"بلغنا اليوم مرحلةً، نرسل فيها أبناءنا إلى المدارس العمومية، ونحن على يقين بأنها لن تقدّم لهم المستوى المعرفي المناسب الذي يتلاءم مع التغيّرات الحاصلة في العالم. ينتابني الخوف على مستقبل أبنائي، كلما وطئت قدماي مدرستهم، حيث القاعات مهترئة، ولم تُعد تهيئتها منذ عقود، والطاولات متواضعة، وبعضها مكسور، وعشرات التلاميذ يتكدسون في الفصل الدراسي ذاته. لا قاعات مجهزة بالحواسيب، ولا شبكة إنترنت في عصر تغزو فيه التكنولوجيا العالم، ولا نوادٍ إعلامية، أو ثقافية، أو ترفيهية، كفيلة بتنمية المواهب".
بصوت تملؤه الحسرة، تحدثت ألفة الطياحي، وهي عاملة في مصنع في محافظة القيروان التونسية، وأم لطفلين في المرحلتين الابتدائية والإعدادية، موضحةً على طريقتها، تفاصيل أزمة التعليم العمومي في تونس، الذي يعيش على وقع مشكلات تفاقمت منذ سنوات، في ظل فشل الدولة في إيجاد الحلول الناجعة.
بعد أن كان التعليم العمومي في تونس يقوم على مبدأي المجانية والجودة، أصبح اليوم يواجه خطر فقدان كلي الميزتَين.
تدرك ألفة، كما تقول لرصيف22، أن أبناءها يرتادون فضاءً مدرسياً لن يمكّنهم من المضي نحو التميّز، لكنها لا تملك إمكانات إدخالهم إلى مدرسة خاصة، تتوافر فيها الضروريات، والكماليات، للنجاح. تضيف: "أكابد من أجل توفير معلوم الدروس الخصوصية، عسى أن تدعم ما يتلقون في المدرسة، على الرغم من أنها تجري بطرق غير لائقة، إذ بات المدرّسون يجبرون التلاميذ على هذه الخطوة، عبر إيلاء الاهتمام داخل المدرسة لمن يقبلون على الدروس الخصوصية، وإهمال البقية".
هذه العقبات أجبرت ألفة، وغيرها من أولياء الأمور في تونس اليوم، على الوقوف أمام خيارين: إما تعليم عمومي شبه مجاني بجودة محدودة، معاضد بدروس خصوصية، أو تعليم خاص ذو جودة، ولكنه باهظ الثمن. "علينا أن نكون أغنياء، حتى نوفّر تعليماً جيداً لأبنائنا".
غياب المقومات الأساسية
بعد أن كان التعليم العمومي في تونس يقوم على مبدأين متوازيين، هما المجانية والجودة، أصبح اليوم يواجه خطر فقدان كلي الميزتَين، في ظل اكتظاظ الفصول بالتلاميذ (بين 30 و40 تلميذاً)، وغياب الوسائل التربوية الحديثة، واهتراء البنية التحتية للمدارس، خاصةً تلك الواقعة في المحافظات الداخلية الفقيرة.هي عوامل تدفع الأولياء لدفع ثمن أعلى، للحصول على تعليم ذي جودة لأبنائهم، إما عبر اللجوء للدروس الخصوصية، أو للمدارس الخاصة التي تكون تكاليفها باهظة، وغير خاضعة لأي رقابة، ولا يستطيع السواد الأعظم من التونسيين طرق أبوابها، إذ تبلغ التكلفة السنوية للتعليم الابتدائي مثلاً، بين 1،100 و9،000 دينار (390 و3،200 دولار)، في حين يبلغ متوسط الدخل الشهري للفرد العامل، نحو 650 ديناراً (230 دولاراً).
ويؤيد المدرّس محمد مناعي، الذي يعمل في مدرسة بوعرادة، في محافظة سليانة، ما ذهبت إليه ألفة، محمّلاً الدولة مسؤولية ما آل إليه واقع التعليم العمومي.
وقال لرصيف22: "لا أحد يمكنه أن ينكر تراجع مستوى جودة التعليم في المدارس العمومية، وهذا مردّه تراخي الدولة، على مدار عقود، في التحرك للقيام بإصلاحات حقيقية لهذا القطاع. كيف يمكن الحديث عن جودة التعليم، ونحن نزاول العمل في مدارس بعضها آيل للسقوط، وغالبيتها تفتقر إلى شبكة الإنترنت، وفي قاعات مكتظة بالتلاميذ، وأخرى من دون أسوار تحميها، وتفتقر إلى الحراسة، والماء، وشبكات الصرف الصحي؟".
من إحدى المدارس العمومية في تونس
ويضيف: "نبذل قصارى جهدنا بما يتوافر لدينا، من إمكانات، حتى نحقق مستوى مقبولاً من الجدوى، لكن يبقى ذلك نسبياً، في ظل الظروف التي ذكرتها. هناك الكثير من النقائص التي لا بد أن تتداركها الدولة، حتى يتسنى لنا مزاحمة المدارس الخاصة، وهي بصدد النجاح في استقطاب الأولياء، وهذا مؤسف لأن التعليم العمومي لطالما كان عنواناً للنجاح في تونس".
ويُذكر أن العام الدراسي بدأ منتصف أيلول/ سبتمبر الفائت، مع أكثر من مليونين وثلاثمئة ألف تلميذ/ ة، بزيادة 2.9 بالمئة عن العام الفائت، وحوالي 6،100 مؤسسة تعليمية، و150 ألف مدرّس/ ة، لكن العدد يبقى أقل من احتياجات المؤسسات التربوية، إذ سُجل نقص في عدد المدرسين بـ2،569 معلماً في المرحلة الابتدائية، و3،734 معلماً في المرحلة الثانوية.
وذلك في حين لم تتجاوز ميزانية الوزارة المخصصة للصيانة 324 مليون دينار (114 مليون دولار)، أي بنسبة 4.8 بالمئة من الميزانية الإجمالية للوزارة المقدرة بـ6،743 مليون دينار، وهي ميزانية ضعيفة مقارنةً بأعداد المدارس التي تحتاج إلى التهيئة، والأخرى المطلوب إحداثها لتجاوز معضلة تزايد أعداد التلاميذ.
"كيف يمكن الحديث عن جودة التعليم، ونحن نزاول العمل في مدارس بعضها آيل للسقوط، وغالبيتها تفتقر إلى شبكة الإنترنت، وفي قاعات مكتظة بالتلاميذ، وأخرى من دون أسوار تحميها، وتفتقر إلى الحراسة، والماء، وشبكات الصرف الصحي؟"
فجوات "خطيرة"
على الرغم من أن الأرقام الرسمية تُظهر تطور نسبة "التمدرس" العامة، إلا هناك جملة من المشكلات لا يتم طرحها عمداً، على الرغم من خطورتها، ويتم حجبها بالتركيز على زيادة عدد التلاميذ.حسب دراسة نشرها منتدى الحقوق الاقتصادية والاجتماعية في أيلول/ سبتمبر الفائت، فإن نسبة "التمدرس" تنخفض عند شرائح عمرية يفرض القانون إجبارية تعليمها. فبالنسبة إلى الأطفال في عمر الست سنوات، بلغت نسبة الانخفاض 5.99 بالمئة، وانخفضت إلى 4.95 بالمئة عند الشريحة العمرية 6-16 سنة، والتي يفرض عليها القانون مبدأ إجبارية التعليم، فيما بلغت حوالي 9.81 بالمئة بالنسبة إلى الشريحة العمرية 12-18 سنة. وتعلل الدراسة هذه الفوارق، بصعوبة تطبيق مبدأ إجبارية التعليم.
من إحدى المدارس العمومية في تونس
وحسب الدراسة، فإن الفوارق تُسجَّل أيضاً بين الجهات، إذ ترتفع نسبة "التمدرس" عند الشريحة العمرية 6-16 سنة، في المحافظات الساحلية، مقابل تراجعها في المحافظات الداخلية، وهو ما يفسر ارتفاع نسبة الانقطاع المدرسي في تلك المحافظات التي تعاني الفقر، والهشاشة، وعدم القدرة على مواكبة متطلبات العملية التربوية مادياً.
وتتضخم أعداد المنقطعين عن الدراسة في مستويات التعليم كلها، إذ بلغ معدل انقطاع التعليم الأساسي والثانوي، مئة ألف منقطع سنوياً، وسُجل نحو مليون منقطع، بين سنتي 2010 و2019.
يتجه التونسيون، منذ سنوات، بنسق تصاعدي، إلى المدارس الخاصة، بحثاً عن ميزات لم تعد توفرها المدرسة العمومية.
الناطق الرسمي باسم المنتدى، رمضان بن عمر، رأى أن منطق اقتصاد السوق، والتوجه التدريجي نحو "سلعنة" خدمات التربية والتعليم، يمثل أحد أهم مظاهر أزمة المنظومة التربوية التونسية، لارتباطه الوثيق بانتهاك مبدأ الحق في التعليم، وتراجع جدوى الاستثمار في التعليم، ومردوديته.
ويقول لرصيف22: "أصبحت مخرجات المنظومة التربوية، اليوم، لا تنتج في الغالب إلا المنقطعين، والعاطلين، والحالمين بالهجرة، كما أصبحت المدرسة أداةً لإعادة إنتاج المنظومة الاجتماعية القائمة على التفاوت والظلم الاجتماعيين، وفقدت قدرتها على تزويد المجتمع بالإطارات ذات الكفاءة العالية، القادرة على معالجة مختلف الأزمات التي تتخبط فيها الدولة. بذلك تحولت المدرسة من أداة للارتقاء الاجتماعي، إلى أداة لتخريج العاطلين والفاشلين، وأصبح الاستثمار في التعليم يفضي إلى الفقر والتهميش، وتراجعت قدرته في تنمية البلاد".
التعليم الخاص يتمدد
ويتجه التونسيون، منذ سنوات، بنسق تصاعدي، إلى المدارس الخاصة، بحثاً عن ميزات لم تعد توفرها المدرسة العمومية، على غرار الوسائل التكنولوجية الحديثة، واتّباع نظام تعليمي وتربوي متجدد، فضلاً عن عدم اكتظاظ الفصول بالتلاميذ.واختار الذهبي قادري، وهو موظف من محافظة سيدي بوزيد، ووالد لثلاثة أطفال في المرحلة الابتدائية، أن تكون المدرسة الخاصة هي حاضنة أبنائه للتعليم هذا العام، على الرغم من الضغوط المادية التي فرضها هذا الخيار، لكنه أصبح موقناً بأن المدرسة العمومية لم تعد الوجهة المثالية الكفيلة بتقديم تعليم ذي جودة، فضلاً عما أسماه "انتهازية بعض المعلمين".
من إحدى المدارس الخاصة في تونس
ويقول القادري لرصيف22: "عندما قمت بعملية حسابية، وجدت أن التعليم العمومي المجاني أصبح كذبة كبيرة، نظراً للارتفاع الكبير لتكاليف الدراسة، خاصة في ما يتعلق بالدروس الخصوصية، التي أنهكت كاهل الأسر، بسبب انتهازية معلمين يجبرون التلاميذ على تلقّيها، بل ويعمد بعضهم إلى تقديم الأجزاء المهمة من الدروس خارج ساعات الدراسة اليومية، غير عابئين بالظروف المادية للأهالي، الذين يضطر بعضهم إلى التديّن، من أجل تأمين كلفة الدروس، أو يعجز بعضهم، فيدفع التلميذ الثمن ويكون مهدداً بالرسوب، هذا من دون أن أنسى البنية التحتية المهترئة في معظم المدارس".
وتُعدّ الدروس الخصوصية معضلة تتفاقم سنوياً، في تونس، على الرغم من صدور شروط عدة لتنظيمها، في السنوات الأخيرة. مثلاً، ضبطت وزارة التربية والتعليم معلوم الدروس الخصوصية للمادة الواحدة بـ40 ديناراً (14 دولاراً)، كحد أقصى، لكن لم يتم العمل بهذه القاعدة، إذ يفرض كل مدرّس التعريفة التي تناسبه، والتي تتراوح حسب شهادات عدد من الأولياء، بين 80 و300 دينار للتلميذ الواحد، شهرياً.
"عندما قمت بعملية حسابية، وجدت أن التعليم العمومي المجاني أصبح كذبة كبيرة، نظراً لارتفاع تكاليف الدراسة، خاصة في ما يتعلق بالدروس الخصوصية، إذ يجبر معلّمون التلاميذ على تلقّيها، بل ويعمدون إلى تقديم الأجزاء المهمة من الدروس خارج ساعات الدراسة اليومية"
وعلى الرغم من وعود وزراء التربية كلهم الذين تداولوا المنصب، بالتصدي لهذه المعضلة، إلا أنها لم تثنِ المدرسين عن مواصلة تقديم الدروس بأسعار مرتفعة. وأمام هذا الوضع، أعلنت الوزارة أنها ستعتمد عقوبة الحرمان من أجر ثلاثة أشهر، للمدرّسين الذين يتمسكون بإجراء دروس خصوصية، خارج المدرسة، وأنها ستشدد العقوبة، في حال استمر الوضع هكذا. ولكن، لا يبدو أن شيئاً سيتغير، لأن هذه السياسة تتكرر منذ سنوات، في حين أن الظاهرة تتفاقم، بدل أن تتراجع.
"هذه العوامل كلها، دفعتني للتوجه إلى المدرسة الخاصة، حيث أكون مطالباً بدفع أقساط محددة، ولكن أجد في المقابل تعليماً جيداً لأبنائي، ولا يضطرون إلى الشعور بالنقص أو بالتمييز، مع معلمين يفكرون في جيوبهم، على حساب رسالتهم كمربّين، إلى جانب فضاء مدرسي لائق يشجعهم على الدراسة. صحيح أن الأمر مكلف، خاصةً لموظف بسيط مثلي، لكن مع احتساب معلوم الدروس الخصوصية المفروضة في المدارس العمومية، فإن التكلفة متقاربة"، يضيف.
وتبدأ رحلة التونسيين مع التعليم الخاص، منذ مرحلة التعليم ما قبل المدرسي، التي يكاد يحتكرها القطاع الخاص الذي يستحوذ على أكثر من 99 بالمئة من رياض الأطفال. فيما تضاعف عدد مؤسسات التعليم الخاص في المرحلة الابتدائية، من مئة ومؤسستين خلال السنة الدراسية 2009/ 2010، إلى 600 مؤسسة في السنة الدراسية 2019/ 2020، كما ارتفع عدد التلاميذ في الفترة نفسها، من 21،509 إلى 97،843 تلميذاً، حسب دراسة المنتدى المذكورة.
ومن المرجّح أن يتزايد هذا العدد، في ظل تراخي الدولة عن إصلاح التعليم العمومي، ومساعي التعليم الخاص لاستغلال حالة الضعف التي يمر بها نظيره العمومي، لاستقطاب أعداد واسعة من التلاميذ.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...