، فعلق الدكتور بلفظ اعتراضي خارج، وأكمل قائلًا: هو عشان مش متجوز متسألوش عن علاقاته الجنسية".
ويصف هادي هذا النوع من الدكاترة بـ"الخائنين للمكان الذين يتولون مهامه، ولا بد من وجود آلية لتقييم سلوك دكاترة الجامعة، لأن سلطاتهم مطلقة على الطلبة، وهذا لا يصح".
وينهي هادي حديثه، ممتناً لـ"الدكاترة اللي عندهم ضمير" و"قلبهم طيب"، يقول: "في دكاترة لو طلبوا عيني هديها لهم، وفي دكاترة تانية لو بق مية هيحييهم مش هانقذهم، فأنا لا أحترمهم".
كيف أرسب؟
أثناء عملي الصحفي أيضاً، وأنا أعد تقريراً عن الملحدين وقت الأزمات، لفت نظري هزة نفسية أصابت مصادر تحدثت معها، شعورها بعدم عدل الدكاترة أجج شكوكها في تدينها، وجعلها مهملة في دراستها، وعملها المهني فيما بعد الدراسة الجامعية.قالت كريستينا (29 عاماً)، وهي تعمل الآن في خدمة العملاء لشركة خاصة في الإسكندرية، عن رسوبها في أول سنة دراسية: "شعرت وقتها بالظلم، لأن هناك مواد كنت أذاكرها لأصدقائي، فكيف أرسب؟ فلم يكن هناك معنى لرسوبي بالنسبة إليَّ، ولو أن الصلاة والدعاء قادران على حل الأمر، فلماذا لم يحدث هذا؟".
وتتابع: "كانت الإجابات دائماً أن الله يفعل الأفضل لنا، لكن بعد رسوبي كرهت الدراسة والكلية، ولم أعد أفكر سوى في إنجاز دراستي حتى أتخلص منها، فتخرجت دون تقدير، ولم أفكر بالعمل بكليتي، فرسوبي بُني عليه كل شيء حدث لي فيما بعد".
وبعيداً عن التقييمات الأخلاقية، والاحترافية لدكاترة الجامعة، تثمن لمى (24 سنة) تجربتها الجامعية في مصر بأنها الأكثر حيوية.
في مصر توجد حياة في العلاقة، تفاعل وصخب وشجار بين الطلبة والأساتذة.
بالنسبة لها، في مصر توجد حياة في العلاقة، تفاعل وصخب وشجار بين الطلبة والأساتذة، أما في تركيا فلا شيء من هذا.
تقول لمى: "غادرت مصر بعد عامين من الدراسة في كلية الألسن، قسم اللغة التركية، وسافرت إلى تركيا لدراسة الإعلام قسم راديو وتليفزيون، في مصر رغم أني كنت أكره الكلية، والدكاترة، لكن كان هناك تفاعل أكثر بيني وبين الدكاترة، والطلبة حتى لو على سبيل الشجار، لكن تجربتي في تركيا تتوقف على الدراسة فقط، لا توجد علاقات بيني وبين الموجودين في الكلية، وكأني أدرس وحدي وأتخرج وحدي".
يردد طلبة الإعلام في تركيا جملة ساخرة: "كلية اتصال مفيهاش اتصال".
وأنهت حديثها: "لا توجد لدي ذكريات في الكلية في تركيا، رغم حضوري الدائم، وحتى نظرتهم إلى التخرج مختلفة كثيرا عن نظرتنا، في مصر التخرج من الجامعة أمر مهم يستحق الاحتفاء، أما في تركيا فهو أمر عادي لا يلقى الاهتمام نفسه".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 19 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 5 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين