"اللجوء إلى تعليق الدروس ومكوث التلاميذ في بيوتهم دون تأمين التعليم عن بعد أو بأي آلية أخرى، مُربك ومُحبط لنا كأولياء أمور نبذل قصارى جهدنا من أجل تعليم أبنائنا، ومُخجل بالنسبة لدولة أثبتت عجزها وفشلها في التعاطي مع هذه الأزمة".
بهذه الكلمات تحدثت منية السعيدي، من محافظة المنستير في الساحل التونسي، وهي أم لطفلين في السنة الثالثة والأولى من التعليم الابتدائي، معبرة عن استيائها من قرار وقف الدروس الذي أعلنته الحكومة التونسية منذ أيام، بسبب تفشي فيروس كورونا.
وتضيف السيدة الثلاثينية: "تقبّلنا على مضض نظام الأفواج رغم عدم فاعليته، لا سيما على مستوى التحصيل المعرفي الذي تراجع بسبب تعديل البرامج وحذف بعضها، لنتفاجأ بالانقطاع عن الدراسة مجدداً. كيف تقدم سلطات الإشراف على هذا القرار وهي تدرك أن الأمر لا يستقيم تربوياً؟ فأداء الأطفال يتراجع، ونسيان ما تعلموه وارد عندما يطول انقطاعهم عن فصول الدراسة، ومهما حاولت الأسرة التدارك فإن ذلك لا يمكن أن يعوّض. أنا فعلاً مستاءة مما جرى ولا أدري كيف ستكون حصيلة هذه السنة الدراسية".
وكانت السلطات التونسية قد قررت في السابع عشر من نيسان/أبريل الجاري تعليق الدروس في كافة المدارس والمعاهد الثانوية، واعتماد التعليم عن بعد في الجامعات لمدة أسبوعين، وهي قرارات اتُخذت بعد أن شهدت البلاد موجة ثالثة عنيفة من انتشار الفيروس، وقدّر الأطباء الوضع "بالخطير"، لا سيما في ظلِّ بلوغ كل مشافي البلاد أقصى طاقة استيعابها. ووصل إجمالي الإصابات منذ بداية الجائحة لأكثر من 300 ألف، منها حوالي 10 آلاف في الوسط المدرسي بين مدرسين وتلاميذ ومشرفين وإداريين، وإجمالي الوفيات لأكثر من 10 آلاف.
لاقت القرارات التي اتخذتها الحكومة التونسية فيما يتعلّق بالتعليم انتقادات واسعة من الأولياء والمدرسين وحتى الطلبة.
انعكاسات وخيمة
رغم خطورة الوضع الوبائي إلا أن القرارات التي اتخذتها الحكومة فيما يتعلّق بالتعليم لاقت انتقادات واسعة من الأولياء والمدرسين وحتى الطلبة، معتبرين أن إقرار تعليق الدراسة للمرة الثانية في غضون أربعة أشهر ستكون له انعكاسات وخيمة على مستوى التحصيل المعرفي وترسيخ المعارف لدى التلاميذ، لا سيما وأن تونس تعتمد منذ العودة المدرسية لهذه السنة نظام الأفواج يوماً بيوم، والتخفيف من البرامج الدراسية بالحذف أو التعديل. وتسود مخاوف من ألا يتمكن التلاميذ والطلبة من تحصيل ما خُصّص لهذه السنة الدراسية من محاور ودروس.
ولا يبدو أن السلطات التونسية قد استعدت لوجستياً لهذا الوضع الاستثنائي، وهو ما جعلها تتجه لاتخاذ الإجراءات الأسهل في ظل إدراكها لاستحالة ربط كل التلاميذ والطلبة بالتعليم عن بعد. فحسب استطلاع للرأي أنجزته وزارة التربية في تونس مؤخراً، فإن 51% من تلاميذ التعليم الإعدادي والثانوي لا يمتلكون أجهزة هواتف ذكية أو حواسيب متصلة بشبكة الإنترنت، وترتفع النسبة إلى 70% لدى تلاميذ السنوات الابتدائية.
مصدر الصورة: مواقع التواصل الاجتماعي
وانتقد كريم عبد اللاوي، وهو مدرس بإحدى معتمديات سيدي بوزيد، الخطوات التي أقدمت عليها الحكومة، معتبراً أن الانقطاع المتكرر للدروس له تبعات وخيمة على أكثر من صعيد.
وقال في حديث لرصيف22: "نظام الأفواج والانقطاع المتكرر أديا إلى تدني التحصيل العلمي للتلاميذ فضلاً عن الانعكاسات السلبية على مستوى النتائج، دون أن ننسى المستوى التربوي إذ لم يتسنّ له استكمال البرنامج. كما أن نظام الأفواج غيّر نمط التعليم وأصبح المعلم ينتهج التلقين من أجل تحصيل أكبر قدر ممكن من الدروس، وهذا له تبعات سلبية آنية وبَعْدية بالنسبة للتلاميذ، لأن هذه الطريقة لا تحفزهم على التفكير".
وأضاف بأن سحب بعض المحاور من برامج الدراسة أحدث إخلالاً معرفياً لدى التلاميذ، وكرّس اللامساواة والهوة الشاسعة بين العائلات الميسورة التي بإمكانها تنظيم دروس تدارك لأبنائها لتجاوز مشكلة المحاور المحذوفة، والعائلات محدودة الدخل التي بقيت عاجزة أمام حال أبنائها.
وحمّل الدولة المسؤولية فيما آلت إليه الأوضاع لأنها لم تولِ ــ حسب تقديره ــ وزارة التربية والتعليم ووزارة التعليم العالي والبحث العلمي الأولوية في ميزانيتها، حتى يتسنّى لها توفير المعدات التقنية اللازمة للتلاميذ والطلبة لمواجهة مثل هذه الظروف الاستثنائية بفاعلية أكبر، وتجنّب الخسائر الحاصلة حالياً، ولأنها لم تعمل على بعث شبكة إنترنت تغطي كامل البلاد حتى يتسنّى اعتماد التعليم عن بعد للجميع، كما هو حال بقية الدول التي تولي التعليم الأهمية التي يستحق بدل اللجوء إلى الانقطاع كل مرة.
نرفض الدراسة عن بعد
طلبة التعليم العالي لم يكونوا أفضل حالاً من تلاميذ المدارس والمعاهد الثانوية، فرغم إقرار تطبيق التعليم عن بعد بالنسبة لمؤسسات التعليم العالي، إلا أن هذا الخيار كشف عدم تكافؤ الفرص بين الطلبة على مستوى امتلاكهم لأجهزة الحواسيب والهواتف الذكية التي تمكنهم من متابعة الدروس عن بعد، فضلاً عن عدم توفر شبكة الإنترنت في جميع مناطق البلاد، وبالتالي عدم تمكن عدد هام من الطلبة من متابعة الدروس.
لم تولِ الحكومة التونسية وزارات التعليم الأولوية في ميزانيتها، حتى يتسنّى لها توفير المعدات التقنية اللازمة للتلاميذ والطلبة لمواجهة هذه الظروف الاستثنائية بفاعلية أكبر، ولم تعمل على بعث شبكة إنترنت تغطي كامل البلاد حتى يتسنّى اعتماد التعليم عن بعد للجميع
هذا الوضع تؤكده إسلام دغسني من محافظة قابس، وهي طالبة بالمعهد العالي للدراسات التكنولوجية بزغوان، ولم تكن سعيدة بما تشهده سنتها الجامعية الأخيرة بسبب فشل منظومة التعليم عن بعد، على حد تعبيرها، وللأمر عدة أسباب كما تحدثت في لقاء مع رصيف22.
وتشرح إسلام بالقول: "السبب الأول صعوبة إيصال المعلومات عبر هذه الوسيلة، بمعنى أن تلقي المعلومة حضورياً أكثر نجاعة وسرعة مما هو عليه الحال عن بعد، بل أستطيع القول إن البون شاسع جداً. ثانياً لا يمكن الحديث عن فاعلية التعليم عن بعد نظراً لعدم توفر شبكة إنترنت عالية الجودة في كل الأوقات في كامل البلاد، كما أن جزءاً كبيراً من الطلبة لا تتوفر لديهم الإمكانيات التقنية اللازمة لخوض هذه التجربة، وأعني الحاسوب أو الهواتف الذكية. كان لا بد لسلطات الإشراف تدارك الأمر، لا سيما وأنها اختبرت نظام الدراسة عن بعد العام الماضي عندما أقرت حجراً صحياً شاملاً، وكانت تبعاته وخيمة على الطلبة، إذ رسب عدد هام منهم فقط لأنهم لم يكونوا جاهزين لوجستياً لهذا الخيار".
وأعربت إسلام عن استيائها من غياب مبدأ تكافؤ الفرص حتى بالنسبة للجامعات على مستوى الإمكانيات والتجهيزات، الأمر الذي يجعل فتح بعض الجامعات أمام الطلبة غير القادرين على الولوج للدروس عن بعد بلا فائدة برأيها.
مصدر الصورة: مواقع التواصل الاجتماعي
وكانت وزارة التعليم العالي قد أعلنت عن توفير فضاءات داخل المؤسسات الجامعية لفائدة الطلبة الذين ليس باستطاعتهم النفاذ إلى مضامين التواصل عن بعد، وفتح المبيتات الجامعية للطلبة الراغبين في مواصلة الانتفاع بالسكن الجامعي خلال فترة الاعتماد على التعليم عن بعد.
وإسلام ليست الوحيدة الرافضة للتعليم عن بعد، حيث أشار الاستطلاع السالف ذكره أن 93% من الآباء لا يفضلون التعليم عن بعد في ظل الجائحة الصحية، ويشككون في جودة التعليم افتراضياً وفي استفادة أبنائهم من ذلك.
رئيس جمعية الأولياء والتلاميذ رضا الزهروني، انتقد هو الآخر ما ذهبت إليه سلطات الإشراف في التعاطي مع الوضع الوبائي على مستوى المدارس والمعاهد والجامعات، ووصف القرارات بـ"الارتجالية وغير المدروسة".
سحب بعض المحاور من برامج الدراسة أحدث إخلالاً معرفياً لدى التلاميذ، وكرّس اللامساواة والهوة الشاسعة بين العائلات الميسورة التي بإمكانها تنظيم دروس تدارك لأبنائها لتجاوز مشكلة المحاور المحذوفة، والعائلات محدودة الدخل التي بقيت عاجزة أمام حال أبنائها
وقال في حديثه لرصيف22: "يقتضي الوضع الراهن دراسة علمية لكل القرارات المتخذة، يُراعى فيها أساساً عدم المساس بالمكتسبات العلمية للطلاب. ولكن عندما يتم اللجوء اعتباطياً لتعليق الدروس تارة دون توفير إمكانيات الدراسة عن بعد، وتخفيف في البرامج دون مراعاة التسلسل المدرسي تارة أخرى، واعتماد نظام الأفواج حيناً آخر، فلا بد أن نقرّ هنا بأن نتائج الامتحانات لن تعكس المستوى المعرفي الحقيقي للتلاميذ، لأن المواد التي يمتحنون فيها مخفّفة وبالتالي منقوصة".
وأضاف: "كان أمام الدولة سنة كاملة منذ بدء ظهور فيروس كورونا في تونس، لتتدارك الأمر وتستعد لمواجهة الوضع بحلول جدية وعملية، ولكنها أثبتت العكس وفشلت في تأمين الحلول الناجعة في هذه المرحلة الدقيقة المتمثلة في التعليم عن بعد. ولهذا لم يكن أمامها سوى إعلان تعليق الدروس كلما تفاقم انتشار الفيروس، دون الاكتراث لمستوى الضرر الذي لحق بالتلاميذ".
وطالب الدولة بالالتفات جدياً لإصلاح منظومة التعليم برمتها، لا سيما عقب الانتكاسة الكبيرة التي لحقتها بسبب الجائحة، والابتعاد مستقبلاً عن الحلول الآنية والمرتبكة.
ويبلغ عدد التلاميذ في تونس أكثر من مليونين موزعين على أكثر من ستة آلاف مؤسسة تربوية، بالإضافة إلى أكثر من 155 ألف مدرس، فيما يبلغ عدد الطلبة الجامعيين أكثر من 216 ألف طالب وطالبة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ ساعة??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 21 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون