كثيراً ما نسمع مثقفين مصريين يقولون إن كل تراجع في الثقافة المصرية هو بسبب تغلغل الفكر الوهابي في عقول قطاعات كبيرة من المصريين، مؤكدين أن هذا الفكر بدأ في اختراق الدولة المصرية ثقافياً واجتماعياً في منتصف السبعينيات، حين دشّن الرئيس الراحل محمد أنور السادات سياسة الانفتاح الاقتصادي. فهل هذا صحيح؟
شهدت حقبة الانفتاح الاقتصادي هجرة المصريين إلى دول الخليج، وتحديداً إلى المملكة العربية السعودية، وحين عادوا، كانوا محمّلين بالعادات والتقاليد وأنماط التديّن السعودية وبالقيم الوهابية. فاخترقت هذه الثقافة الجديدة الخصوصية الثقافية المصرية وغيّرت ملامحها التي كانت تُميزها.مواضيع أخرى:
السلفية، البروتستانتية الإسلامية؟
التديّن المصري كمزيج من المذهب السنّي والمذهب الشيعي الموروث عن الفاطميين
منذ تلك الفترة والمثقفون المصريون يحذّرون من المد الوهابي السعودي، وما يحويه من أفكار دينية متطرفة بعيدة تماماً عن المجتمع المصري. وتعالت الأصوات التي تطالب بضرورة تشكيل حركة ثقافية مناهضة لهذا المد، وخاصة في الفترات التي شهدت انتشار ظاهرتي "الدعاة الجدد"، و"التكفير"، حتى أن الروائي الكبير جمال الغيطاني أدلى بتصريحات صحافية اعتبر فيها أن المد الوهابي أشد خطورة على مصر من الاحتلال الإسرائيلي.
روابط قوية منذ بداية العشرينيات
رغم الاعتقاد الشائع لدى المصريين بأن المد الوهابي جاء إلى مصر في حقبة السبعينيات، يؤكد أستاذ الفلسفة الإسلامية في جامعة القاهرة الدكتور علي مبروك أن الفكر الوهابي وصل إلى مصر في بدايات القرن العشرين، وليس مع هجرة المصريين إلى الخليج في منتصف السبعينيات. وقال: "بدأ المذهب الوهابي يشق طريقه في جسد المجتمع المصري في النصف الأول من القرن العشرين عبر شخصية بارزة هي محمد رشيد رضا الذي كان أول من أدخل ابن تيمية إلى الفكر المصري. وتبنى رشيد رضا المذهب الوهابي في الفترة التي استشرى فيها الخلاف بين آل سعود والشريف حسين الذي وقف موقفاً مناهضاً للحركة الوهابية في ذلك الوقت".
ويعتبر مبروك أن تبني رشيد رضا، أستاذ حسن البنا مؤسس جماعة الإخوان المسلمين، للمذهب الوهابي "يؤكد الروابط الخفية بين فكر الإخوان والفكر الوهابي". ويلفت إلى أن هذه الروابط توضح لنا "لماذا كانت المملكة العربية السعودية وُجهة الإخوان المسلمين أثناء صدامهم مع الدولة المصرية في الحقبة الناصرية".
وتابع صاحب كتاب "لعبة الحداثة بين الجنرال والباشا": "في تلك الفترة لم يكن للأفكار الوهابية تأثير ملحوظ في المجتمع لأن الإصلاح المصري كان يسير في طريق مختلف يتصدّره تنويريون، ونذكر كتاب "الإسلام وأصول الحكم" للمفكر الشهير علي عبد الرازق، وكانت أفكاره امتداداً للأفكار التنويرية للإمام محمد عبده. فالنخبة المصرية آنذاك كانت تسعى لتحرير الإسلام من استخدامه كغطاء لممارسات استبدادية".
وعن أسباب تجذر النفوذ السعودي الديني الوهابي في المجتمع المصري في حقبة السبعينيات، يقول مبروك: "إن المصريين عندما سافروا إلى دول الخليج، وجدوا أنفسهم أمام مجتمعات تتميز بالثراء البالغ، فتصوروا أن هذا الثراء مرتبط بأنماط التدين والسلوك، أي مرتبط بنمط ثقافي معين، ولم يفسروه بأنه جاء نتيجة لفوائض النفط والصراع الدولي عليه".
ويرى مبروك أن الضعف الثقافي وتراجع دور الأزهر في تلك الفترة، ساهما بشكل كبير في اختراق الفكر الوهابي للخصوصية الثقافية المصرية، مشيراً إلى أن "المال الخليجي، لعب دوراً كبيراً في تغلغل الأفكار الوهابية في مؤسسة الأزهر عبر المنح المالية، وسفر أساتذة الأزهر إلى دول الخليج".
السادات يفتح الأبواب للوهابية
ويقول الشاعر والكاتب محمود قرني: "إن الأنشطة الوهابية التي صاحبت إنشاء الدولة الحديثة في المملكة العربية السعودية كانت شديدة الحذر في العبور إلى مصر لأن حصانة العقل المصري كانت أشد صرامة من أن تعبرها تلك الأفكار، فمصر كانت تمثل القوة العربية الناعمة بامتياز، الأمر الذي ساعد على خلق عقل عربي عام يلتف حول النموذج الحضاري المصري".
لكن صاحب "لعنات مشرقية" يرى أن مجابهة العقل المصري للأفكار الوهابية بدأت تختفي منذ النصف الثاني من السبعينيات "بعد أن أطلق الرئيس الراحل أنور السادات يد اليمين بكل فصائله للتخلص من اليسار القوي، لتنفتح كل الأبواب أمام المدارس السلفية في الفكر الديني".
وعن دور وزارة الثقافة في مقاومة هذا المد يقول قرني إن الأمر يقتضي تطهير وزارة الثقافة أولاً من سلفييها، وثانياً من فاسديها حتى يمكننا التحدث عن شيء اسمه وزراة الثقافة. لا بل يعتبر "أن الأزهر، وفقاً لمنهجه الأشعري، لا يزال يدافع عن الوعي الذي تناسل منه فقه البداوة الذي تتربع على قمته الوهابية".
ويقول المؤرخ الدكتور عاصم الدسوقي: "بعد ارتفاع أسعار النفط في منتصف السبعينيات من القرن الماضي، بدأت المملكة العربية السعودية تبحث عن دور سياسي في المنطقة، ووجدت أن هذا الدور سيتحقق بنشرها للمذهب الوهابي خارج حدودها لتحقق نفوذاً ثقافياً وإيديولوجياً، لذلك راحت تنفق مليارات الدولارات في الكثير من الدول ومن بينها مصر، لكي تخلق دورها المأمول". لكنه يرى أن تأثيرات المد الوهابي على الثقافة المصرية بدأت تتهاوى في الفترة الأخيرة، ويعتبر أن الثورة فتحت أبواب التحرر الفكري أمام المصريين الذين أدركوا هشاشة الفكر الوهابي وفقره أمام الثقافة المصرية التي يصل عمرها إلى 7000 سنة.
ويقول الباحث والكاتب هيثم أبو زيد: "في حقبة السبعينيات، سادت أنماط التدين الشكلي، وتجسد ذلك في ظهور الأزياء الجديدة مثل الحجاب والنقاب والأسدال، وإطلاق اللحى".
وتابع: "أنفقت المملكة العربية السعودية، أموالاً طائلة في مصر لنشر المذهب الوهابي، وكانت تلك الأموال تُنفق على بناء المراكز الدينية والجمعيات الخيرية التي تشتري عقول المصريين مقابل منحهم المتطلبات المعيشية. وفي التسعينيات بدأت تنتشر ظاهرة الدعاة الجدد وهؤلاء الدعاة صُنعوا بأموال الخليج وهم أعلام الوهابية في مصر، وعلى رأسهم محمد حسان، ومحمد حسين يعقوب، وياسر برهامي، ووجدي غنيم".
ويلفت أبو زيد إلى أن الأزهر الشريف أصبح وهابياً، بعد أن تلقى في تاريخه الحديث ضربتين قاصمتين، الأولى في العهد الناصري، عندما فُرض عليه تدريس العلوم المدنية بجانب العلوم الشرعية، الأمر الذي أدى إلى ضعف التعليم الأزهري بسبب كثرة المواد التي يدرسها الطلبة ومن ثم ابتعاده عن دوره التنويري الذي كان يمارسه سابقاً، والثانية في الفترة التي توسع فيها الأزهر في تأسيس المعاهد الدينية في القرى والنجوع، وهذا ما أدى إلى هشاشة دوره الثقافي.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...