شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
عباس بيضون وجماليات العدم في

عباس بيضون وجماليات العدم في "الحياة تحت الصفر"

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الاثنين 20 سبتمبر 202110:56 ص

تقول جوليا كريستيفا، في كتابها "ثورة اللغة الشعرية" نقلاً عن مالارميه: "لا يملأ النص وظيفته الخلُقية إلاّ بشرط أن يكثّر حقائقه، ويشظّيها، ويموسقها...". ولعلّ شِعرَ عبّاس بيضون، بل أعماله الشعرية المتوالية، على مدى خمسين عاماً، يسير على نهج فريدٍ وسمتٍ لا ينازعه فيه أحد، حيث الشعر هو الفائض الوحيد.

وهو عصارةُ النفس ومادّتها، وعنوانُ اشتغالها وخلُقيتها، على قولة كريستيفا، مضافاً إليها كلّ آليات التلفّظ والتواري، والتعاكس، والتكثير، والترسيم، وتوقيع الأصوات، وتعمية الفضاءات، والتظليل على كائنات، والإضاءة على أخرى، وغيرها، مما قد تكشفها القراءات المتأنية، وتصنع جمالياته "الاستبطانية" البديلة عن شعر الخارج، عنيتُ شعر الجملة، وبدعة اللقية، والصور الشعرية المفرّقة، ومعجم فريد أو دقيق، أو غيرها.

"الحياة تحت الصفر"

في كتابه الجديد (2021) الصادر عن دار نوفل، بعنوان "الحياة تحت الصفر"، يخطّ عباس بيضون، الشاعر والروائي، مساراً فرعياً جديداً، في مسيرته الشعرية الطويلة، عنوانها، بل منطلقها، حالة العزلة القسرية التي عاشها، كما سائر اللبنانيين، وشعوب العالم، بسبب جائحة كورونا التي لا تزال تحصد أرواح الضعاف والمهمشين وذوي العاهات.

في كتابه الجديد (2021) الصادر عن دار نوفل، بعنوان "الحياة تحت الصفر"، يخطّ عباس بيضون، الشاعر والروائي، مساراً فرعياً جديداً، في مسيرته الشعرية الطويلة، عنوانها، بل منطلقها، حالة العزلة القسرية التي عاشها

لدى قراءتي الثانية للكتاب، أقول، شأنَ أيّ قارئ، إنّ مضمون القصائد لا يمكن أن يدرج في وصف حالٍ جماعية أو شعورٍ عام. وتلك أولى سمات الشعر التي تفرّقه عن الخطاب العادي والكلام الوصفي بعبارات ذات دلالة واقعية يحيل عليها كلّ امرئ، قصد التمرئي واستدراك ملامحه في عيون آخرين.

في القصيدة الأولى، بعنوان "منفيّ الى غرفتي" يباشر الشاعر في تظهير مناخاته القاتمة أو خلفيات لوحاته الشعرية، من دون أيما كلل؛ إذ يروي مآل نفيه الى غرفته، وانكسار ذاته، وسيلان الموت واجتياحه كلّ كائنات الغرفة، وتحويله مسرح الكائن الجوّانيّ الى خواءٍ مطلق، ومعرض للموتى المصبّرين في المنصّات، "وكانوا أمس كتباً"، وكانوا أيضاً قامتي التي منحتها للشتاء/ وشبحي الذي لم ينهضْ من السّرير".

هي سيولة الأشياء، وضبابيّة الزوايا، ورماديّة الأوقات، معطوفة على الصوَر المتناسلة من مشهدية الغرفة، وانعزال الكائن الهارب من الوباء القاتل، يذهب بها الشاعر الى أقصاها، أي إلى اجتراح لوحة الموات الكبرى، يصير فيها الناطق المنعزل "شبح نفسه، ومعتقلاً في جسمه وحاملاً ذاتاً كسيحة يجرّها أمامه، منسحباً الى السرير، ويعدّ خمسة وسبعين عاماً".

وفي قصيدة "النحّات" المهداة الى آدم حنين، محاكاةٌ شعرية للنحت؛ أو رسم خطوطٍ فارقة بين كيان الذات المتألّمة فراقاً وخيانةً وأكاذيب، وبين "هذا الرجل الصغير/ الذي صنع منحوتات صغيرة/ بأحجام غرفته/ حملها في جيبه/ ونصبها أكبر من الجبال".

ومن أجل تلك المحاكاة، على منطوق أرسطو، يحيلنا الشاعر على معجم الأحجام، (الرجل الصغير، أحجام غرفته، تماثيل قصيرة، الخ)، معطوفة على معجم مقاييس المكان (فوق نافذته، الأرض، باريس، مصحّ، منزل، الجبل)، ويفلح في الإيحاء بمنحوتة كلامية تخرّج صورةً مثلى عن النحّات، صديق الشاعر المحتفى بذكراه.

إلاّ أنّ الشاعر بيضون لا يترك محاكاته تلك من دون أن "ينقش" خيباته وآلام خياناته، في تضاعيف عالم (أنصاب ضخمة، ومبانٍ وشوارع) جهد في تأثيثه، بديلاً عن مدن وعوالم باتت ركاماً، وأزمنةٍ صارت موبوءة، يقول:

"ماذا بقيَ منّي في برلين وبيروت
وفي كلّ باءات العالم
سوى ما يستمرّ على الشاشات...
أجدُ حياتي في سوق
لا أحاولُ أن أسحبَ شيئاً من هذا الركام
إنّه موبوءٌ
الوقت موبوء
والماضي يغدو كذلك بالتدريج..."

"ماذا بقيَ منّي في برلين وبيروت

وفي كلّ باءات العالم

سوى ما يستمرّ على الشاشات...

أجدُ حياتي في سوق

لا أحاولُ أن أسحبَ شيئاً من هذا الركام

إنّه موبوءٌ

الوقت موبوء

والماضي يغدو كذلك بالتدريج...".

في ما انتقيه من القصائد العشرين (20) التي تتألف منها المجموعة الشعرية السادسة عشرة، أحاول، قدر الإمكان، تسليط الضوء على استراتيجيات الكتابة الشعرية لدى الشاعر بيضون، وأسعى الى قراءة أهمّ السمات التي باتت تميّز هذه الكتابة، في حقبتها الحالية.

فلئن كان الشاعر سبق له واتّبع استراتيجية استنفاد المعاني والصور الشعرية المبتكرة والغزيرة الى ما يفيض، أحياناً، عن قدرة القارئ على متابعتها وربطها بسياق القصيدة الأعم، فإنّه أستكملها باستراتيجية تحويل المعاني، وإمالة وجهة النظر-التي أتحدث عنها لاحقاً- صوبَ أفق آخر مفاجئ، وكثير الإيحاء والشعرية. وهذا ما يلقاه القارئ، إذ ينتقل به الشاعر بيضون من صعيد توليد الصور الشعرية ومراكمة المشاهد المتراصفة والمتقاطعة، في الظاهر، الى صعيد استخلاص الصور-المفاهيم:

"كما تمرض وجوهنا في المرايا

إذ الوجه لم يعد سوى مفهوم

والعدوى تصل من الكلمات ...

ولكنّ هذا يحتاج الى الخارج

الذي هو أيضاً مفهوم...".

وكأنّ الشاعر يودّ أن يقول إنّ ذروة المحاكاة الشعرية المقصود منها استحضار المحكيّ عنه، بل أقصاها، هي مجرّد "مفهوم" أو فكرة، وأنّ ذلك هو العبث بعينه، أو العدم (المادي) بنفسه.

ولكنّ في قصائد المجموعة الأخرى جماليات لتظهير العدم، وإعلاء النبرة الغنائية ما يكاد يوازي، أو يزيد قليلاً، عما في كتابيه "مدافن زجاجية" و"نقد الألم"، وبغياب البوح فيها. من هذه الجماليات، على سبيل المثال، النفاذ من جدلية "الصفر" الى اليقين بأنه، أو أننا، بات يسير عكس تيار الزمن، وأنّ الكلام الذي "يعاد تسييله" إن هو إلاّ صفر عُلوي، وأنّ ذلك هو "الحياة تحت الصفر".

الشاعر بيضون لا يترك محاكاته من دون أن "ينقش" خيباته وآلام خياناته، في تضاعيف عالم (أنصاب ضخمة، ومبانٍ وشوارع) جهد في تأثيثه، بديلاً عن مدن وعوالم باتت ركاماً، وأزمنةٍ صارت موبوءة

وفي القصائد أيضاً ما يظهّر اختلاجات الكائن، أو "انتصاراته الصغيرة" على الوحدة، والغفلة، ونسيان الزمن، وتناول الأدوية وغيرها. وعليه، يصير الشعر نوعاً من المنبّه البيولوجي إلى البقاء على قيد الحياة، كما يقول الشاعر:

"وأحقق بدون أن أصدّق

انتصاراتي الصغيرة

وهذه القصيدة التي لا أطمع

في أن تسميني شاعراً،

هي فقط معركتي

وسأكون وحيداً معها في الحجرة".

ومثل تلك قصائد يدوّن بها الشاعر، وبحبره العبثي القاتم، نفاذ سلطان المرض والوباء الى الناجين الذين يتخيّلهم هاربين منه في "قوارب المجذومين"، ويروح يتصوّر لهم مصائر هي أدعى الى الجنون منها الى أي شعور آخر.

"ومن هناك

يتحدث الى مجهولين موتى

أمّا الذين يتذكّرون أنهم التقوا

بالحتف مرقوماً على الشاشة

فهم في بلدة أخرى".

وفي قصائد ما قبل الأخيرة، يصطنع الشاعر لنفسه "مرثية مبكرة" في وسط أمواج الموت المتلاطمة، وعبر لوحة أقل ما يقال فيها إنها رؤيوية:

"تتراجع الغيلان الى الشرفة

حيث لن يبقى في النهاية

سوى خفق مراوح غير مرئية

في حجرة النوم".

هذا والكثير غيره، مما لا يتسع المجال لعرضه، ولا سيّما زاوية النظر التي يولّد منها الشاعر أجواءه وصوره المتناسلة، حتّى ليحسب أنّ القصيدة هي بذاتها استعارة كاملة، والمشاهد فروع لجماليات العدم التي أشرت الى بعضها، هذا كلّه مما يستأهل معاودة النظر في عمل الشاعر الجديد.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image