في حي "سيدي حسين السيجومي"، أحد أفقر أحياء العاصمة التونسية، وأكثرها كثافة سكّانية، فتحت "الجامعة الشّعبيّة محمد علي الحامي" أبوابها للتسجيل.
وتستعد الجامعة لانطلاق الدروس والمحاضرات والورشات المهنية والفنيّة، بداية شهر مارس المقبل، وذلك وسط إقبال كبير وملحوظ على التسجيل من جميع الأعمار والمستويات الاجتماعية.
ويقول المشرفون على الجامعة إنّ عدد المسجّلين منذ الافتتاح الرسمي في 13 فبراير الجاري، قد تجاوز الـ400 من مختلف الأعمار ومن كل مناطق العاصمة والأحياء القريبة، وأنّ نسبة الإقبال تجاوزت بكثير ما كان متوقعاً.
جامعة كي لا يضيع الشباب
يقول الدكتور كمال الزغباني، أحد المشرفين على المشروع وعضو هيئة التدريس في الجامعة، في ورقة تعريفية، إنّ مشروع الجامعة الشعبية يأتي "تأسيساً على مبدأ استحقاقي أساسي لا تُلبّيه مختلف أشكال وهياكل التعليم الأخرى عمومية كانت أم خاصّة (بفعل طبيعتها ذاتها): الحقّ الكوني والمطلق في اكتساب وتبادل وتداول المعرفة النظرية والعملية بشتّى أبعادها دون أيّة معايير أو شروط إقصائية مهما كان نوعها (العمر، المستوى التعليمي، الوسط الاجتماعي، الوضعية الاقتصادية)". وقال المخرج والممثل نصر الدين السهيلي، أحد القائمين على المشروع، إنّ "هذه الجامعة مفتوحة للجميع، ولكل الراغبين مهما كانت انتماءاتهم الطبقية أو مستوياتهم الدراسية". وأضاف لرصيف22 أنّ فكرة تأسيسها فرضتها الحالة التي تعيشها الأحياء والمناطق الفقيرة في تونس، حيث الانقطاع المبكّر عن مقاعد الدراسة، وحيث تنتشر المظاهر الاجتماعية الخطيرة كالجريمة والانحراف والاتجاه نحو التطرّف. وأشار إلى أنّه، انطلاقاً من تجربته الشخصية وكواحد من أبناء هذه الأحياء الفقيرة وذات الكثافة السكانية العالية والمستوى الاجتماعي الفقير، قد لاحظ أنّ "في هذه الأحياء الفقيرة، توجد تقريباً المشاكل نفسها، فهناك الانقطاع المبكر عن الدراسة الذي تفرضه أسباب مادية أو اجتماعية، لذلك يتوجه الشباب في هذه المناطق إمّا إلى الجريمة أو إلى تبني الأفكار المتطرفة. فمثلاً، شخصياً لديّ من أصدقائي وجيراني مَن هو محكوم بأحكام تتجاوز العشرين سنة سجناً في قضايا إجرامية، وهنالك مَن هو قيادي كبير في تنظيم أنصار الشريعة المحظور، وثلاثة آخرين من أبناء حيي قتلوا في العراق في عمليات انتحارية". وتابع: "هؤلاء عندما تقتربُ منهم -في أغلبهم- لديهم اهتمام إمّا بالثقافة أو بالرياضة، ولكنهم لأسباب اقتصادية واجتماعية، حرموا من مواصلة دراستهم وحقهم في المعرفة والتعليم. شخصياً لا أخجل من الاعتراف بأني كنت قريباً جداً من الانزلاق إلى المصير نفسه، وما أنقذني هو أنّ بعض أفراد العائلة قد وفّروا لي ما يشبهُ هذا المشروع، إذ وفّروا لي، برغم الظروف الماديّة الصعبة، مكتبة في البيت، وكانوا حريصين على اصطحابي إلى نوادي السينما والمسرح منذ طفولتي".لماذا محمد علي الحامي؟
وعن إطلاق اسم محمد علي الحامي على مشروع الجامعة، قال السهيلي إن "محمّد علي الحامي هو أروع مثال يمكن أن نعتمده في هذا السياق، فالحامي أتى من الحامة في محافظة قابس جنوب البلاد إلى العاصمة بسبب الفقر بحثاً عن عمل، واشتغل في بيع الخضر والغلال، ثم تحوّل إلى خادم عند قنصل النمسا، ثم بعد رحلة طويلة دخل الجامعة الشعبية في برلين، ودرس الاقتصاد السياسي". وأضاف: "فضلُ محمّد علي الحامي ليس فقط عمله النقابي، بل هو يُعتبر مثالاً للناس الذين تستهدفهم الجامعة"، مشيراً إلى سعي أصحاب مشروع الجامعة إلى تخريج آلاف الشباب العصاميين. وقال الدكتور كمال الزغباني في ورقته التعريفية: "ليس اختيار الاسم اعتباطياً هنا. فمحمّد علي الحامّي هو المثال الساطع على وجاهة فكرة الجامعة الشعبية. فهو تحوّل من عامل بسيط بمستوى تعليمي محدود إلى واحد من أهمّ روّاد الفكر العمّالي والتنظيم النقابي، بفضل تمكّنه خلال إقامته بألمانيا من مزاولة تعليم جامعي حرّ ومفتوح (غير مشروط بأيّة شهادات) بجامعة برلين ليدرس الاقتصاد السياسي ويبرع فيه. وهو من جهة ثانية أحد روّاد فكرة التثقيف العمّالي والتعليم الشعبي المفتوح والمتواصل من خلال كتاباته وأنشطته في "جامعة عموم العملة" التي كانت أوّل منظمة نقابية في القارة الأفريقية والبلدان العربية".لمن تتوجه الجامعة؟
عن الفئات والمستويات التي تستهدفها "الجامعة الشعبية"، يؤكّد السهيلي أنّها "مفتوحة للجميع، لكنها خاصة وبالذات للعاملات والعمال وأهالي المنطقة الذين حُرموا من مواصلة دراستهم، ولكل من له الرغبة في حضور الدروس، أو المهتمّين بدروس بعض الأساتذة الموجودين في الجامعة. ولكن الأولوية كما ذكرت، تبقى للعمال ومن لم يتمكنوا من مواصلة تعليمهم". وتابع أن "هنالك أيضاً نشاطاً آخر، موجهاً إلى ربّات البيوت، وهي ورشات في الاقتصاد التضامني والاجتماعي، من خلال الأنشطة والحرف، وهذه الورشات سيشرفُ عليها أستاذ مختص، لديه مقترحات كثيرة في هذا السياق منها تشكيل تعاونيات بين هؤلاء النسوة، في انتظار تبلور الأفكار في هذا الاتجاه بطريقة عمليّة مع انطلاق النشاط الفعلي للجامعة". ولفت إلى أن "الجامعة تقدّم كذلك ورشات في المسرح والسينما والفنون التشكيليّة، وهنا لا بد أن نؤكد أنّ هذه الورشات ليست نوادي، بل ورشات لتدريس الفنون يشرف عليها خيرة المختصين في هذه المجالات في البلاد، فهنالك الممثل خالد بو زيد والمخرج أحمد أمين بن سعد للمسرح، والفنان ياسر الجرادي ورضا الشمك في الموسيقى، والناقد الناصر السردي في السينما، وعمر الغدامسي لتدريس الفنون التشكيلية".تفاصيل الدراسة
وعن شروط الانتساب للجامعة، قال السهيلي إنّه لا توجد أيّة شروط مسبقة، "فالأبواب مفتوحة للجميع بدون أي مقابل مادي، فالترسيم مجاني وللعموم، لكل مَن هو مهتم بتحسين مستواه المعرفي، أو الراغب في تحصيل تكوين معيّن، ولكل الفئات العمريّة والمستويات الدراسية والشرائح الاجتماعية". وعن أوقات الدروس في الجامعة أشار إلى أنّها ستحدّد بالتنسيق بين الأساتذة والمستفدين، مؤكّداً أنّ الأساتذة الذين سيقومون بتقديم الدروس والمحاضرات والتكوين لن يحصلوا على أيّ مقابل مادي، فالعمل في الجامعة مجاني وتطوعي، وكذلك التعلّم حيث لا يدفع الطلاب أيّ مقابل مادي. وأكّد أنّ هنالك خطأ شائعاً في كلّ التقارير الصحافية والريبورتاجات التي أنجزت حول الجامعة، إذ يقدّمون أمثلة عن الجامعات الشعبيّة الموجودة في بلدان أخرى كالسويد وفرنسا والبرازيل وغيرها، مضيفاً: "صحيح أن هنالك جامعات شعبية في تلك البلدان، وقد حاولنا الاستئناس بالتجربة، لكن حاجة التونسيين وظروف تونس ليست هي نفسها، فتلك الجامعات الشعبية لا تشبه هذا المشروع الذي نطمح إليه. نحن سنقدّم دروساً للعاملات والعمّال لا ندوات أو مراكز أبحاث كما هو الحال في تلك الدول". وأضاف أنّ الجامعة ستسعى منذ انطلاق الدروس بداية شهر مارس المقبل إلى الاتصال بالوزارات المعنية لتصبحُ شهاداتها معتمدةً من قبل الدولة التونسية، مشيراً إلى تلقيهم العديد من الاتصالات من مختلف مناطق البلاد لفتح فروع أخرى للجامعة.تمويل المشروع
بالنسبة للتمويل الذي تقوم عليه "الجامعة الشعبية"، شرح السهيلي أن "الجامعة تعتمد حتى الآن في تمويلها على الأشخاص القائمين على المشروع وكثيرون منهم عاطلون على العمل. وبرغم ذلك فإنهم أخذوا جزءاً من المصاريف على عاتقهم. كما حصلت الجامعة على دعم مالي من صديقين هما رجل أعمال صغير، وأستاذ جامعي تونسي مقيم في فرنسا، طلبا عدم الإفصاح عن اسميهما، ونتمنى في المستقبل أن يلقى المشروع دعماً مالياً من الدولة، فنحن نرفضُ التمويل من الشركات الخاصة ونرفضُ الإشهار، كي تحافظ الجامعة على استقلاليتها وتبقى بعيدة عن كلّ الأجندات". وأضاف السهيلي أن "ما فوجئنا به فعلاً، هو التبرعات التي قدّمها الأهالي المقيمون في المنطقة (سيدي حسين) رغم أنّنا لم نفتح باب التبرعات بعد، فمثلاً هذه الكتب المعروضة قدّمها أهالي الحي لمكتبة الجامعة”.ترحيب كبير بالمشروع
وتلقى فكرة الجامعة ترحيباً كبيراً في الساحة الثقافية وفي الأوساط الشعبيّة. وقال الناقد والكاتب الصحافي حاتم التليلي لرصيف22: "التدريس هنالك مجاني، مسرح وسينما ومجالات متعددة، ثقافة لا فوقية بل تتجه رأساً الى أبناء الأحياء الشعبية". وقال الروائي التونسي أنيس بن رجب العبيدي: "أنا مع كل مبادرة تتوجه مباشرة إلى الكادحين والمنسيين الذين هم ضحايا نظام ليبرالي متوحش يجوّعهم ويجهّلهم ويحكم عليهم بالإقصاء. "برافو" لنصر الدين السهيلي ومن معه. آمنوا بأن الثقافة هي عمل ميداني خارج الأطر النمطية المحددة من السلطة والنظام، وحملوا على عاتقهم هاجس الثورة الثقافية التي لم نعشها بعد ولم نسعَ إلى تحقيقها أو إشعال شرارتها وبقينا منتظرين أن تُهدى لنا". كما لاقت الفكرة ترحيباً كبيراً لدى سكّان المنطقة والأحياء الفقيرة المجاورة. والتقى رصيف22 بالعديد من الأشخاص الذين قدموا للتسجيل في هذه الجامعة. وقال العربي الجزيري، وهو حلاّق في "حي 25 جويلية" القريب: "جئتُ لتسجيل اسمي في الجامعة، واريد اكتشاف الاختصاصات التي تقدّمها لأختار المواد التي سأدرسها. فكرة الجامعة ممتازة في هذه المنطقة خاصة للأطفال والشباب، فنحن لا نمتلك داراً للثقافة، وهو ما يمكن أن يساهم في إنقاذ الكثير من شباب هذه الأحياء من الاتجاه نحو الإنحراف". وقال التلميذ ربيع الرزقي: "أعجبتني الفكرة كثيراً، لأنها ستقدّم الإضافة في هذه المنطقة، كما ستساهم في تنشيط الحي، ومساعدة الأطفال والتلاميذ في دراستهم، وتبعدهم عن ارتياد الأماكن الخطرة. شخصياً سجّلت لتعلّم الرّسم والتزويق". أمّا رحمة الشعلي، تلميذة من الحي، فقد أشارت إلى أنّها جاءت لتتلقّى دروساً في المسرح، وأضافت: "أعجبتني فكرة الجامعة كثيراً، فهذا الحي هو منطقة شعبية تعاني من التهميش والفقر، ونحن نستحقّ أشياء من هذا النوع من أجل التثقيف وانتشال الشباب من الممارسات السيئة كالمخدرات وغيرها ومن أجل توظيف طاقاتنا في الاتجاه الصحيح".رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...