شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!
جامعة دمشق عند التأسيس... منارة للعلم ونهضة سورية

جامعة دمشق عند التأسيس... منارة للعلم ونهضة سورية

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الجمعة 13 أغسطس 202111:01 ص


كانت جامعة دمشق جوهرة الجامعات العربية، بسجل مذهل وحافل، ضم أسماء أكبر علماء الشرق الأوسط، وساسته، وأدبائه. ولكنها اليوم خارج التصنيف العالمي، وفي أدنى المراتب العلمية. لم تكن كذلك قط في تاريخها الطويل، وفي هذا المقال شرح عن جامعة دمشق في بداياتها، وكيف كانت، وكيف أراد مؤسسوها أن تبقى.

سلطان طموح

انشغلت الأوساط العلمية في دمشق في كانون الثاني/ يناير 1900، بخبر مفاده أنّ السلطان عبد الحميد الثاني يريد إقامة معهد علمي حديث مموَّل من وزارة المعارف. كانت الدولة العثمانية في حاجة ماسة إلى مدرسة طبية جديدة، بسبب شح الكليات المماثلة، إذ لم توجد في أراضيها سوى ثلاث كليات طبية: المعهد الطبي الرسمي في إسطنبول، وكلية الطب في الجامعة اليسوعية في بيروت، والكلية السورية البروتستانتية، المعروفة بعد عام 1920 باسم الجامعة الأمريكية في بيروت. والأخيرتان بدأتا عملهما بصفة تبشيرية منتصف القرن التاسع عشر. كانت تكلفة الدراسة في تلك الجامعات باهظة جداً، ولا يمكن للطالب السوري المتوسط الحال تحمّلها، كما أن الطلاب المحافظين لم يرغبوا بالدراسة على أيدي الكهنة، بالإضافة إلى مشقة السفر، والإقامة بعيداً من الأهل.

كان السلطان عبد الحميد رجلاً شكاكاً بطبعه، عديم الثقة بالغرباء، وتحديداً القناصل الغربيين، والمدرسين الأجانب في بيروت، متهماً إياهم بالتجسس لصالح الدول الأوروبية. كان يقول في مجالسه الخاصة، إن هدفهم الحقيقي لم يكن العلم والمعرفة، بل تفجير الإمبراطورية من الداخل، عبر تلك المدارس والجامعات، التي شجعت روح القومية لدى الطلاب، وتبنت مطالبهم بالإصلاح والتغيير. وضاعفت تلك المدارس نشاطها داخل السلطنة خلال الربع الأخير من القرن التاسع عشر، ففي ولاية سورية، وصل عدد المدارس الباباوية إلى ثمانية، تدرّس 1150 طالباً مسيحياً على حساب الفاتيكان. وكانت هناك اثنتا عشرة مدرسة بريطانية في السلطنة، تستوعب أكثر من 1500 طالب، وسبع مدارس دانماركية، وعشرون مؤسسة أمريكية يعمل معظمها بسلطة دينية، كانت أبرزها جامعة بيروت الأمريكية، بالإضافة إلى ما لا يقل عن أربعين مدرسة روسية، ومدرستين يهوديتين بثلاثمئة مُدرّس، وعشرة آلاف طالب من الطائفة الموسوية.

كانت جامعة دمشق جوهرة الجامعات العربية، بسجل مذهل وحافل، لكنها اليوم خارج التصنيف العالمي، وفي أدنى المراتب العلمية.

بالنسبة إلى السلطان عبد الحميد، شكلت هذه المدارس أرضاً خصبة للتآمر على دولته، وتجنيد الجواسيس والمخربين والخونة، فوجد أنّ الطريقة الفضلى لمحاربة عملها، هي إنشاء مدرسة عصرية في دمشق، تسحب البساط التعليمي من تحتها، وتغني أهل البلد عن الدراسة لدى الأجانب.


معهد الطب العثماني في دمشق

في السابع والعشرين من أيلول/ سبتمبر 1901، أصدر السلطان فرماناً بإنشاء معهد الطب العثماني في دمشق، لتدريس الطب البشري، والصيدلة. أمر السلطان أن يكون التعليم مجانياً فيه، ومفتوحاً لمواطني الدولة العثمانية جميعهم. وبالإضافة إلى العربية والتركية، كان على الطلاب أن يتقنوا اللغة الفرنسية، لأن كتب الطب العلمية جميعها كانت تُدرس بالفرنسية يومها، قبل اقتحام اللغة الإنكليزية مناهج التعليم الطبي في سنوات لاحقة.

حُددت دراسة الصيدلة بثلاث سنوات، ودراسة الطب بست سنوات. وتقرر أن تحمل الشهادات ختم وزارة المعارف العثمانية، وبذلك يحق للخريجين فتح عيادات، وممارسة المهنة في أنحاء السلطنة. كان على من يرغب بالالتحاق بالمعهد الجديد، إبراز شهادة ثانوية معترف بها من السلطات العثمانية، أو أن يكون قد درس المنهاج الرسمي العثماني في مدارس الدولة. وحُددت ميزانية المعهد الجديد بعشرة آلاف ليرة عثمانية سنوياً، أي ما يعادل 230 ألف فرنك فرنسي في حينها. وعلى الرغم من تحذير وزارة المال بأن الخزينة لا تسمح بقيام مشروع ضخم كهذا، أصرّ السلطان على طلبه، وفرض ضريبة على مسالخ الدولة، يعود ريعها لخزينة المعهد الجديد، على أن يباشَر العمل فيه على الفور.

نص فرمان السلطان أن يكون مقر المعهد الجديد في القسم الجنوبي من المستشفى الحميدي في دمشق، بالقرب من نهر بردى، وتكية السلطان سليم، وساحة المرجة، حيث كانت دار الحكومة. وأمر أن تُفتح أبواب المعهد الجديد في الأول من أيلول/ سبتمبر 1903، في الذكرى السابعة والعشرين لجلوسه على العرش. خلال عمليات البناء والتحضير، أصيبت دمشق بوباء الكوليرا الرهيب، فأرسلت الحكومة العثمانية فريقاً طبياً للمعاينة، وتحديد طرق الوقاية. جاء هذا المرض في مصلحة المعهد الجديد، بحكم أن أفضل أطباء السلطنة جاؤوا إلى دمشق، وعاينوا خلال وجودهم، العمل في المستشفى الجامعي، ومعهد الطب خلال مرحلة التأسيس. كان رئيس البعثة طبيباً تركياً يدعى فيض الله باشا، عُيّن عميداً لمعهد الطب الجديد كونه موجوداً في دمشق.

افتُتح المعهد في اليوم المحدد، أمام أربعين طالباً دمشقياً مرتدين بدلات رسمية سوداء، واضعين طرابيشهم الحمراء بكل أناقة واعتزاز، ليكونوا الرعيل الأول من طلاب جامعة دمشق المستقبلية. أما عن المقر، فلم يكن جاهزاً لاستقبال الطلاب، بسبب إصرار السلطان على استعجال بدء العمل، فاستأجر فيض الله باشا مقراً موقتاً في حيّ الصالحية في أحد القصور التابعة لعائلة العظم العريقة. وبقي هذا المقر "الموقّت" الذي هُدم بعد سنوات، مقراً للجامعة السورية حتى انتهاء العمل بمبنى حي البرامكة الرئيسي عام 1913.

في السنوات الأولى من تاريخ الجامعة السورية، كان معظم أعضاء الهيئة التدريسية من العثمانيين الأتراك، مع موظفين محليين كانوا يتقاضون راتباً أقل بكثير من نظرائهم الأتراك، لم يتجاوز الخمسمئة قرش شهرياً. وبلغ عدد مدرسي المعهد الجديد وموظفيه، خمسة عشر شخصاً، بين أستاذ، ومحاضر، ومخبري، ومحاسب، وسكرتير، وعميد.

مؤسسو قسم الجغرافيا بكلية الآداب بجامعة دمشق عام 1946 - المصدر: موقع التاريخ السوري المعاصر

بقي المعهد يعمل بانتظام مدة خمس سنوات من دون توقف، نال خلالها سمعة حسنة امتدت إلى الأراضي السورية كافة. وعندما وصلت الكهرباء إلى دمشق في شباط/ فبراير 1907، كان أول بناء يضاء بالكهرباء، هو جامع بني أمية الكبير، يليه السراي الكبير، ثمّ معهد الطب في الصالحية.

وفي سنة 1908 حصل انقلاب في إسطنبول، أدى إلى خلع السلطان عبد الحميد من العرش، وجاء بجمعية الاتحاد والترقي إلى الحكم. ضربت ترددات الانقلاب مدينة دمشق بسرعة، وكان أول ضحاياها الطاقم التدريسي في معهد الطب، فنظراً إلى خبراتهم العالية، وحاجة الحكومة التركية الجديدة إليهم، طلبتهم جمعية الاتحاد والترقي للعمل في إسطنبول. هذه التغيرات أضرّت كثيراً بمعهد دمشق، خصوصاً أنها حصلت في شهر آب/ أغسطس، أي قبل أسابيع قليلة من بدء العام الدراسي. وبسبب خلو المباني والمخابر من أي سلطة رقابية ذلك الصيف، سُرق عدد كبير من مقاعد المعهد، ومفروشاته، وبدأ المبنى يتآكل، وقد بلغ عمره عشرات السنين.

افتُتح معهد الطب بدمشق في 1 أيلول/ سبتمبر 1903، أمام أربعين طالباً دمشقياً مرتدين بدلات رسمية سوداء، واضعين طرابيشهم الحمراء بكل أناقة واعتزاز، ليكونوا الرعيل الأول من طلاب جامعة دمشق المستقبلية

واجه الاتحاديون الأتراك خياراً صعباً: إما إغلاق المعهد، أو إعادة تأهيله، وقرروا الاستمرار في العمل، لأن الإغلاق سيُضرّ بسمعة العثمانيين ومصالحهم، فأرسلوا مجموعة جديدة من الأساتذة إلى دمشق لإعادة تشغيل المعهد، جميعهم من الضباط الأتراك المتقاعدين، على أن تُدفع رواتبهم من وزارة الدفاع، لا المعارف. وكنوع من إرضاء للمواطنين العرب السوريين، سُمح لهم بالالتحاق بالهيئة التدريسية، مع الإبقاء على منصب عمادة المعهد في يد شخصية تركية.

حافظ المعهد على مستواه العلمي في السنوات التالية، على الرغم من اندلاع نيران الحرب العالمية الأولى عام 1914. حينها أُجبر على الإغلاق فترة قصيرة، لكنه سرعان ما أُعيد فتحه بأمر من حاكم سورية الجديد جمال باشا، ليُغلق مرة ثانية في أيلول/ سبتمبر 1918 عند سقوط الحكم العثماني في دمشق، بعدما كان قد خرّج 211 طبيباً، و247 صيدلانياً.

معهد الحقوق

عام 1913، بدأ التدريس في المعهد باللغة العربية، التي أصبحت اللغة المتبعة لمعظم المواد النظرية. ثم نقلت الحكومة مقر المعهد من الصالحية إلى البرامكة، وفي العام ذاته صدر فرمان سلطاني بإنشاء معهد جديد للحقوق في بيروت، مدة دراسته أربع سنوات، يفتح أبوابه بدءاً من تشرين الأول/ أكتوبر 1913.

كان هذا رداً مباشراً على بدء تدريس القانون في الجامعة اليسوعية، التي افتتحت كلية للحقوق في تشرين الثاني/ نوفمبر من العام ذاته. رفض أعضاء جمعية الاتحاد والترقي أن تأخذ الجامعة اليسوعية شرف بدء تدريس القانون في بلادهم، وأصروا على أن يفتتحوا معهد بيروت بالسرعة القصوى، لسحب الطلاب العرب إليه خلال فترة التسجيل. لكن بسبب اندلاع الحرب الكبرى، وتفشي مجاعة رهيبة في بيروت، نُقل المعهد إلى دمشق بعد عام واحد من افتتاحه، وأعطي مقراً موقتاً في مدرسة قديمة على ضفاف نهر بردى مجاورة لمعهد الطب، أصبحت اليوم مقراً لوزارة السياحة السورية.

مرّت الحرب بقسوة على المعهد الجديد، وفي سنة من السنوات لم يُسجل فيه سوى ثلاثة طلاب فقط، لكن جمال باشا أصرّ على ألا يُغلَق لأي سبب كان، كي لا يعطي الجامعة الأمريكية، ولا اليسوعية، الفرصة للشماتة بالتجربة العثمانية.

طلاب من محافظة السويداء في جامعة دمشق عام 1949 - المصدر: موقع التاريخ السوري المعاصر


التعليم العالي في العهد الفيصلي

انتهت الحرب العالمية الأولى عام 1918 بهزيمة الجيوش العثمانية، ودخل الأمير فيصل بن حسين مدينة دمشق محرراً في الثالث من تشرين الأول/ أكتوبر 1918، ليؤسس حكومة عربية فيها. عُين الفريق رضا باشا الركابي حاكماً عسكرياً على سورية، وأول من زاره كان وفداً طلابياً من معهدي الطب والحقوق، مطالبين بإعادة فتح المعاهد كي يتابعوا دراستهم الجامعية، وكان ثمانية منهم على أبواب التخرج عند سقوط دمشق في يد الحلفاء والجيوش العربية.

بناء على هذا الاجتماع، أمر الأمير بإعادة فتح مدرسة الطب في 23 كانون الثاني/ يناير 1919، وكلية الحقوق في 25 أيلول/ سبتمبر 1919. وشكّلت حكومة الركابي لجنة مؤلفة من ستة أطباء لإعادة تأهيل كلية الطب، وسمّيت في ما بعد "معهد الطب العربي".


ولادة الجامعة السورية

سمّت حكومة الفريق رضا الركابي الدكتور رضا سعيد عميداً لمعهد الطب العربي في دمشق، وعينت عبد اللطيف صلاح من نابلس، عميداً لكلية الحقوق. ولم يُمض الحقوقي الفلسطيني أكثر من تسعة أشهر في سورية، استُبدل بعدها بالدمشقي مسلّم العطار، الذي عمل مع رضا سعيد على وضع النظام الأساسي للجامعة السورية، وبدأ منذ العام 1919 بوضع اسم "الجامعة العلمية السورية" على شهادات كليتي الحقوق والطب، وصدرت بين 1919 و1920 أكثر من أربعين شهادة تحت هذا المسمى.

يشير المؤرخون عادة إلى حزيران/ يونيو 1923 تاريخاً رسمياً لتأسيس الجامعة السورية المعترف بها عالمياً أيام الانتداب، ولكن في الحقيقة بدأ إسباغ صفة "جامعة" عليها منذ عام 1919، ما يجعلها ثالث أقدم جامعات العالم العربي، بعد جامعة القاهرة المؤسسة عام 1908، وجامعة الجزائر التي أُسست بعدها بعام واحد.

أعضاء الهيئة التدريسية بكلية الطب بجامعة دمشق عام 1945 - المصدر: موقع التاريخ السوري المعاصر

صدرت التعليمات التنفيذية، وقوانين الجامعة العلمية السورية عام 1920، مؤلفة من 65 بنداً، مطبوعة على كرّاس ورق رسمي من عشر صفحات. نصّ القانون على أنّه لأي طالب تجاوز السابعة عشرة، ويحمل شهادة ثانوية رسمية من المدارس العثمانية، الحق في الالتحاق بالجامعة السورية من دون امتحان قبول، ومن لا يملك شهادة عثمانية معترفاً بها، عليه التقدم لامتحان شفهي وكتابي، واختيار لغة أجنبية ليُمتحن بها، إمّا الفرنسية أو الإنكليزية، ولديه حق اختيار مواده العلمية، إما الجبر، أو الكيمياء، أو علم المثلثات، أو الأحياء، وكذلك الأدبية، بين التاريخ والجغرافيا. وعلى الطلاب جميعهم إبراز شهادة صحية تثبت أنهم لا يعانون من أي مرض مزمن، جسدي أو عقلي، وعليهم أخذ لقاح ضد مرض الجدري، كما كان عليهم جلب ورقة حسن سلوك من مختار الحي الذي يقيمون فيه، وصورتين شمسيتين حديثتين، لإكمال الطلب.

ودخل النظام في تفاصيل الحياة اليومية للطلاب والمدرسين، فكان التأخير ممنوعاً، ولم يُسمح لطالب بدخول قاعة المحاضرات بعد مرور خمس دقائق على بدء المحاضرة، كما لم يحق للمدرس أن يتأخر أكثر من عشر دقائق، إلاّ في حال وجود عذر رسمي. وكانت الأعذار تقدم خطياً إلى لجنة يترأسها رئيس الجامعة نفسه، مؤلفة من العمداء ورؤساء الأقسام، وفي بداية الدوام، طُلب من الهيئة التدريسية والطلاب التوقيع على سجل الحضور والغياب.

منع القانون التدخين في الحرم الجامعي، والتحدث في الدين، أو السياسة، منعاً باتاً، كما منع التظاهر لأي سبب كان، والاعتصامات، وتوزيع المناشير، والكتابة على الجدران. من يخالف هذه القوانين كان يُطرد فوراً من الجامعة، وكذا كانت العقوبة في حالة السرقة الفكرية والاقتباس، من دون ذكر المراجع المطلوبة في أي بحث علمي.

كان التأخير في جامعة دمشق ممنوعاً، ولم يُسمح لطالب بدخول قاعة المحاضرات بعد مرور خمس دقائق على بدء المحاضرة، كما لم يحق للمدرس أن يتأخر أكثر من عشر دقائق، إلاّ في حال وجود عذر رسمي، وكانت الأعذار تقدم خطياً إلى لجنة يترأسها رئيس الجامعة نفسه


بداية الحكم الفرنسي

عند سقوط الحكومة العربية، واحتلال الجيش الفرنسي دمشق، أبرقت سلطة الانتداب إلى باريس بالقول إنه لا داعي للإبقاء على كلية طب فيها، لأن كليتي الجامعتين الأمريكية واليسوعية تكفيان لسد حاجة سورية ولبنان من الأطباء. فأرسلت باريس طبيباً فرنسياً من الجزائر، لمعاينة وضع كلية الطب، ليكتب الأخير تقريراً مفصلاً للمندوب السامي هنري غورو، مقترحاً تحويل الجامعة السورية إلى مؤسسة تعليمية مشتركة بين الفرنسيين والسوريين، تدار من قبل أطباء فرنسيين، ومساعدين سوريين، وتكون تابعة مباشرة للحكومة الفرنسية. رفض المدرسون السوريون هذا الاقتراح رفضاً قاطعاً، وطالبوا الجنرال غورو بألاّ يقضي على حلمهم، وإنجاز حياتهم، مذكرين بأن الجامعة السورية أصبحت خلال فترة قصيرة واستثنائية، الأفضلَ في العالم الإسلامي كله، مقترحين زيادة عدد المدرسين الفرنسيين فحسب. وافق غورو على الاقتراح، وأمر بالحفاظ على الجامعة.

العقبة الأولى أمام الجامعة السورية في عهدها الجديد، كانت موضوع الاعتراف المحلي والدولي بشهاداتها. الفرنسيون اعترفوا بها على الفور، وقبلوا عدداً من طلابها المتفوقين في باريس لإكمال تخصصاتهم، أما الحكومة البريطانية الحاكمة في فلسطين، فلم تعترف بالشهادات، وكذلك كل من الحكومات المصرية والعراقية والتركية. كان على أي طبيب سوري يرغب بالعمل في أي من هذه البلاد الخضوع لامتحان، بغض النظر عن خبرته العملية أو العلمية، وكان هذا مهيناً جداً للنخبة السورية، ولمدرّسي الجامعة السورية.

كلما كان صوت طلاب دمشق يرتفع، كلما كانت مدة انتظارهم للاعتراف بشهاداتهم حول العالم تطول.

كانت هناك أسباب عدة لهذا التشدد البريطاني، أولها غيرة حلفاء بريطانيا في مصر والعراق من سمعة الأطباء السوريين وجامعتهم الطيبة، وضغط المدرسين في كل من القاهرة وبغداد على الحكومة البريطانية لعرقلة قبول شهادات الجامعة السورية، التي كان يحصد بموجبها الأطباء السوريون الوظائف فور تقدمهم لأي مستشفى، أو مستوصف في العالم العربي. وكان السبب الثاني سياسياً، إذ كان طلاب الجامعة السورية من أشد المنتقدين للاحتلال البريطاني لفلسطين، والداعمين للحراك الثوري الفلسطيني. وكلما كان صوت طلاب دمشق يرتفع، كلما كانت مدة انتظارهم للاعتراف بشهاداتهم حول العالم تطول. ولم تعترف بريطانيا بالشهادات السورية حتى أيار/ مايو 1939، عندما تدخّل الدكتور عبد الرحمن الشهبندر لدى رئيس الحكومة الوطنية في مصر مصطفى النحاس باشا، فأمر بإلغاء التدابير المسبقة ضد خريجي الجامعة السورية. كان هذا بعد 36 عاماً من إنشاء الجامعة.

وفي الأول من تموز/ يوليو 1929، افتتح الدكتور رضا سعيد المدرج الكبير في الجامعة، وبعد عامين دشن المطبعة الرسمية لإصدار المجلة الطبية، ومجلات علمية أخرى، كما وسّع المكتبة لتضمّ 4500 كتاب عالمي بالعربية والفرنسية والإنكليزية، وبدأ بتشجيع المواهب الفنية والرياضية لدى الطلاب، وبتخصيص مبالغ لدعم نشاطهم.

في العام الدراسي 1930-1931، تسجل 81 طالباً جديداً في الجامعة السورية، سبعة منهم من الدمشقيات، أبرزهن لوريس ماهر، التي تخرجت من كلية الطب، وظهرت في صورة تذكارية مع رضا سعيد، وأعضاء الهيئة التدريسية وهي بكامل أناقتها، من دون أي تمييز لها عن رفاقها من الذكور، أو الأساتذة.

دفعة كلية الطب بجامعة دمشق عام 1930 ويظهر في الصورة رضا سعيد ولوريس ماهر - المصدر: موقع التاريخ السوري المعاصر

عند غياب هذا الجيل من المربين الكبار، إما بسبب الوفاة، أو التقاعد، أُغلقت صفحة من حياة الجامعة السورية، وبدأت مرحلة جديدة لم تقلّ بياضاً عن سابقتها. في الخمسينيات مثلاً، نعمت الجامعة بقيادة علمية ووطنية ندر مثيلها في العالم العربي، للأستاذ الدكتور قسطنطين زريق، الذي استثمر الكثير لإرسال طلابه إلى أوروبا الغربية، والولايات المتحدة، لتحصيل علمهم في مجالات مختلفة، منها الطب البشري، ثم جاء بعده الأستاذ الدكتور أحمد السمان أيام الجمهورية العربية المتحدة، الذي عُدّ من أفضل رؤساء الجامعة علماً ومعرفة، ورويت عنه القصة الشهيرة التالية:

في يوم من الأيام جاءته مجموعة من الشبان العراقيين الموالين للرئيس جمال عبد الناصر، والمقيمين في دمشق، بسبب قيامهم بمحاولة اغتيال فاشلة ضد الرئيس العراقي آنذاك عبد الكريم قاسم، وطلبوا الانتساب إلى الجامعة السورية، فرفض الدكتور السمّان طلبهم، ما أثار غضب الطالب صدام حسين، الذي دخل مكتب رئيس الجامعة يستشيط غضباً، سائلاً كيف يُرفض في الجامعة السورية وهو "من رجالات" الرئيس جمال؟ بهدوء مطلق ردّ الدكتور السمان: "إذا رغب الرئيس عبد الناصر فعليه أن يقبلك في جامعة القاهرة! أنا أعتذر، لا مكان لك في جامعة دمشق!". كانت هذه المجادلة في وقت كان الدمشقيون فيه سكارى بجمال عبد الناصر، ولا يردون له طلباً، والناس جميعهم يعملون ألف حساب له، ولجهاز مخابراته المخيف المعروف بالمكتب الثاني. ولكن بالنسبة إلى رئيس الجامعة، كانت سمعة الجامعة، ومستوى طلابها، أهم من رضا الرئيس جمال عبد الناصر.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image