في نهاية العشرينيات من القرن الماضي، دار نقاش جدي في باريس، عن إمكانية العودة إلى النظام الملكي في سورية. كان ذلك بعد ثماني سنوات من خلع الملك فيصل الأول عن عرش سورية من قبل الفرنسيين، تطبيقاً لاتفاقية سايكس بيكو التي أعطتهم حق إقامة انتداب في سورية.
فيصل الأول كان ملكاً مدعوماً من قبل الإنكليز وكان حكمه في دمشق تحدياً للفرنسيين ولاتفاقية سايكس بيكو، لذلك قرّروا التخلص منه بعد تدمير جيشه الصغير، خلعه عن العرش ثم نفيه خارج البلاد في 1 آب/أغسطس 1920.
الملك المنفي
سافر فيصل إلى أوروبا وطلب من الإنكليز تعويضاً عن عرشه المسلوب في دمشق، فقاموا بتعيينه ملكاً على العراق سنة 1921. رضى بهذا المنصب، على مضض، وعاش ما تبقى من عمره في بغداد ولكنه ظلّ يحلم بالعودة إلى سورية، كما حاول جاهداً إقناع الفرنسيين بضرورة التعاون معه، ولكن من دون جدوى.
في مذكراتها، تقول الأمير بديعة بنت علي (بنت شقيق الملك فيصل): "سأكشف سراً شخصياً لأول مرة، وهو أن عمّي، الملك فيصل الأول، ظلّ طوال حياته يتذكر الشّام بالخير ويعرب عن حبه العميق لها. ويتردد بيننا عائلياً بأنها ظلت في نفسه لآخر لحظة في حياته... ربما لأن أهل الشّام كانوا أكثر انصياعاً لحكمه من أهل العراق".
الأمير بديعة بنت علي: "سأكشف سرّاً شخصياً وهو أن عمّي، الملك فيصل الأول، ظلّ طوال حياته يتذكر الشّام بالخير ويعرب عن حبه العميق لها. ربما لأن أهل الشّام كانوا أكثر انصياعاً لحكمه من أهل العراق"
ولكن فرنسا كانت تبحث عن ملك يكون من صناعتها وليس من صناعة الإنكليز، يدين بالولاء المطلق لها ويكون قادراً على تثبيت حكمها في سورية. وقد فكّر الفرنسيون بهذا الأمر بعد مرور ثماني سنوات على حكمهم في دمشق، تخللها عدد من الثورات المحلية وثورة وطنية كبرى، قامت سلطة الانتداب بقمعها بالحديد والنار.
جربوا أنظمة حكم مختلفة في سورية، لم يرض عن أي منها السوريون، وكانت البداية مع نظام الدويلات (1920-1923) ثم التجربة الفيدرالية بين دويلات دمشق وحلب وجبل العلويين، وصولاً إلى إنشاء الدولة السورية في 1 كانون الثاني/يناير 1925 التي فكّر الفرنسيون بتحويلها إلى ملكية. التحدي الأول الذي واجههم: من أين يأتوا بملك ولا يوجد في سورية "دم أزرق" لتولّي العرش؟
كان فيصل الأول ملكاً مستورداً من الحجاز، نُصّب ملكاً بسبب قربه من الإنكليز ولأنه كان يستوفي شروط البيعة، لكونه قرشياً من آل البيت. ولكنه كان معادياً لفرنسا وقد حمل السلاح في وجهها خلال معركة ميسلون، أي أنه لم يكن يصلح للعرش، من وجه نظر حكومة باريس.
ملكية قادمة من فرنسا الجمهورية
كان صاحب فكرة استعادة العرش السوري وإعطائه لشخصية محسوبة على فرنسا هو المندوب السامي الفرنسي غابريل بونسو، الذي الذي وصل إلى دمشق بعد قمع الثورة السورية الكبرى، وجال على المدن للاستماع إلى مطالب الناس. في كل مكان كانت المطالب نفسها: عفو عام، وحدة الأراضي السورية، عودة المبعدين والمنفيين، تعويض المنكوبين، وضع دستور وانضمام سورية إلى عصبة الأمم.
لم يحدثه أحد عن استعادة الملكية إلا فئتين فقط من المجتمع السوري. الأولى كانت الضباط المتقاعدين، إمّا من جيش فيصل أو من الجيش العثماني، الذين كان ينظرون إلى جيش العراق بكثير من الإعجاب، فقد كان من أكثر الجيوش العربية انتظاماً وقدرة عسكرية، وكان ضباطه محترمين ومنعمين، لهم حظوة كبيرة عند الملك فيصل، في الوقت الذي كان فيه أصحاب الرتب العليا في سورية عاطلين عن العمل بعد تشردهم وتحطيم جيشهم سنة 1920.
أما الفئة الثانية فكانت العلماء ورجال الدين الذين قالوا للمفوض الفرنسي إن الإسلام لم يعرف في تاريخه الطويل إلا الملوك والخلفاء، وأن النظام الجمهوري كان غريباً عن عالمهم، لا يعرفونه ولا يثقون به.
ولكن بونسو كتب إلى وزير خارجية فرنسا أرستيد بريان قائلاً إن "غالبية السوريين يريدون ملكاً، لأن النظام الملكي يضمن لهم الاستقرار ويحافظ على عاداتهم وتقاليدهم، ويحمي هيبة بلادهم". وقد أرفق بونسو رسالته إلى باريس بقائمة من المرشحين المحتملين لتولّي عرش سورية، وهم:
الداماد أحمد نامي (1873-1962): وجيه بيروتي شركسي، وقد كان رئيساً للدولة السورية خلال الثورة السورية الكبرى، عِلماً أنه لم يكن يحمل الجنسية السورية. كان في شبابه متزوجاً من الأميرة عائشة بنت السلطان عبد الحميد، وكان لا يخفي حلمه بأن يكون ملكاً على سورية.
الأمير محمد سعيد الجزائري (1885-1970): حفيد الأمير عبد القادر الجزائري، ولد وعاش في دمشق وتولّى الحكم فيها لأيام معدودة، خلال المرحلة الفاصلة بين خروج العثمانيين ودخول القوات العربية سنة 1918. كان الأمير سعيد، مثله مثل فيصل، منسوباً لآل البيت وطامحاً بحكم سورية.
كان فيصل الأول ملكاً مستورداً من الحجاز، نصّبه الإنكليز لأنه كان يستوفي شروط البيعة، لكونه قرشياً من آل البيت. ولكنه لم يكن يصلح للعرش من وجه نظر حكومة باريس
الخديوي عباس حلمي الثاني (1874-1944): حاكم مصر في الفترة ما بين 1892-1914 وابن شقيق الملك فؤاد الأول. خُلع عن عرشه من قبل الإنكليز، ومن منفاه في أوروبا كان دائم البحث عن عرش بديل، في سورية أو غيرها. عند ترشّحه للعرش السوري لم يكن عباس حلمي قد زار سورية في حياته (ولم يزرها إلا قبل وفاته سنة 1944). ولكنه وعدهم أن يكون ملكاً اقتصادياً، وألا يرهق ميزانية الدولة ولا يتقاضى راتباً، لا هو ولا أفراد أسرته.
الأمير فيصل بن عبد العزيز (1906-1975): ثالث أبناء الملك عبد العزيز آل سعود والذي أصبح ملكاً في بلاده سنة 1964. كان ممثلاً لأبيه في أوروبا قبل أن يصبح وزيراً للخارجية في السعودية، وكان مقرّباً من الرئيس السوري شكري القوتلي.
الملك علي بن الحسين (1879-1935): أكبر أبناء الشريف حسين، ووليّ عهده على مملكة الحجاز ثم ملك عليها، من تشرين الأول 1924 وحتى كانون الأول 1925.
الأمير زيد بن الحسين (1898-1970): أصغر أولاد الشريف حسين وأحد قادة الثورة العربية الكبرى، كان نائباً لشقيقه في سورية ومرشحاً ليكون ولياً للعهد. سافر معه إلى العراق وأصبح سفيراً في تركيا وألمانيا ثمّ في لندن.
الشريف علي حيدر باشا (1866-1935): أمير مكة خلال الحرب العالمية الأولى، وهو المنصب الذي أوكل إليه بعد انشقاق الشريف حسين عن الدولة العثمانية وإعلانه الثورة العربية الكبرى سنة 1916.
الملك زوغو (1895-1961): ملك ألبانيا الذي كان رئيساً للجمهورية في بلاده، قبل تحويلها إلى ملكية وتنصيبه ملكاً عليها في أيلول 1928. الملك زوغو، مثله مثل عباس حلمي الثاني، كان لا يعرف سورية قط وإضافة لذلك، لم يكن يتكلم اللغة العربية.
استيراد الملوك وتصديرهم
من هؤلاء الثمانية، اثنان فقط كانا يعرفان سورية جيداً، وهما الأمير الجزائري والداماد أحمد نامي، أما البقية فلا علاقة لهم بهذه البلاد، لا من قريب ولا من بعيد. وقد سُرّبت القائمة إلى الصحافة يومها، ولم تنفها السلطات الفرنسية، كما جاء الملك علي إلى دمشق في أيلول/سبتمبر 1931، للترويج لنفسه بين الناس.
كما أنه قدّم دعماً مالياً وسياسياً لإنشاء حزب سياسي في دمشق، هدفه استعادة الملكية في سورية، سُمّي "حزب الأمة الملكي"، وكان رئيسه عارف باشا الإدلبي، أحد ضباط الشريف حسين القدامى، ومعه رضا باشا الركابي، رئيس أول حكومة في عهد الملك فيصل.
اثنان فقط من الذين رشّحهم المندوب السامي الفرنسي لتولّي العرش السوري، كانا يعرفان سوريا، وأحد المرشّحين لم يكن يتحدث العربية حتى
لكن، وباستثناء الركابي والأدلبي، لم يخرج السوريون في استقبال الملك علي، ولم تقف الوفود على باب الفندق الذي نزل فيه، بانتظار تقبيل يديه ومبايعته. بعض هذا الجفاء كان ناتجاً عن انعدام الثقة بالأسرة الهاشمية بسبب قرب أمرائها من الإنكليز، وتحديداً عبد الله بن الحسين، حاكم إمارة شرق الأردن. وكثير من السوريين كانوا ينظرون إلى فيصل بلوم شديد لأنه تخلّى عنهم وهرب خارج البلاد، ثم قَبِل بعرش بديل وكأن شيئاً لم يكن في سورية.
أما السبب الآخر فكان ناتجاً عن معارضة قادة البلاد لعودة الملكية، وتحديداً في حال قرّر الفرنسيون فرض ملك مستورد من الخارج. رأى زعماء سورية أنهم أحق بحكم بلادهم من جميع هؤلاء، وأنهم أعلم بشؤونها وناسها. هذه المجموعة المعارضة لعودة الملكية كانت مؤلفة من شخصيات متناقضة، لا يجمعهم في السياسة شيء سوى رغبتهم بإجهاض المشروع الملكي.
فمن جهة وقف ضد قائمة الملوك شخصيات محسوبة على فرنسا، أمثال رئيس الحكومة تاج الدين الحسني، وآخرين محسوبين على الحركة الوطنية، مثل إبراهيم هنانو وهاشم الأتاسي وشكري القوتلي. واللافت أن أعلى الأصوات احتجاجاً على هذه القائمة كان الملك فيصل نفسه، فجنّ جنونه عند سماعه الخبر، لأن الفرنسيين أسقطوا اسمه من حساباتهم، قائلاً إنه يبقى ملك سورية الشرعي ولا يحق لغيره أن يحكمها، حتى لو كان أحد أشقائه.
أرسل فيصل رسلة اعتراض إلى باريس ثم حط في العاصمة الفرنسية في أيلول/سبتمبر 1931، حاملاً بيده تصوّراً كاملاً لعودة العرش إلى دمشق وهو: وحدة سورية والعراق تحت العرش الهاشمي، ليكون هو ملكاً على البلدين ويتولى السوريون والعراقيون رئاسة الحكومة والبرلمان مناصفة وبالتناوب.
واقترح أن تنتقل العاصمة كل ستة أشهر بين دمشقو بغداد، ويتم توحيد الجيشين تحت أمرته، مع وحدة اقتصادية ومالية بين البلدين. وقد قال للفرنسيين: "أنا أعرف السوريين جيداً، ولا أحد غيري قادر على حكمهم. هم يريدون ملكاً وأنا هو هذا الملك".
ولكن صناديق الاقتراع أثبت أن كلام فيصل لا صحّة له بالمطلق، وأن الشعب السوري لا يريد العودة إلى الحكم الملكي. ففي الانتخابات التي أُجريت سنة 1932 لم يستطيع "حزب الأمة الملكي" إيصال شخص واحد إلى المجلس التشريعي، ولا حتى رضا الركابي نفسه، الذي خسر المعركة الانتخابية بين أهله وناسه في دمشق.
اعتزل الركابي العمل السياسي من بعدها، وتوفي فيصل في سويسرا سنة 1933، ليُقفل الستار على طموحه بالعودة إلى عرش سورية. ومع غيابه، تفجّرت جموحات كل من جاء ذكره في قائمة غابرييل بونسو، لكن المشروع بقي حبراً على ورق، وسقط من التداول... كما سقطت المحاولة كلها من كتب التاريخ.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين