أشعر وكأنني أشاهد فيلماً... بل كأنني في عالم موازٍ، ستأتي لحظة وأستيقظ لأعود إلى عالمي ذاك، الذي كنت أظنه أو أعتبره "راسخاً ودائماً"، لكنه لم يكن سوى "صرح من خيال".
عبارات تدور في رأسي على مدار الساعة، حتّى وأنا أحاول النوم، وهو أمر أعجز عن فعله منذ أسبوع. سقط النظام السوري، وهرب بشار الأسد، وأنا أعيد كل يوم مشاهدة ذلك الفيديو الذي انتشر من دمشق في الخامسة من صباح يوم الأحد، 8 كانون الأول/ ديسمبر 2024، والذي يصيح فيه رجل من فوق أحد الأبنية العالية وسط الظلام ويقول: "الله أكبر. الجبان هرب يا عالم. بشار الكلب. سقط بشار الكلب"، وفي الخلفية، تُسمع زغاريد نساء بينما أنا أشعر بالرجفة.
بين يوم وليلة، تحوّل شكل المدينة والبلد برمّته، بشكل جذري، ربما، غير قابل للعودة.
المشهد الأكثر غرابة بالنسبة لي كان لحظة دخولي منزل بشار الأسد ومكتبهِ، لحظة تجاوز الأبواب دون أي حراسة أو خوف. التقطتُ صورةً للذكرى مع نصف وجه أسماء الأسد. كان النصف الآخر مرميّاً في زاوية قريبة
بعد ساعات من إعلان سقوط النظام ودخول قوات المعارضة المسلّحة إلى دمشق، أخرجتُ رأسي من شباك نافذتي، وسط أصوات إطلاق رصاص شديد لم تتوقّف منذ الرابعة صباحاً. خوف ممزوج بتوق هائل للخروج إلى الشارع، فأنا أعلم أننا نعيش لحظات استثنائية لم أتوقّعها يوماً.
شعرتُ ببعض الغيرة ممن أسقطوا تمثال الرئيس الراحل حافظ الأسد في ساحة عرنوس وسط المدينة مع ساعات الصباح الباكرة والشمس بالكاد تشرق. ودّدت لو تمكنت من المشاركة في هذه "العملية". لديّ ثأر شخصي مع هذا التمثال الكبير، ربما لقباحته المفرطة وهو ينظر إلينا كل الوقت وأينما أدرنا وجهنا؟ ربما، وربما لأنني كلما مررت بجانبه، أتذكّر يوم تجمّعنا في الساحة وسوق الصالحية القريب عام 2011، مئات الشبان والشابات، ونحن نرتدي كنزات بيضاء ونمشي دون أن ننطق بأي كلمة، كتعبير عن رغبتنا السلمية في التغيير في بلدنا. تحت التمثال، جلس عشرات عناصر الأمن بوجوهٍ عابسة وهم ينظرون إلينا، ولا يدرون ماذا يمكن أن يفعلوا، فهذه ليست "مظاهرة" ولا أوامر واضحة بخصوصها. النهاية كانت بالطبع تفريقنا واعتقال العشرات.
في الثانية عشرة ظهراً خرجنا، رائحة البارود تملأ الأجواء، وإطلاق رصاص لا يتوقّف. سيارات كبيرة مموّهة بالأتربة الحمراء قادمة من إدلب وحلب، ومسلّحون منتشرون في الشوارع الرئيسية، وحالة من الفوضى تعمّ المدينة: معظم المحال مغلقة، دوائر حكومية ومخافر شرطة مفتوحة وأشخاص يُخرِجون كل ما فيها من أغراض ومحروقات ويأخذونها، بدلات وخوذ عسكرية ملقاة على قارعة الطريق، مفارز أمنية مكسّرة وفارغة من الجنود الذين اعتدنا رؤيتهم بداخلها، علم الثورة وأُغنياتها مثل "جنة جنة" أو "ارفع راسك فوق أنت سوري حر" تنتشر في الشوارع، وسيارات مدنية تجوب الطرقات احتفالاً.
هل هكذا تسقط الأنظمة؟
المشهد الأكثر غرابة بالنسبة لي كان لحظة دخولي منزل بشار الأسد ومكتبهِ، لحظة تجاوز الأبواب دون أي حراسة أو خوف. اعترتني الرجفة وأنا أسير فوق حطام ما تبقّى من أغراض ومقتنيات شخصية وأوراق وقد اختلطت بالمياه الخارجة من أنابيب مكسّرة في كل مكان، وأنا أسمع الشتائم تنهال على "بشار وأسماء"، وصورهما ممزّقة على الأرض والجميع يدوس عليها، ومن حولي مئات الأشخاص القادمين من كل مكان، ليعيشوا لحظةً لم يكن لملايين السوريين أن يتخيّلونها حتّى في أغرب أحلامهم. في كل خطوة كنت أسأل نفسي: "بهذه البساطة؟ إذاً لماذا حدث كل هذا؟ لماذا دفعنا هذه الأثمان الباهظة خلال 14 عاماً؟". التقطتُ صورةً للذكرى مع نصف وجه أسماء الأسد. كان النصف الآخر مرميّاً في زاوية قريبة.
شعرتُ ببعض الغيرة ممن أسقطوا تمثال الرئيس الراحل حافظ الأسد في ساحة عرنوس. ودّدت لو تمكّنت من المشاركة في هذه "العملية". لديّ ثأر شخصي مع هذا التمثال الكبير، ربما لقباحته المفرطة
في الأيام التالية، بدأ سكان المدينة في الخروج من منازلهم لاستطلاع أحوال المدينة، وعادت الحركة تدريجياً: محال ومحطات وقود تفتح، حملات تنظيف للشوارع مع غياب عمّال النظافة، أشخاص مدنيون ينظمون حركة المرور، والمزيد من السيارات التي تجوب الطرقات بشكل احتفالي. احتفالات خاصّة في ساحة الأمويين أكبر ساحات المدينة، مع رمزيتها لكونها تضم مبنى الإذاعة والتلفزيون ومبنى قيادة أركان الجيش.
رأيت الجميع تقريباً مبتسمين، خائفين لكن مبتسمين. تفاؤل حذر يعم الأجواء.
بدأت بعدها العديد من المظاهر الجديدة تغزو حياتنا: التعامل بالعملات الصعبة علناً وهو أمر كان ممنوعاً ويؤدي إلى السجن، التوفّر التدريجي للمحروقات دون تقنين، الحديث عن تحرّر الشباب من كابوس الخدمة العسكرية الإلزامية، رؤية عناصر الخوذ البيضاء أو الدفاع المدني السوري التابع للمعارضة في شوارع العاصمة دمشق بعدما كان النظام السابق يصفهم بـ"الإرهابيين"، وفود بالمئات من الصحافيين والناشطين الأجانب من كل أنحاء العالم وهو أمر كان شبه محظور خاصةً خلال السنوات الأخيرة، ارتفاع قيمة الليرة السورية التي تدهورت في السنوات الأخيرة إلى مستويات غير مسبوقة ووصلت إلى 15 ألف ليرة مقابل الدولار الواحد في حين كانت قيمته 50 ليرة قبل عام 2011، وانخفاض طفيف على الأسعار.
الأهم من كل هذا، القدرة على فتح أي حديث، بصوت مرتفع، وعلى العلن. كُسرت حواجز الصمت في مملكة الخوف الرهيب "سوريا"، وكأنّنا أزلنا حِملاً ثقيلاً عن كاهلنا. لم أشعر في داخلي بهذه الخفّة منذ زمن طويل. شُيّع جثمان مازن حمادة، الذي قضى تحت التعذيب في سجن صيدنايا السيء السمعة، في جنازة شعبية مهيبة، وكأنما هو تشييع رمزي لكل شهداء سوريا الذين قتلهم "النظام"، وأيضاً للتذكير بقضية عشرات آلاف المخفيين قسرياً والتي لم تُحل بشكل جذري حتّى الآن مع استمرار عمليات البحث عنهم بشكل فوضوي. خلال التشييع، هتف الجميع بكل حرية من أجل "سوريا لكل السوريين"، وطالب المشيّعون بمحاسبة المجرمين وعلى رأسهم الرئيس السابق أو "الرئيس الفارّ" بشار الأسد.
من تشييع مازن حمادة.
كثير من أصدقائي يتحدّثون عن "استعادة المدينة"، والشعور بالانتماء لها مجدداً. لم تعد هناك طرقات مغلقة بحواجز إسمنتية ورجال يرتدون بزات عسكرية يحظرون مرورنا في العديد من الأماكن خاصة مع ساعات المساء. انتهى زمن "ممنوع التصوير"، واحتمالات الاعتقال التعسفي بسبب التقاط صورة عشوائية يمكن أن تزعج رجل أمن ما. استعدنا جبل قاسيون الذي تستلقي دمشق على سفحه، وكان ممنوعاً علينا الوصول إليه منذ عام 2011، "لدواعٍ أمنية"، في حين أنه كان لسنوات طويلاً واحداً من أهم متنفّسات سكان المدينة التي تغيب عنها المساحات العامة. الآن، رويداً رويداً يستعيد سكان دمشق قدرتهم على العمل المدني والثقافي، مع تشكيل عشرات مجموعات العمل في كل مكان، وكأن الجميع كان ينتظر مجرد "صافرة البداية". ما هي قدرة هذه المجموعات على الإنجاز؟ الأيام القادمة ستكون كفيلة بالإجابة.
استعادة أخرى للمكان هي في مشاهد عودة الأشخاص الذين هُجِّروا قسراً إلى الشمال السوري خلال السنوات الماضية، أو إلى خارج البلاد بسبب مواقفهم السياسية أو حتّى الإنسانية المعلنة. أخبرني أصدقاء كثيرون عن احتفالات عارمة لاستقبالهم في منازلهم، وزغاريد ودموع أمهاتهم اللاتي لم يتخيّلن متى وأين يمكن أن يلتقين بأبنائهن من جديد. أنا أيضاً التقيت بعضاً من أصدقائي الذي تركوا المدينة منذ نحو سبع سنوات ولم أرهم منذ ذلك الحين. نظرنا إلى بعضنا وسألنا: "متغيرين؟"، ولم نهتم للجواب.
تدور في رأسي هذه الأسئلة وغيرها في كل لحظة، ممزوجة بخوف وترقّب وأمل. فلا يسعني الآن إلا أن أكون خائفة، ولا يمكنني إلا أن أشعر بكثير من الأمل، فقد "عاشت سوريا وسقط بشار الأسد".
كل هذا ممزوج بالنسبة إلينا بمئات الأسئلة: ماذا بعد؟ كيف سيكون شكل سوريا الجديدة؟ هل ستُشبه كل السوريين؟ هل سيكون لنا أي صوت فيها؟ ماذا عن القصف الإسرائيلي المجنون الذي لم يتوقّف منذ سقوط النظام ودمّر تقريباً كل البنى التحتية العسكرية، والتوغّل الإسرائيلي جنوباً في الجولان؟ ماذا عن الحريات الشخصية والمساحات العامة؟ وحرية التعبير؟ وحقوق النساء؟ والاقتصاد وفرص العمل والتعليم؟ ماذا عن المخفيين قسرياً وعشرات السجون والمقابر الجماعية؟ ماذا عن سلطة القانون؟ هل سنشعر بالأمان في بيوتنا ومدننا؟ أكره أن أخاف من مدينتي، وأحزن لأنني أعرف بأنه في هذه اللحظة، هناك آلاف السوريين الخائفين الذين ربما لم يخرجوا حتّى الآن من غرفتهم، أو أوقفوا أعمالهم مؤقتاً، ولم يروا كل ما يحصل خارجاً. لعلها ضريبة لا بد أن تُدفع حين يحدث تغيير بهذا الحجم.
تدور في رأسي هذه الأسئلة وغيرها في كل لحظة، ممزوجة بخوف وترقّب وأمل. فلا يسعني الآن إلا أن أكون خائفة، ولا يمكنني إلا أن أشعر بكثير من الأمل، فقد "عاشت سوريا وسقط بشار الأسد".
*جميع الصور في المدونة من تصوير زينة شهلا.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Husband let me know -
منذ يومهلا
Husband let me know -
منذ يومهلا
مستخدم مجهول -
منذ يوملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ 4 أيامأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ 6 أياملا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...