شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!
جبريل حفر بحيرة الفيوم والإسكندرية هي إرم ذات العماد... أساطير المؤرخين حول مدن مصر

جبريل حفر بحيرة الفيوم والإسكندرية هي إرم ذات العماد... أساطير المؤرخين حول مدن مصر

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الخميس 26 أغسطس 202101:12 م

لمّا كانت مصر أرض الجبّارين، غادرها النبي يوسف إلى أحد الأودية حيث الهواء المنعش والجو اللطيف، فسُرّ به واعتزم الإقامة فيه، وهناك بنى مدينة في ألف يوم سُمّيت "الفيوم" من عبارة "ألف يوم".

هذه الحكاية التي ذكرها الرحالة العثماني أوليا جلبي في كتابه "الرحلة إلى مصر والسودان وبلاد الحبش" واحدة من روايات كثيرة صاغها المؤرخون في العصور الوسطى حول المدن المصرية التي زاروها، وصبغوا تفاصيلها برؤى أسطورية ترتكز على مرجعيات دينية تارة، وخيال شعبي تارة أخرى.

لم يكتفِ جلبي بذلك، فأورد قصة أخرى ذكر فيها أنه "بينما كان يوسف عليه السلام ينقل التراب المتخلف من حفر الخليج بذيل ثوبه الشريف، أمر الله سبحانه وتعالى جبريل الأمين عليه السلام أن ينزل ويقدّم المساعدة والمدد لحبيبه يوسف، فنزل جبريل كالبرق الخاطف، وضرب بجناحيه بحيرة الفيوم ضربة قوية، فأطار ترابها، وأنقاضها إلى السماء وأنزلها إلى أسفل الغبراء (الأرض)، وضرب جناحاً آخر جهة الصعيد الأعلى، حيث فتح ترعة من النيل جرى فيها الماء حتى بحيرة الفيوم التي لا تزال واسعة عميقة تعيش فيها مئات الألوف من الكائنات والخلائق العجيبة والحشرات البحرية. في حين أن الترعة اليوسفية نظراً لكونها من آثار جبريل الأمين لا يحدث بها جرف أو شق قط إلى انقراض الدوران، بل يجري فيها النيل دائماً".

وذهب الرحالة التركي إلى أبعد من ذلك، بقوله إن "النيل إذا دخل البحيرة ينقلب ماؤها مراً أجاجاً، وفي جوانب هذه البحيرة تقوم ثلاثمائة وست وستون قرية، كل واحدة منها تشبه إرم ذات العماد".

ويذكر الدكتور عمرو منير، في كتابه "العمران المصري بين الرحلة والأسطورة"، أن جاذبية الفيوم بالنسبة للكثيرين من المؤرخين والرحالة نبعت من ارتباطها بأشياء عديدة، فالخيال الشعبي يربط الفيوم بالنبي يوسف، وبشخصيات من التوراة والإنجيل والقرآن، لذا نَبَضَ الحديث عنها بالحياة في كتابات المؤرخين المسلمين بشكل يلبّي حاجة عند جمهرة القراء، والذين ظلوا على شغفهم بكشف مناطق الظل في ما يتعلق بتاريخ مصر القديم الذي ظل محل جدال بينهم.

الإسكندرية... النبي سليمان وإرم ذات العماد

نال الإسكندرية نصيب من الأساطير بسبب فخامة آثارها التي لفتت انتباه المؤرخين. ففي كتابه "المواعظ و الاعتبار بذكر الخطط والآثار"، والمعروف بـ"الخطط المقريزية"، يذكر تقي المقريزي أن "المدينة بُنيت أكثر من مرة، وأول ما بُنيت كانت بعد الطوفان في زمان مصرايم بن بيصر بن نوح عليه السلام، وكان يقال إذ ذاك مدينة راقودة، ثم بنيت بعد ذلك مرتين، فلما كان في أيام اليونانيين جددها الإسكندر المقدوني".

ومن الروايات الخيالية التي صيغت حول الإسكندرية، ما أورده ابن محشرة في كتابه "الاستبصار في عجائب الأمصار". ذكر: "قيل إن سكان البحر كانوا يؤذون الناس ويختطفونهم بالليل، فاتخذ الإسكندر الطلسمات مصورة على أعمدة رخام هيئة شجرة السرو، طول العمود منها 80 ذراعاً، وهي باقية إلى هذه الغاية، ويقال إنها كانت على أعمدة نحاس خرقت الأرض فصُورت فيها أشكال وصور تمنع وتدفع (أي تمنع وتدفع الأعداء)".

وكانت منارة الإسكندرية محوراً لأساطير وحكايات كثيرة. يذكر ابن فضل العمري، في كتابه "مسالك الأبصار في ممالك الأمصار"، أن الإسكندر أطال فيها، وجعل بها مرآة كان يرى منها مراكب العدو عن بعد، فإذا صارت بإزائها وصُدمت بشعاعها أُحرقت (أي المراكب)، كما تُحرق المهاة في الشمس.

وفي كتابه "حسن المحاضرة في تاريخ مصر والقاهرة"، يذكر جلال الدين السيوطي أن المنارة "في أعلاها تماثيل من نحاس، منها تمثال يشير بسبابة يده اليمنى نحو الشمس أينما كانت من الفلك ويدور منها حينما دارت، ومنها تمثال وجهه إلى البحر إذا صار العدو منهم على نحو من ليلة سُمع له صوت هائل يُعلم به أهل المدينة بطريق العدو، ومنها تمثال كلما مضت من الليل ساعة صوّت صوتاً مطرباً، وكان بأعلاها مرآة تُرى منها القسطنطينية، وبينهما عرض البحر، فكلما جهز الروم جيشاً رؤي في المرآة".

لمّا كانت مصر أرض الجبّارين، غادرها النبي يوسف إلى أحد الأودية حيث الهواء المنعش والجو اللطيف، فسُرّ به واعتزم الإقامة فيه، وهناك بنى مدينة في ألف يوم سُمّيت "الفيوم" من عبارة "ألف يوم"

الأكثر من ذلك أن مؤرخين ربطوا بين الإسكندرية وبين إرم ذات العماد التي ورد ذكرها في القرآن الكريم. يذكر ابن محشرة في كتابه، أن إرم ذات العماد هي الإسكندرية، وأن أعمار الناس لم تطل في بلد من البلدان كطولها في مريوط ووادي فرغانة (مناطق في الإسكندرية).

وثمة رواية أخرى ذكرها أبو الحسن المسعودي في كتابه "مروج الذهب ومعادن الجواهر"، روى فيها أنه "ذكر جماعة من أهل العلم أن الإسكندر المقدوني انتهى إلى موضع الإسكندرية، فأصاب في موضعها آثار بنيان عظيم عليه مكتوب بالقلم المسند – وهو القلم الأول من أقلام حمير وملوك عاد – أنا شداد بن عاد بن شداد بن عاد، شيدت بساعدي البلاد، وقطعت عظيم العماد من الجبال والأطواد، وأنا بينت إرم ذات العماد، التي لم يُخلق مثلها في البلاد، وأردت أن أبني هنا كإرم".

وحضر النبي سليمان في كتابات المؤرخين عن الإسكندرية، فذهب أبو حامد الغرناطي، في "تحفة الألباب ونخبة الإعجاب"، إلى أن الجن صنعت له مجلساً من أعمدة الرخام الأحمر الملوّن، وإذا نظر الإنسان فيها يرى مَن يمشى خلفه لصفائها.

كما ذكر ابن محشرة: "ومن عجائبها أن بالإسكندرية أسطوانة متحركة، والناس يقولون أنها تتحرك بحركة الشمس... وهذه الأسطوانة من إحدى عجائب الدنيا، ويُقال إن الجن صنعتها لسليمان بن داود".

القاهرة... الغراب وقصص التأسيس والخراب

لم تبتعد القاهرة عن هذه الأساطير. ذكر محمد بن ظهيرة، في كتابه "الفضائل الباهرة في محاسن مصر والقاهرة"، أنه "لما قصد جوهر الصقلي في بناء السور (يقصد سور القاهرة)، جمع المنجمين وأمرهم أن يختاروا طالعاً لحفر الأساس، وطالعاً لرمي حجارته، فجعلوا قوائم خشب، بين كل قائمتين حبل فيه أجراس، وأعلموا البنائين أن ساعة تحريك هذه الأجراس ترمون ما بأيديكم من الطين والحجارة في الأساس، فوقف المنجمون لتحرير هذه الساعة، فاتفق من مشيئة الله سبحانه وتعالى أن وقع غراب على خشبة من تلك الأخشاب، فتحركت الأجراس، فظن الموكلون بالبناء أن المنجمين حركوها، فألقوا ما بأيديهم من الطين والحجارة في الأساس".

ويذكر جلبي في كتابه: "لذلك السبب لا تنقطع الدماء والقتال والنزاع والفتن والفساد عن القاهرة المعزية، التي سميت بهذا الاسم لوضع أساسها في طالع المريخ".

حضر النبي سليمان في كتابات المؤرخين عن الإسكندرية، فذهب أبو حامد الغرناطي، في "تحفة الألباب ونخبة الإعجاب"، إلى أن الجن صنعت له مجلساً من أعمدة الرخام الأحمر الملوّن

وبحسب عمرو منير، تتشابه هذه القصة مع ما رواه المؤرخون عن بناء وتأسيس الإسكندرية، فقد حكى المسعودي في "مروج الذهب"، أن الإسكندر أحب أن يرمي أساسها دفعة واحدة في سائر أقطاره، في وقت محمود يختاره، وطالع سعيد، فحدد موعداً معيّناً، لكنه نام، فجلس على حبل الجرس الكبير غراب، فحركه فصوّت وتحركت الحبال، وخفق ما عليها من الأجراس، فلما سمع الصناع تلك الأصوات وضعوا الأساس دفعة واحدة، وارتفع الضجيج بالتحميد والتقديس، فاستيقظ الإسكندر من رقدته، وسأل عن الخبر، فأُخبر، فتعجب وقال: "أردت أمراً وأراد الله غيره، ويأبى الله إلا ما يريد، أردت طول بقائها، وأراد الله سرعة فنائها وخرابها".

وبهذا، تلعب خرافة "الطالع" دورها في بقاء أو بناء المدن، ولعل للسبب نفسه أرجع جلال السيوطي بقاء الأهرام إلى "الطالع السعيد" حيث "كان ابتداء بنائها في طالع سعيد".

ويمكن القول إن الربط بين خراب كل من القاهرة والإسكندرية وبين ظهور الغراب ربما يرجع إلى بقايا الاعتقاد الشعبي في أسطورية الغراب بما يحمله من دلالات وارتباطه بأحداث تاريخية ذات طابع مأساوي، فهو طائر تشاءمت به العرب كلها بل إن كثيراً من الشعوب منذ العصور القديمة كانت تحس إزاءه إحساساً يشوبه التقديس والأسطورة، دون أن يفكر الناس بصيده، بحسب منير.

ولعل لورود الغراب في قصة نوح وأسطورة الطوفان البابلية أثر في ذلك، كما أنه هو الذي دل قابيل كيف يدفن أخاه هابيل، وهو دليل عبد المطلب على موضع "زمزم"، وهذا يعني أنه أشبه بالكاهن والدليل فهو يحمل رسالة من وراء حجب الغيب، وقد غذّى هذا الشعور الموروث الشعبي بقوله "أشأم من غراب البين"، و"ما هو إلا غراب نوح".

عين شمس... تماثيل الجن وموت أحمد بن طولون

احتفى الخيال الشعبي بمدينة عين شمس، فجاءت رؤية المؤرخين لها مثقلة بالعناصر الأسطورية والخيالية التي ربما لا توجد إلا في قصص وحكايات ألف ليلة وليلة.

وصفها ابن محشرة بأنها "كانت مدينة فرعون، وفيها آثار كثيرة، وفيها بركة عظيمة، وقد نُقرت في حجر صلد، وحواليها كراسٍ من رخام، فكان يجلس فرعون عليها، وتُملأ بالخمر، وحواليها أنهار العسل، وأنواع المشروبات، وبالقرب منها صورة من رخام، يخيّل للناظر أنها تتكلم، وذُكر أنها (أي الصورة) كانت ماشطة فرعون، وبالقرب منها صنمان من حجارة، أحدهما يبكي والآخر يضحك".

ولم تخلُ حكايات هذه المدينة من الجن والعفاريت المساعدة في عمران مدن مصر، فقال زكريا القزويني، في كتابه "آثار البلاد وأخبار العباد"، إن فها تماثيل صنعتها الجن لسليمان عليه السلام.

وبحسب الرحالة التركي أوليا جلبي، فإن المؤرخين العرب ذكروا أن في عين شمس قصر كبير، وكان له مئة وثمانون شباكاً ونافذة، تدخل الشمس كل يوم من واحد منها، فلذا أُطلق على تلك المدينة كلها اسم عين شمس.

وفي رواية أخرى أن ملكة تُدعى عين شمس أنشأت هذه المدينة، وأن الشمس تجري في منازلها حين تقطع مئة وثمانين منزلاً فترجع كما بدأت.

ويذكر منير أن للموروث الشعبي عن مدينة عين شمس أبعاداً أسطورية تخطت حدود العالم المحسوس لتصل إلى تماثيلها العجائبية التي تتداخل مع العالم اللامرئي، ومن أمثلة ذلك ما تناقله المؤرخون حول موت أحمد بن طولون. فقد روى ابن إياس الحنفي، في كتابه "بدائع الزهور في وقائع الدهور"، أنه كان في عين شمس صنم بمقدار الرجل المعتدل الخلق محكم الصنعة يتخيل من استعراضه أنه ناطق، فوُصف لأحمد بن طولون، فاشتاق إلى تأمله، فنهاه المقربون عنه، وقالوا له ما رآه والٍ قط إلا عُزل، فركب إليه هذا في سنة 258 وتأمله، ثم دعا بالقطاعين، وأمرهم باجتثاثه من الأرض، ولم يترك منه شيئاً، فلما رجع أصيب بالحمى ولزم الفراش، فسُلسل في المرض نحو عشرة أشهر حتى مات به.

أنصنا... بقايا سحرة فرعون والتمساح الأليف

وفي مدينة أنصنا، شرق النيل، في مدينة ملوي جنوب مصر، يتحالف السحر مع الأسطورة، فيقول أبو العباس اليعقوبي، في كتابه "البلدان"، إن "أنصنا مدينة قديمة، ويقال إن سحرة فرعون كانوا بها، وإن لها بقية من السحر".

آثار هذا السحر يشير إليه أبو علي بن رستة، في "الأعلاق النفيسة"، بقوله: "أنصنا لا يقربها تمساح بتة، والناس منه آمنون، فإن وقع منها إلى ذلك الموضع أيام المد تمساح بقي منقلباً على ظهره، حتى أن الصبيان يجتمعون عليه، يغطونه في الماء، ويلعبون به، فإذا جاوز هذه القرية عاد ضاريا على ما لم يزل عليه".

العريش... استدعاء القصص الديني لتبرير التسمية

بحسب منير، جُبل الوجدان الشعبي على استعارة بعض التراكيب الفنية من القصص الديني الخاص بالأنبياء وتحميلها على بعض الأخبار الشعبية والتاريخية الخاصة بالمدن، لما لسِيَر الأنبياء من دور فاعل في التاريخ الإنساني.

الخيال الشعبي الذي نقله لنا أوليا جلبي يستعير قصة وضع مريم العذراء تحت الشجرة دون المضمون ويسقطها على ميلاد مصرايم في مدينة العريش، فيقول: "بعد الطوفان، أذن سيدنا نوح عليه السلام إلى الكاهن قليمون وصهره المدعو بيطر بالعودة إلى أمسوس التي بناها جده مصرايم، ووصلوا المدينة المسماة العريش، وفي أثناء استراحتهم تحت شجرة سلمت من الطوفان، جاء المخاض لبنت الكاهن قليمون فولدت من زوجها بيصر بن حام ولداً أسموه أيضاً مصرايم، فكان أول ولد جاء إلى الدنيا بعد الطوفان، وهو مصرايم بن بيطار، وقد أقاموا الاحتفالات والمهرجانات بالعريش مدة، وتبركوا بتلك الشجرة، التي كان يتفيؤون ظلالها حيث أخذوا يعلقون بها خرقاً بالية وثياباً قديمة للذكرى، وقد أقدم الملك مصرايم على زيارة المحل المسمى بـ(العريش)، حيث ولدت أمه تحت الشجرة التي كانت تستظل بها أثناء الوضع، فجاء إلى هذه الشجرة وأخذ يزينها بأقمشة مزركشة وأحجار قيمة ثم عكف تحتها يعبد الله حق العبادة".

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard