لا يخطر على بال الكثير من أهالي العاصمة السورية دمشق اليوم، بأن من ساهم بشكل بارز في بناء أهم معالم المدينة التاريخية، كقصر العظم وخان أسعد باشا الشهير، وحتى ترميم الجامع الأموي الكبير وغيره، هم ليسوا مسلمين بل مسيحيين احتكروا عدة صناعات وفنون، وأهمها الهندسة المعمارية.
وما يثير الغرابة بأن المؤرخين المعاصرين أغفلوا عن عمد أو بغير قصد، دور هؤلاء المهندسين إلا أن بعض الباحثين ومنهم أ. إلياس بولاد، عمل على جمع الشواهد والوثائق في المؤلفات والأبحاث التي تثبت الدور الأصيل للمعماريين المسيحيين. ويرى بولاد بأنه لا يجب أن تأخذ أبحاثه الموثقة من مخطوطات ومحفوظات وكتب مرجعية من منحى ديني أو طائفي، وإنما من منطلق بحثي وتاريخي للعمارة في دمشق حتى بداية القرن العشرين، كي لا يغيب دور أولئك المهندسين الذين ساهموا في حضارة أقدم عاصمة على وجه الأرض.
لا يخطر على بال الكثير من أهالي دمشق اليوم، بأن من ساهم بشكل بارز في بناء أهم معالم المدينة التاريخية، كقصر العظم وخان أسعد باشا الشهير، وحتى ترميم الجامع الأموي الكبير وغيره، هم ليسوا مسلمين بل مسيحيين برعوا بعدة صناعات وفنون، وأهمها الهندسة المعمارية
فن العمارة الدمشقية بأيد المسيحيين
وعلى الرغم من أن عدد المسيحيين تضاءل ما بين القرنين الحادي عشر والرابع عشر الميلاديين، فإن الصناعات بقيت في أيدي معلميها، ولم يقارب الأعمال الفنية والحرف سوى عدد قليل من المسلمين، وعلى الرغم من أن مسيحيي دمشق أضحوا قلة ما بين القرن الخامس عشر وأحداث 1860 م، بحيث لم يتجاوزوا ثلث عدد السكان، بقوا يحتكرون بعض الصناعات الهامة، ومنها حياكة الحرير، الصياغة، الزخرفة الحديدية، الفسيفساء، فن العمارة، والنقش والنحت على الحجر، بحسب المراجع التاريخية.
وسنحاول في هذا المقال الإضاءة على ما وجده الباحث إلياس بولاد في بحثه "العمارة الدمشقية: جواهر صاغتها أيدي المعماريين المسيحيين الدمشقيين – العمارة الدمشقية قبل وبعد 1860 م"، حسب ما أورده بعض المؤرخين في كتاباتهم، حيث يقول إلياس عبده قدسي الدمشقي، من أعضاء المجمع العلمي العربي بدمشق، في كتابه "نبذة تاريخية في الحرف الدمشقية":
"إن حرفية البنائين والنحاتين الذين جميعهم من المسيحيين لا يعرفون الشّد: (هو من الطقوس المعتمدة في الحرف والحرفيين، يحضرها شاويش الكار، وشيخ الكار والشيوخ والنقيب). ولا لهم علاقة بشيخ المشايخ. فيقيمون فيهم شيخ معلمين، ويضعون روابط لأنفسهم يصونون كارهم بها. ولهم الآن جمعية معلمين مؤلفة من اثني عشر عضواً، تجتمع بالشهر مرة، وتعيّن رئيساً لها في كل ثلاثة أشهر"، و"هنا نتحدث عن نقابة ونظام في القرن 19 م وقبل ذلك"، كما يعلق بولاد على ما سبق.
ومن الشواهد أيضاً ما جاء في كتاب "قاموس الصناعات الشامية، تأليف محمد سعيد القاسمي وجمال الدين القاسمي وخليل العظم". إذ يذكر فيه: "بنّاء، يقال له المعماري...، وغالب صناعها في الشام نصارى بل كلهم إلا النادر، وتنتج أجراً وافراً والله المدبر المعين".
ابن سياج وسرايا أسعد باشا (قصر العظم)
لعل أجمل ما شيد في دمشق هو خان أسعد باشا وقصر العظم، إذ يقول الشيخ أحمد البديري الحلاق، في كتابه "حوادث دمشق اليومية"، سنة 1163 هـ - 1749 م: "وفي تلك الأيام أخذ أسعد باشا دار معاوية بن أبي سفيان وأخذ ما حولها من الخانات والدور والدكاكين وهدمها وشرع في عمارة داره السرايا المشهورة التي هي قبلي الجامع الأموي (قصر العظم). كذلك أنشِئ خان أسعد باشا عام 1159 هـ - الموافق 1743 م وانتهى بناؤه عام 1172 هـ - 1756 م". ويذكر البديري الحلاق في كتابه، في سنة 1156 هـ - 1743 م: "فأرسل خلف المعمارية الذين عمروا السرايا – وكانوا نصارى، وكان المعلم نصرانياً، أي المهندس أو من كبار معلمي العمار وكان يملك أسرار مهنة العمارة والبناء"، يقال له "ابن سياج" وهي عائلة دمشقية مسيحية من طائفة الروم الملكيين الكاثوليك.
ولكي نستزيد، نعرض الآن ما كتبه مؤرخو تلك الفترة، ففي كتاب "تاريخ الشام" 1720-1782 م للخوري ميخائيل بريك الدمشقي، الذي وصف دور المعماريين المسيحين: "وتظاهرت النصارى بعمارات الدور والقصور والقاعات شيء ما حصل لمن تقدمهم، ولا عاد يصير لمن يأتي بعدهم، لم يكن الوالي أسعد باشا العظم له نظير بتساهله مع الذميين وتسامحه ومجانبته الحرب والقتال لشدة ولعه بإنشاء البنايات العظيمة في دمشق وغيرها". ومن الجدير بالذكر هنا أن الشاعر الفرنسي دو لا مارتين أعجب أيما إعجاب بخان أسعد باشا أثناء زيارته لمدينة دمشق في نيسان -1833، حيث شبه قبته بقبة كنيسة القديس بطرس في روما: "إن شعباً يستطيع معماريوه تخطيط عمل كهذا، وعماله تنفيذ صرح شبيه بخان أسعد باشا لا يمكن أن يموت في مجال الفنون".
أسماء عائلات مسيحية تدل على مهن متصلة بالعمارة
وللاستشهاد أكثر، جمع الباحث إلياس بولاد أسماء بعض المعماريين الدمشقيين الوارد ذكرهم في كتب ومراجع تاريخية متفرقة. بعضها من أرشيف الكنيسة الكتدرائية بحارة الزيتون بدمشق من الأرشيف. الكتدرائية التي تجدد بناؤها عام 1865 وكان المعماري الكبير ميخائيل مسدّية يرأس أعمال التجديد وعمل بإمرته البناؤون وكلهم دمشقيون مسيحيون. ومن الأعلام أيضاً: نقولا وردة – أنطون منصور - إبراهيم منصور – وهبة بهيت – يوسف العنيد، وكان رئيس البنائين عند بناء الكتدرائية عام 1843 م، المهندس موسى الجهلان الدمشقي وجاء أيضاً اسم المهندس موسى حجار الدمشقي، وكان قد وضع كافة الرسوم وفق أصول الفن السوري البيزنطي المرخمجي الشهير يوسف نقولا وردة الدمشقي. أما في القرن 18 فكان كبير المعمارية شخص يدعى يوسف سياج الدمشقي.
وكذلك المعماري ميخائيل وهبة الشاوي الدمشقي سنة 1144هـ، ذكر اسمه على حجر لا يزال موجود إلى الآن في منزل سامي فاخوري مقابل كنيسة الفرنسيسكان- باب توما، وهناك بيوت أخرى إلى جانبه من عمله أو من عمل معماريين آخرين مثل بيت الكاتب، بيت أبو جراب، بيت أبو حمد. وعلى نحو مثير للانتباه فهناك الكثير من العائلات المسيحية الدمشقية كنيتها تدل على مهنتها أو حرفتها في مجال العمارة مثل: بيت البنا، فصرمللي، طبشراني، صارجي، طراب، معمارباش، نحات.
غير أن أكثر المهام طمساً وإقصاء في المراجع التاريخية هو دور المسيحين في ترميم الجامع الأموي، ففي عام 1893 احترق الجامع الأموي بدمشق وشكلت لجنة لإعادة إعماره برئاسة موسى حجار ومعه حوالي 30 مهندساً ومعمارياً مسيحياً دمشقياً وأعادوا إلى الجامع رونقه وجماله، والجدير بالذكر أن المعمارين الدمشقيين المسيحيين لهم الفضل في بناء الجامع في العهد الأموي و تزيين جدرانه بالفسيفساء والرخام (راجع مقالة الباحث التاريخي المرحوم حبيب الزيات ومقالته الفسيفساء وصناعتها من الروم الملكيين، جريدة الشرق 1947 م)، وإعادة إعماره بعد غزوة تيمورلنك عام 1400 م وأيضاً عام 1759م، بعد الزلزال الذي ضرب مدينة دمشق، وعام 1893 بعد حريق الجامع.
وفي هذا السياق، يؤكد المهندس المعماري شارل كساب في حديث لرصيف22, أن الدافع لاهتمام المسيحين قديماً بالمهن ومنها العمارة، هو عدم وجود موارد دخل أخرى، حتى أن التزيين المعماري بالفسيفساء كان من اهتمام المسيحين، وفي فترات الإرساليات التي جاءت إلى لبنان تأسست الجامعة اليسوعية 1875، وأغلب من تخرج منها في الفترات الماضية هم من المهندسين المسيحين.
من القصص التاريخية المنسية، التي لم تعطها المراجع التاريخية حقها هي دور المسيحين في ترميم الجامع الأموي، ففي عام 1893 احترق الجامع الأموي بدمشق وشكلت لجنة لإعادة إعماره برئاسة موسى حجار ومعه حوالي 30 مهندساً ومعمارياً مسيحياً دمشقياً وأعادوا إلى الجامع رونقه وجماله
ينتقد الباحث إلياس بولاد في حديث لـرصيف 22، تجاهل دور المسيحين في العمارة الإسلامية والعربية في دمشق، ففي كافة المقالات، إن كان لمؤرخين معاصرين سوريين أو عرب أو أجانب، لم يتطرقوا إلى أسماء الأشخاص المعماريين الذين بنوا أهم معالم دمشق، بل عندما تذكر التكية السليمانية غالباً ما يشار إلى اسم المهندس التركي سنان، وكذلك يذكر اسم المهندس الإسباني فرناندو دي أرندا (محمد دي أراندا في مرحلة لاحقة) الذي بنى محطة الحجاز وفيما بعد أعلن إسلامه نتيجة زواجه من دمشقية وتوفي في دمشق.
يقول بولاد: "إن أغلب المؤرخين والمهندسين الدمشقيين المعاصرين، ومنهم طلال عقيلي ومنير كيال ومروان المسلماني وعفيف بهنسي ووسائل الإعلام بكافة أشكالها لم يذكروا اسماء البنائين المسيحيين ودورهم في فن العمارة الدمشقية، خصوصاً في القرنين 18 و19، كذلك لم تتجاوب وزارة الثقافة السورية وحتى القائمون على إدارة الجامع الأموي ومتحفه حالياً إيراد أسماء المهندسين ولو من دون ذكر دياناتهم".
وينتقد التعتيم والتجاهل وإقصاء دور المعماريين المسيحيين البارز في دمشق من القرن السادس عشر حتى التاسع عشر، ويدعو في ذات الوقت كل المعترضين على طروحاته إلى ندوة مفتوحة وتقديم حججهم. يبقى أن يُذكر أنّ العالم الإسلامي في عصور مختلفة احتضن تعددية وغنى ظهرت معالمه في الإنتاج المعرفي وفي التاريخ الدبلوماسي وفي كافة أشكال العمارة والفنون.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...