أقف على باب جامعة القاهرة وأنتظر الدخول، لا تمنعني الدرجات المؤهلة لاجتياز عتبة "الحرم الجامعي"، وإنما بوابات مخيفة، وحرس شداد من قوم عاد لا تتناسب بنية أجسادهم مع هزال طلاب ينقصهم الحد الأدنى من التغذية. تمنعني الإجراءات المشددة أن أدخل جامعتي زائراً أعزل، ولا أستطيع النظر إلى الداخل، فالسور المصفّح عزل "الحرم الجامعي" وأحاله سجناً، ولم يكن المارة بجوار السور الرمزي القديم يشعرون بوجوده، فالجامعة مفتوحة على محيطها البشري والعمراني الحيوي، في حي بين السرايات الشعبي، وبوابتها الرئيسية تواجه حديقتيْ الحيوان والأورمان، وبحكم هذا الدفء تأسست الألفة ونضجت، وتشهد المساءات عائلات تحرص على التقاط صور تذكارية مع العروسين عند المسلة.
الصرح الذي تأسس عام 1908 كانت زيارته ميسورة، وخصوصاً لخرّيجيه حتى لو صاروا آباء والتحق بالجامعة أبناؤهم. كان يكفي إبراز البطاقة الشخصية أو الصحفية، قبل أن تصبح الجامعة ثكنة ينقصها رفع شعار السجن: “إصلاح وتهذيب”، على عادة العرب في تعزية الأعمى ومنحه لقب البصير. وتتجلى المأساة في الخيال المجاني وفي فقر الخيال، وقد يقع أعمى ضحية خياله المجاني بأنه يرى، والسقوط في النيل لا يفيقه من أوهامه، على طريقة الشيخ حسني في فيلم “الكيت كات”. وأما فقر الخيال فيجسده الجدار الحديدي للجامعة؛ خيال فقير يوهم المجنون بأن في إشارة المرور الحمراء قوة تُعطب السيارة المخالفة، ويجهل أن الإشارة مجرد رمز.
وعلى الرئيس القادم لجامعة القاهرة إعادة الاعتبار إلى قيمة الرمز، وتحدي تاريخ من الانسحاق الوظيفي، وكشط رواسب الصَّغار بالعودة إلى أصول وقواعد أرساها أحمد لطفي السيد قبل مئة عام، وإعادة الهيبة إلى منصب رئيس الجامعة. وكانت ثورة 25 يناير 2011 على بعد خطوة من تأكيد هذا المعنى بجعل المناصب بالانتخاب، فلا تملك سلطة نزع امتياز ناله بالتصويت الحرّ رئيس للجامعة أو عمداء للكليات. جرى ذلك مرة واحدة، ولم تحتمل قوى الثورة المضادة النورَ فأطفأته. وأولى مهام الرئيس القادم، رئيس الجامعة بالطبع، استعادة مبادئ مؤسسي الجامعة عام 1908، أولئك الذين لم يكن يعنيهم إنعاش تجار الحديد والخردة بتشييد سور قبيح مصفّح.
ماذا يغري طالباً غير مصري بالدراسة في جامعة القاهرة، بل في غيرها من الجامعات المصرية إذا كانت الجامعة الأم تقدم لطلابها درساً في الاحتيال على العلم بالانحياز الحكومي الفج؟
العلمانية والاستقلال العلمي دعامتان أرساهما مؤسسو الجامعة، عقلاء الأمة "الذين يسعون لجعل الجامعة جامعةً للعلم وجامعة لعناصرنا المتفرقة، فلا اليهودي فيها يهودي فقط، ولا المسيحي فيها مسيحي فقط، ولا المسلم فيها مسلم فقط، بل هم على مذاهبهم وأديانهم وضمائرهم ولكنهم كلهم إخوة لتذكية النفوس وتعليم الأمة وبث نور العلم والعرفان وتوحيد روابط الإخاء وإشراب النفوس روح العدالة والحرية والإخاء والمساواة. تلك الروح التي جعلت أوروبا سيدة الأكوان، وصار الشرق لخلوّه منها على ما فيه من عظمة وخير ونعمة عبداً لتلك السيدة. وإذا تمنى القبطي أن يكون شقيق المسلم والمسلم شقيقاً له، فبالجامعة وحدها يكونون لأنه ليس أقوى من روابط العلم”.
الاقتباس السابق نشرته صحيفة الأهرام في 2 مايو 1908، وأثبته الدكتور يونان لبيب رزق في كتابه “فؤاد الأول: المعلوم والمجهول”. وكان الأمير أحمد فؤاد (الذي صار سلطاناً ثم ملكاً)، أول رئيس لمجلس إدارة الجامعة الأهلية بين عامي 1907 و1913. وكان أحمد لطفي السيد أول مدير للجامعة في ثوبها الجديد “الجامعة المصرية” عام 1925. ويقول قانون الجامعة إنها تحتفظ “بشخصيتها المعنوية، وتدير شؤونها بنفسها بكيفية مستقلة”.
وفي حفل افتتاح كلية الآداب في 16 أكتوبر 1925 حرص لطفي السيد على “قضية استقلال الجامعة”. ويقول يونان لبيب رزق إن ذلك كان له ما يسوّغه؛ “فقد أكدت الأحداث أن القصر ـ صاحب اليد الطولى في قيام الجامعة الأميرية ـ قد تصور أن ذلك يتيح له حق التصرف في شأنها، الأمر الذي بدا في الأزمة الشهيرة التي جرت في عهد صدقي”.
صدقي هو “عدو الشعب”؛ إسماعيل صدقي الذي عُين رئيساً للوزراء عام 1930، وألغى دستور الشعب، واستبدل به “دستور الملك”، وعادى الجماعة الوطنية، ولم يسلم من عداوته رفاقه السابقون في حزب الأحرار الدستوريين، وصادر الحريات، وأغلق الصحف بما فيها “السياسة”، صحيفة حزبه القديم، وأسس حزب “الشعب”، ولسان حاله صحيفة “الشعب” اليومية.
وفي 3 مارس 1932 فوجئ المصريون بحلمي عيسى وزير المعارف في حكومة صدقي قد قرر نقل الدكتور طه حسين عميد كلية الآداب إلى وظيفة مراقب بالتعليم الابتدائي، وفي الشهر التالي عرفوا السبب من قضية رفعها العميد على الحكومة مطالباً بتعويض عن فصله تعسفياً، عقاباً على رفضه رئاسة تحرير صحيفة “الشعب”.
اعتزّ طه حسين بمكانة الأستاذ الجامعي، ورفض الإغراءات. وتراجع صدقي خطوة، وطلب إلى العميد مجرد كتابة افتتاحية العدد الأول من “الشعب”، لكنه رفض قائلاً: “لا ينبغي لعميد كلية من الكليات أن يسخّر نفسه للكتابة في صحف الحكومة فيتعرض لازدراء الزملاء والطلاب جميعاً”. وتزامن مع ذلك إبداء وزير المعارف رغبته في منح عدد من ألقاب الشرف لبعض “المصريين النابهين”، وتبين لطه حسين أن هؤلاء النابهين هم رئيس مجلس النواب ورئيس مجلس الشيوخ ووزير من حزب الشعب. ورأى العميد ألا تمنح هذه الألقاب بأمر وزير، “وألا يورط الجامعة في السياسة”. وتصاعدت الأحداث في 9 مارس 1932، بإصدار مجلس كلية الآداب بياناً تاريخياً.
في 3 مارس 1932 فوجئ المصريون بحلمي عيسى وزير المعارف في حكومة صدقي قد قرر نقل الدكتور طه حسين عميد كلية الآداب إلى وظيفة مراقب بالتعليم الابتدائي، وفي الشهر التالي عرفوا السبب
سجل البيان اندهاش المجلس من نقل العميد، من غير أن يؤخذ رأي مجلس الكلية أو رأي مجلس الجامعة، وألا يعرف المجلس سبباً للنقل، وأعلن "ثقته التامة بالدكتور طه حسين عميد كلية الآداب ويعلن إعجابه بآثاره العلمية". ورأى البيان أن نقل عميد أو أستاذ من دون الرجوع إلى مجلس الكلية "لا يمكن أن يتفق لا في شكله ولا في موضوع جوهره مع ما يلزم من الاستقلال والطمأنينة والكرامة للبحث العلمي والتعليم". وشارك في الإضرابات طلاب كليات أخرى، وفي 11 مارس قدم لطفي السيد "أستاذ الجيل" استقالته، اعتراضاً على قرار الوزير، وظل يوم 9 مارس في الضمير المصري قريناً بقضية استقلال الجامعة.
فماذا عن الجامعة ذات الأسوار؟ أكتفي بمشهد هزلي بطله رئيس جامعة القاهرة محمد عثمان الخشت، أستاذ الفلسفة. في أبريل 2019 وقف على مسرح مكشوف في ساحة الجامعة وهتف: “مين بيحب مصر؟”، وجاءته إجابات، فردّ عليها: “مش سامع!”. الرجل الذي يجلس مكان لطفي السيد قدم إلى الطلاب رشوة، لإغرائهم بالتصويت بالموافقة على تعديل الدستور، فأعفاهم من مصاريف الإقامة بالمدينة الجامعية شهراً، وأعفى الذين لم يسددوا مصاريف عام 2019 من دفعها. وأعلن عن منح 5 في المئة من درجات التخرج لكل طالب في السنة النهائية، “الخمسة في المئة على جامعة القاهرة”، وتساءل: “نقول كمان؟”، وردد: “تحيا مصر”، وأهدى الطلاب عطلة خمسة أيام.
بعد مشهد تمثيلي بائس، شكلاً ومضموناً، يثور سؤال: ماذا يغري طالباً غير مصري بالدراسة في جامعة القاهرة، بل في غيرها من الجامعات المصرية إذا كانت الجامعة الأم تقدم لطلابها درساً في الاحتيال على العلم بالانحياز الحكومي الفج؟ ماذا بقي من استقلال جامعة أعلن مؤسسوها أن “دينها العلم”؟ كنا على وشك الإصلاح الجذري لولا فشل الثورة؛ فبعد ستة أيام على خلع حسني مبارك في فبراير 2011، نظم المئات من أعضاء هيئة التدريس اجتماعاً في الجامعة، بمشاركة حركة 9 مارس، لاستعادة استقلال الجامعة، ورفع القبضة الأمنية عنها. وفي زخم الثورة نجحت احتجاجات طلاب كلية الإعلام في عزل عميدها عضو حزب حسني مبارك.
واستجابة لمثل هذه الضغوط، أصدر كمال الجنزوري، رئيس الحكومة الذي عيّنه المجلس الأعلى للقوات المسلحة، في شباط/نوفمبر 2011 تعديلاً قانونياً يقضي بانتخاب رؤساء الجامعات وعمداء الكليات. وأثمرت التجربة فوز محسوبين على جماعة الإخوان المسلمين. يوصف الإخوان بأنهم كائنات انتخابية، وللانتخابات محترفون، ولكن الديمقراطية كفيلة بتصحيح أخطائها، والنهوض من عثراتها. وليس العلاج بالبتر، والردة على مكسب كبير. ففي 3 حزيران/يونيو 2014 أُعلن فوز عبد الفتاح السيسي بالرئاسة، وبعد ثلاثة أسابيع (24 يونيو) أصدر السيسي قراراً جمهورياً تضمن تعديل قانون الجامعات، ليكون تعيين رؤساء الجامعات وعمداء الكليات بقرار من رئيس الجمهورية. هكذا إذاً تنتكس الثورة فننتقد الثور، ولو تمثّل في صفيح الأسوار.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...