شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!
رأيت رجلاً لم يرَ الحبّ بعد... عن مباني روي أندرسن وأفلامه

رأيت رجلاً لم يرَ الحبّ بعد... عن مباني روي أندرسن وأفلامه

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مجاز

السبت 21 أغسطس 202101:38 م

مجاز الحميم، البيوت التي نسكنها فتسكننا


"رأيت زوجاً من المحبين، عاشِقين، محلِقينِ فوق مدينة عرفتْ بجمالها لكنها الآن ركام"

ظلال آب غطتْ طابقين من المبنى، وراء نصف النوافذ ستائر بيضاء، نصفها الآخر عار من الداخل. نافذة واحدة في الطابق الأول مفتوحة فيها كرسي عال لا يجلس فيه أحد. أتأمل المبنى الخاوي، عيناي عينا لص خائب، مرتاحاً في وقوفي مستنداً في كسل على سياج معدني لمطعم بيتزا مغلق، يمرّ كلب أسود يزعجه وجودي فينبح ويسكته صاحبه، ابتسم للكلب وصاحبه وللنوافذ، وأظلّ واقفاً.

مبنى ذهبي أو أصفر، يشبه لونه قشور البطيخ آخر الصيف، اشتراه روي أندرسن Roy Andersson بداية الثمانينيات بنقود قليلة من شقيقين ورثاه عن أبيهما وتركاه مهجوراً. جدّد روي المبنى وحوله إلى استوديو، Studio 24، لإنتاج الأفلام الروائية والأفلام القصيرة والإعلانات التجارية، إضافةً إلى صالة عرض ومكان لحفلات توقيع الكتب وبيت صغير يعيش فيه.

في هذا المبنى صنع روي أندرسن مجموعة كبيرة من الإعلانات التجارية، ومنه عاد إلى إنتاج الأفلام الطويلة مع "أغاني من الطابق الثاني Sånger från andra våningen 2000"، كان قد توقف قبلها عن صناعة الأفلام الطويلة بعد فيلمه الثاني Giliap 1975.

عيناي عينا لص خائب، مرتاحاً في وقوفي، مستنداً في كسل على سياج معدني لمطعم بيتزا مغلق، يمرّ كلب أسود يزعجه وجودي فينبح ويسكته صاحبه، ابتسم للكلب وصاحبه وللنوافذ، وأظلّ واقفاً... مجاز في رصيف22

"رأيت رجلاً كان قد داس على لغم وفقد ساقيه، كان حزيناً، حزيناً جداً"

فوّت شريكي في السكن امتحاناً في قسم الأدب الإنكليزي، أطال النوم ونسينا إيقاظه. أستاذ بليد رصين، يرتدي القميص المقلّم نفسه طول العام، منعه من دخول قاعة الامتحان، إذ وصل متأخراً لاهثاً من الركض في المسار الطويل بين مدخل الجامعة وكلية الآداب. في طريق العودة استأجر من محل في مشروع البعث نسخة مقرصنة من فيلم روي أندرسن "أنت حيّاًDu levande " حضرناه مساء.

فيلم بطيء، بقينا ليومين نتحدث مشدوهين عن برد المشاهد فيه، لقطات طويلة لا تتحرك فيها الكاميرا، ممثلون بيض باهتون لا روح فيهم وممرات طويلة خالية كممرات دوائر الضمان الاجتماعي في بلدان الشمال. أكلنا جالسين على باب مطعم مجاور مضاء بمصباح برتقالي واحد، ثم أعدنا الفيلم وأخذنا فيلمه الآخر "أغاني من الطابق الثاني".

محل الأفلام ما زال في مكانه، صاحبه الودود ما زال يدخن الحمراء الطويلة ويلعب البلياردو وقت الفراغ، ثابت كما نرغب، لكنه بدل موسيقا الصباح التي كان يسمعها بأغان تمجد الجيش.

"رأيت رجلاً أضاع إيمانه"

شرفة عالية تطلّ على محطة صاخبة للقطارات، نسجتْ عليها عنكبوت شباكاً لا أجرؤ على لمسها. أطيل التحديق في شبك العنكبوت المغبش خلف خيط دخان أبيض طويل نفخته من فمي. سحر خفي في مثابرة العنكبوت، لا ألمسه ولا أراه، هذا الدأب على العمل، على إنجاز المهمات والبدء بغيرها... ثم متى ينتهي الطموح هذا ومتى يكتمل الشبك؟ هل تتوقف العنكبوت عن النسج عند التقاعد؟ ماذا تفعل حين لا تنسج؟

لاقى فيلم روي أندرسن الطويل الأول "قصة حب En kärlekshistoria 1970" نجاحاً كبيراً داخل السويد وخارجها. قرر بعدها أن يتوقف عن إنتاج الأفلام، سمى حالته تلك "كآبة النجاح"، تلك الرغبة العميقة في أن تتوقف، أن ترضى بما فعلتْ ثم تترك كل شيء وتمضي في سبيلك.

جرّب الهرب من العمل عدة مرات، وكل هرب دفعه، لأسباب شيطانية مجهولة، إلى الغرق أكثر في صناعة الأفلام. يتوقف فيغرق في التشاؤم ويتذكر حال أبيه، ثم يمرّ وقت يعمل فيه فيجد أنه سجين نفسه، سجين العمل الذي يحب، سجين منتج لا يستطيع تقييمه. يجهّز فيلماً في دماغه ثم لا يستطيع التوقف عن التفكير في تفاصيل المشاهد، لا يقدر على الخروج من فكرة صناعة الفيلم ولا يقدر، في الوقت نفسه، على الخروج من فكرةِ أن الفيلم ربما ليس جيداً.

كان قد قال قبل سنوات إن فيلمه "عن اللانهاية Om det oändliga " سيكون آخر أفلامه وأفضلها. تجاوزت مدة إنجاز الفيلم مخطط الإنتاج، وصار إدمانه على الكحول أكثر وضوحاً. المرافقون لروي قالوا إنهم أحياناً أحسّوا أنه لا يريد إنهاء الفيلم، عارفين مثله بأنه يؤجل قلقه القادم، يؤجل السؤال: ماذا الآن؟ وأين تذهب البطات حين تتجمد البحيرة؟

لاقى فيلم روي أندرسن الطويل الأول "قصة حب 1970" نجاحاً كبيراً داخل السويد وخارجها وهو الفيلم الذي قرر بعده أن يتوقف عن إنتاج الأفلام، مصنفاً حالته تلك بـ"كآبة النجاح"... مجاز في رصيف22

الفيلم قصيدة قصيرة، راوية تحكي ما رأت في مطلع كل مشهد، الكاميرا ثابتة مرة أخرى، مشاهد طويلة وباردة وشخصيات نرى قلقها يقطر من الشاشة أمامنا.

يجرّ القس صليباً ثقيلاً في شوارع مكتظة، في واحد من مشاهد الفيلم. يجلده العابرون، جبينه مدمى وفي كفيه آثار المسامير.

- ماذا يفعل المرء حين يفقد إيمانه؟ يسأل القس ناحباً على باب العيادة.

- آسف، يجب أن ألحق بالباص. يجيب الطبيب..

في لقاء معه بعد عرض الفيلم قال روي إنه ربما سيعمل على مشروع آخر أخير.

"رأيت رجلاً مع ابنته، في الطريق إلى حفلة عيد ميلاد، وكانت تمطر، تمطر كثيراً"

خوف عميق من الفشل يلاحقه ويجعله دقيقاً جداً، مهووساً بالتفاصيل، يستغرق إنجاز المشهد الواحد أحياناً شهراً من العمل المتواصل في الأستوديو، وبعض اللقطات يعاد تنفيذها مئة مرة حتى يرضى بالنتيجة.

يعمل ويداهمه قلق يظلّ يذكره بوالده؛ كان رجلاً قوياً، ملاكماً، حساساً جداً ومجيداً للحكي والمزاح، مدمناً على الكحول لسنوات طويلة، مصاباً بكآبة حاول التغلب عليها بالمشي الطويل وبالصعقات الكهربائية في مصح للأمراض العقلية.

مشاهد الفكاهة السوداء القليلة في الفيلم الأخير فيها من والده، فيها ضياع البالغين الذين يحاولون السيطرة على المشهد، وفيها ذلك اليقين المستبد عند من لا يكترث، نراه واضحاً في مشهد الطفلة التي يشدّ والدها سيور حذائها.

في السابعة عشرة نشر روي نصّين في جريدة محلية، حالماً بأن يصبح كاتباً، نقده القاسي لنفسه وخوفه من الوحدة المرافقة للكتابة منعاه من أن يكمل، لم يجرؤ بعدها على النشر. تفاصيل صغيرة، منها مشاهدة فيلم "سارق الدراجة" لفيتوريو دي سيكا، جعلته يتجه إلى صناعة الأفلام. قبل أن يدخل العشرين قدّم نفسه لمعهد الأفلام السويدية الذي كان قد أنشئ حديثاً.

يساري مشاغب، هدده إنجمار بيرجمان بالطرد بعد سرقته لكاميرات من مخزن المعهد ليصور مع زملائه مظاهرات في السويد تندد بالفصل العنصري في روديسيا.

كطفل لعائلة من الطبقة العاملة ووالد مكتئب، كبر روي مع إحساس بالبشاعة والذنب وحمل الخطايا رافق مجايليه الناجين من الحرب. صناعة الأفلام صارت وسيلته لرؤية الواقع ومعالجته، ولإعادة تقديم الذاكرة والتكفير عنها. الفيلم تفسير روي أندرسن للحياة التي رأى وتفسيره لما يجري أمامه حين يجلس مراقباً صامتاً على كرسيه العالي، مطلاً من النافذة على شارع مكتظ في ستوكهولم.

يعمل ويداهمه قلق يظلّ يذكره بوالده؛ كان رجلاً قوياً، ملاكماً، حساساً جداً ومجيداً للحكي والمزاح، مدمناً على الكحول لسنوات طويلة، مصاباً بكآبة حاول التغلب عليها بالمشي الطويل وبالصعقات الكهربائية... مجاز في رصيف22

"رأيت جيشاً مهزوماً في طريقه إلى سجن الأعداء في سيبيريا"

غامت السماء ظهيرة السبت. الزوار قلائل في الطابق الخامس من دار الثقافة في ستوكهولم، حيث معرض استعادي لخمسين سنة مما قدّم روي أندرسن. مقابلات متلفزة معه ومع فريق الإنتاج، مشاهد من أفلامه وتوضيحات عن الصور والسينوغرافيا وطريقة العمل في الأستوديو، ولقطات قليلة من خلف الكواليس. المعرض هو الأكبر عن المخرج، وعنوانه "عن أن تكون بشراً".

في المعرض تفاصيل عديدة من الأسلوب البصري الخاص بروي. المباني واللافتات ومحطات القطار في أفلامه مجسمات مصنوعة من كرتون وخشب في الأستوديو، يرتب فريق العمل تموضعها أمام الكاميرا كي تبدو حقيقية والممثلون ناس عاديون من الشارع.

لا يرى روي حاجة إلى تقديم أفكاره من زوايا كثيرة ما دام قادراً على إيصالها في صورة ثابتة، متأثراً في ذلك برسامين مثل أوتو ديكس وإدورد هوبر، وكذلك بقصائد سيزار فاييخو. كلّ مشهد لقطة واحدة ثابتة طويلة لا انقطاع فيها، وجوه الممثلين مطلية بالأبيض والكاميرا بعيدة.

على باب دار الثقافة، يعيد مهاجر من رومانيا اللحن نفسه على أكورديون أحمر ناقص المفاتيح. يتوسّد الأريكة الرمادية في الطابق الأرضي إذ يشعر بالبرد. سيدة في الستين تعدل قبّة معطفها، تمرّ به خارجةً من المعرض وترمي نقوداً في قبعته، بإنكليزية نقية تردد الجملة الأولى من فيلم روي الأخير "It's already September.. It's already September".

الاقتباسات من فيلم روي أندرسن الأخير.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard