قد يكون مرّ الوقت بالنسبة لبعض اللبنانيين/ات، لكنه توقّف لدى كثر عند الساعة السادسة والسبع دقائق من مساء الرابع من آب 2020.
بعد عام على وقوع انفجار المرفأ في بيروت، شُفي عدد كبير من الجرحى وعاد أغلبية السكان الذين تضرّرت منازلهم إليها، إنما أفراد كثر باتوا يعانون من جروح نفسية لم تندمل وندوب لم تُرمَّم بعد.
حالة إنكار
"تمرّ أيام أشعر فيها أنني بخير، إنما تأتي أيامٌ ثقيلة أخرى أتأكد فيها أن لا شيء قادر على إعادتي كما كنت"، هذا ما قالته اللبنانية ساندريلا عازار (28 عاماً) التي تعاني من اضطراب ما بعد الصدمة منذ وقوع انفجار مرفأ بيروت.
كانت ساندريلا في صحيفة النهار تنجز عملها، فوقع الانفجار وأُصيبت، فاضطرت للمشي مسافات طويلة للوصول إلى سيارة تنقلها إلى بيتها.
بعد عام على وقوع انفجار المرفأ في بيروت، شُفي عدد كبير من الجرحى وعاد أغلبية السكان الذين تضرّرت منازلهم إليها، إنما أفراد كثر باتوا يعانون من جروح نفسية لم تندمل وندوب لم تُرمَّم بعد
وعن تفاصيل ذلك اليوم، قالت عازار لرصيف22: "في الأيام الأولى عشت حالة إنكار، كنت أعتقد أنني قوية ورفضت اللجوء إلى معالج نفسي. كل ما كان يراودني من أفكار كان يرتبط بالمقاومة. قررت حينها أنني سأنهض من فراشي في الأيام المقبلة وسأذهب لتنظيف مكتبي والمساعدة في تنظيف الشوارع".
تعافت ساندريلا من جروحها الجسدية وقصدت مكتبها. ومنذ ذلك الحين وهي تلحظ أعراضاً غير طبيعية أبرزها القلق، إذ كشفت أنها بقيت 3 أشهر بعد الانفجار وهي عاجزة عن النوم لمدة ساعة واحدة متواصلة.
بعدها قرّرت ساندريلا عازار اللجوء إلى معالج نفسي في شهر أيار، ومنذ ذلك الحين إلى اليوم، لا تزال ساندريلا تخضع لجلسات أسبوعية للتخفيف من وطأة ما عاشته منذ عام: "آخر شهرين كانوا الأصعب عليّ، كنا نقترب من ذكرى الانفجار وأنا ما زلت بحالة إنكار".
الصدمات قد تستمر لسنوات
"الصدمات النفسية قد تستمر لسنوات"، هذا ما أكده المعالج النفسي علي العطار لرصيف22، شارحاً أن انفجار 4 آب يعتبر صدمة جماعية(Collective (Trauma وأن العارض الأبرز للصدمات التي عقبت الانهيار اللبناني ظهر عبر كثافة الاتصالات بعد الانفجار، والتي تلقتها الخطوط الساخنة المخصصة للحماية من الانتحار في لبنان.
من الشائع أن تزداد الأعراض سوءاً مع اقتراب الذكرى السنوية للحدث الصادم، خصوصاً إذا كان الشخص المتضرر يستخدم التجنّب كآلية للتكيّف.
من جهة أخرى، اعتبر علي العطار أن ارتفاع معدلات الهجرة، خصوصاً بين صفوف الشباب، قد يُفسّر الحالة النفسية السلبية التي يعيشها كثر، وذلك اعتماداً على نظرية Fight or Flight أو "القتال أو الهروب"، التي تنطبق على الفرد حين مواجهته صدمة ما.
وفي الحالة أعلاه، قرر كثر الهرب من صدمتهم، فتركوا لبنان، بحثاً عن فرص أفضل.
أدوية الصحة النفسية... لمن استطاع إليها سبيلاً
تجد مروى (25 عاماً) صعوبة بالغة في تحصيل علاجها، وفق ما تقوله لرصيف22: "لدي خوف دائم من أن أفقد أدويتي، لأنني أعلم كم ستسوء حالتي حينها"، وتُضيف أنها سبق وعجزت عن تأمين علاجها، فتدهورت حالتها ما اضطرها إلى دخول المستشفى.
تُعاني مروى من اضطراب ثنائي القطب، وحالتها ساءت بعد الانفجار الذي تركها مشرّدة دون منزل يأويها.
واللافت أن هذه الشابة بحاجة لمجموعة من الأدوية شهرياً، معظمها بات مفقوداً من السوق بفعل استفحال الأزمة الاقتصادية التي انعكست على القطاع الصحي في لبنان.
وتعد مروى واحدة من اللبنانيين/ات الذين/اللواتي انشغلوا/ن بأزماتهم/نّ المعيشية وأهملوا/ن العلاج النفسي لفترة، لا سيما أنه مكلف جداً.
في المقابل، مع انهيار البلاد وفشل الطبقة السياسية، يعاني العديد من المواطنين/ات من أزمة صحية نفسية دون موارد كافية للتعامل معها، فانقطاع التيار الكهربائي لمعظم الوقت بسبب نقص الوقود يأخذ حصة في الأزمة النفسية أيضاً، إذ إن عدم قدرة الناس على تشغيل المكيّف ليلاً يحرم كثيرين من الحصول على قسط كاف من النوم خلال ليالي الصيف الحارة، لا سيّما أن النوم يعتبر عنصراً أساسياً للصحة النفسية.
"الطلب على المهدئات وأدوية النوم ازداد"
صحيح أن أسعار أدوية الأمراض النفسية والعصبية لم ترتفع بشكل كبير، وفق لائحة الأدوية المدعومة الأخيرة الصادرة عن وزارة الصحة، على اعتبار أن تلك الأدوية تقع ضمن خانة أدوية الأمراض المزمنة، كأدوية القلب والسكري والضغط مثلاً، إلا أن المشكلة تكمن في خلوّ رفوف الصيدليات بشكل شبه تام منها، إذ تكاد تكون الكلمة التي تتردد على مسامعنا في معظم الصيدليات: "مقطوع".
في حديثه مع رصيف22، أكد حسن مقبل، مندوب الدعاية الطبية لإحدى الشركات، أن تلك الأدوية تصل إلى بعض أصحاب الصيدليات بكميات محدودة جداً، بينما لا تصل بتاتاً لصيادلة آخرين.
تكاد رفوف الصيدليات تخلو تماماً من أدوية الصحة النفسية، وإن وُجدت، فالتهديد برفع دعم الدولة اللبنانية عنها يرافقها يومياً، هذا عدا جلسات العلاج النفسي، التي باتت تسعيرتها مرتبطة بسعر صرف الدولار اليومي في السوق السوداء
وتابع بالقول: "صحيح أن تلك الأدوية سعرها لم يرتفع، ولكن أغلب اللبنانيين يعمدون إلى تأمينها من الخارج عبر طلبها من مغتربين عائدين إلى لبنان، أو عبر شركات أدوية في الخارج تؤمن الدواء وتشحنه إلى لبنان، وبالتالي هم يدفعون كلفته بالدولار الـfresh، أي وفق سعر صرف السوق السوداء".
من جهة أخرى، أشار مقبل إلى أن "الطلب على أدوية الأعصاب لا سيّما المهدئات والمنوّمات، ارتفع بشكل لافت، وذلك منذ بدء الأزمات في لبنان، والتي تضاعفت بعد انفجار 4 آب".
واللافت أن كل ذلك يرتبط بأولئك الذين يقومون فعلاً بزيارة طبيب/ة أو معالج/ة نفسي/ة، في حين لا تزال فكرة زيارة عيادة نفسية أو تناول أدوية عصبية تعتبر "تابو" لدى بعض الأشخاص في لبنان.
باختصار، في بلد يستوجب فيه علاج سكّانه نفسياً بسبب قساوة ظروفه، تكاد رفوف الصيدليات تخلو تماماً من أدوية الصحة النفسية، وإن وُجدت، فالتهديد برفع دعم الدولة اللبنانية عنها يرافقها يومياً، هذا عدا جلسات العلاج النفسي، التي باتت تسعيرتها مرتبطة بسعر صرف الدولار اليومي في السوق السوداء، وبالتالي تحوّل العلاج النفسي في لبنان إلى "ميزة" لا يحصّلها إلا أصحاب الدخل المرتفع.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...