يأتي هذا المقال ضمن الملفّ المُعدّ لشهر ديسمبر 2019, في قسم "رود تريب" بـرصيف22، والمعنوَن: "فلنتسكّع معاً في الشّوارع".
ما بين محطة الرّمل ومحطة مصر، وعلى بعد أمتار من كورنيش عروس البحر المتوسط "الإسكندرية"، تأتي جولة "رصيف 22" في شارع النبي دانيال، أعرق شوارع المدينة الكوزموبوليتانية العريقة "بنت الإسكندر الأكبر"، الذي يعود تاريخ تأسيسه لوقت بناء المدينة ذاتها.
عندما أمر الإسكندر الأكبر ببناء المدينة المتوسطية الجديدة لتصبح عاصمةً لمصر، كان شارع النبي دانيال هو الشارع الرئيسيّ الطولي الممتدّ من شمال المدينة إلى جنوبها، فوفقاً للتخطيط الشبكيّ الشبيه برقعة الشّطرنج الذي ظهرت به الإسكندرية، كان هناك شارعان رئيسيان يربطان المدينة، أولهما "النبي دانيال"، وكان الشّارع الثاني القادمُ من الشّرق إلى الغرب هو "طريق كانوب القديمة"، وعرف بعد ذلك بـ"طريق أبو قير"، أو "طريق الحرية"، لكن اسمه الرسميّ حتى الآن هو "شارع جمال عبد الناصر"، وقد عرف شارع النبي دانيال في العصر اليوناني باسم " الكاردو دي كومناس" وكاتن له بوّابتان، أطلق على البوابة الشمالية منهما "بوّابة القمر"، بينما كانت البوابة الجنوبية هي "بوّابة الشّمس".
الحضارات تتلاقى عند عروس المتوسط
مثلّت الإسكندرية خلال منتصف القرن العشرين، ملتقى للحضارات والجنسيات والثقافات المختلفة، في حالة كوزموبوليتانية ساحرة نتجت عن موقعها الجغرافي والميناء التجاري، ممّا جعلها محطةً للأجانب العابرين، بالإضافة لمن أستقرّ بها من اليونانيين والإيطاليين والأرمن وغيرهم من الجنسيات الذين أختلطوا بالسكّان الأصليين حتى أصبحوا جزءاً أصيلاً من المجتمع الإسكندري.
يختصر شارع النبي دانيال هذه الحالة، ويُعتبر الأثرَ الباقي منها حتى الآن، وهو الأقلّ تأثراً بالتغيّرات الاجتماعية التي حدثت للمدينة بعد قيام ثورة يوليو في مصر، وخروج الكثير من الأجانب إلى خارج البلاد؛ فما زال الشّارع يحتفظ إلى حدّ كبير بالطابع المعماريّ الخاصّ به، رغم هجوم بعض البنايات الحديثة عليه، مثلما حدث في أغلب شوارع المدينة السّاحلية، كما يتمتع بعوامل الجذب السياحيّ في ظلّ بقاء مجموعة مهمّة من الآثار الرومانية بحالة جيدة، بالإضافة إلى حمامات كوم الدكة القريبة، وصهريج مسجد النبي دانيال، وآثار البرديسي المجاورة لمقام سيدي عبد الرازق الوفائي، وتكتسب تلك الحالة من الجاذبية للشارع العريق بعداً آخر مع الأساطير العديدة التي تردّدت عبر التاريخ عن وجود قبر الإسكندر الأكبر في الممرّات الأثرية التي توجد أسفل الشارع.
بعيداً عن الصّخب
رغم الزّحام الذي تعاني منه الإسكندرية في الوقت الحالي بسبب ارتفاع عدد السكّان، والذي ترتفع حدّته بشدّة مع قدوم فصل الصيف وتوافد السياحة الداخلية، إلا أن شارع النبي دانيال لا يزال محتفظاً بهدوئه النسبيّ رغم كثرة المحلّات التجارية؛ فهو شارع مريح للأعصاب، تكسر مبانيه العتيقةُ متوسطةُ الارتفاع حدّةَ ضوء الشمس، فتحتفظ بنسمات الهواء لتصاحب المارّة، كما أنّ وجود مساحات واسعة من الظلّ، تجعله أجمل أماكن المدينة الساحلية التي تصلح للمشى، بالإضافة إلى ممشى الكورنيش على البحر.
يضمّ الشارع بين جنباته مجموعة من أهمّ مباني الإسكندرية، أولها: مسجد النبي دانيال، الذي تمّت تسمية الشارع باسمه، بالإضافة إلى معبد "إلياهو حنابي" اليهودي، وكانت تتردّد عليه الجاليةُ اليهودية بالإسكندرية، ويعتبر من المزارات السياحية التي يحرص السيّاحُ الأجانب على مشاهدتِها، ويضمّ المعبدُ مجموعةً من الكتبِ والمخطوطات اليهودية النادرة التى يعود تاريخها للقرنِ الخامس عشر.
تكتسب جاذبية هذا الشارع العريق بعداً آخر مع الأساطير العديدة التي تردّدت عبر التاريخ عن وجود قبر الإسكندر الأكبر في الممرّات الأثرية التي توجد أسفل الشارع
وعلى الجانب الآخر من الشّارع ستقابلكم "الكنيسة المرقسية"، أعرق وأقدم الكنائس في مصر وإفريقيا، قام ببنائها "القديس مرقس" خلال القرن الأول الميلادي وتحديداً عام 43م. بعد الكنيسة بقليلٍ ستجدون أنفسكم أمام أول مبنى لجريدة "الأهرام"، أحد أعرق الصحف العربية والمصرية والتي كانت بدايتها من الإسكندرية، حيث انطلقت من هذا المبنى عام 1875م، قبل أن تنتقل إلى مقرّها الشهير في العاصمة المصرية القاهرة؛ كما يوجد في الشارع مقرُّ المركز الثقافي الفرنسي الذي تأسّس عام 1886م.
باعة الكتب القديمة
كان أغلب سكّان الشارع والمترددين عليه، من الأجانب، وعندما قامت ثورة 23 يوليو 1952رحل الكثير من المغتربين المقيمين في مصر، وعادوا إلى بلدانهم. وتغيرت التركيبة الاجتماعية تماماً مع غزو الشارع تجارياً بعشرات المحلّات التي تبيع الملابس والأحذية والأجهزة الكهربائية، يجاورها بعضُ المطاعم، انتهاءً بباعة الكتب القديمة الذين أصبحوا علامة مميزة للشارع خلال العقود الأخيرة، بعد أن أقاموا معرضاً دائماً لبيع الكتب، يشبه "سورَ الأزبكية" في القاهرة، تنتشر فيه الأكشاك التي تبيع الكتب المستعملة والقديمة، جنباً إلى جنب مع الكتب المدرسية والروايات الحديثة والقصص الأدبية بمختلف اللغات، والتي ستجدونها هناك بأسعار زهيدة تصل لجنيه واحد فقط للكتاب في بعض الأحيان، ما يعادل أقلّ من 10 سنت أمريكي.
أساطير البحث عن قبر الإسكندر الأكبر
الشارع صاحبتْه العديد من الأساطير، منها اسمه (النبي دانيال)، وهو أحد أنبياء بني إسرائيل، ولذلك يطلق العامة على المعبد اليهودي الموجود بالشارع "معبد النبي دانيال"، رغم أن تسميةَ الشارع جاءت نسبة إلى مسجد النبي دانيال، الذي يوجد به على عمق 5 أمتار ضريحُ العالم العراقي "محمد بن دانيال الموصلي" الذي جاء من مدينة الموصل العراقية إلي الإسكندرية في القرن الثامن الهجري، ويعتبر من أبرز أئمة المذهب الشافعي، وقد قام العالمُ العراقي ببناء المسجد عام 1790 م.
تغيرت التركيبة الاجتماعية تماماً مع غزو الشارع تجارياً بعشرات المحلّات التي تبيع الملابس والأحذية والأجهزة الكهربائية، يجاورها بعضُ المطاعم، انتهاءً بباعة الكتب القديمة الذين أصبحوا علامة مميزة للشارع خلال العقود الأخيرة
أما الأسطورة الأكثر جدلاً فتتعلق بالمحاولات المتكرّرة للبحث عن قبر الإسكندر الأكبر أسفل الشارع، ومصدر الجدل في تلك الحكاية الشعبية يعود إلى السراديب الممتدّة أسفل الشارع؛ فعند مروركم بجوار مسجد عبد الرازق الوفائي، شيخ المتصوفة والواقع في منتصف الشارع، ستقابلكم أحدُ الحفَر الكبيرة التي يمتدّ من قلبها أحدُ أعمدة الرخام، يجاوره مدخلٌ لأحدِ تلك السراديب، ويعود أصل تلك السراديب إلى العصر الروماني، الذي شهد تأسيسَ أنفاقٍ كبيرة كانت متّصلة ببعضها البعض، حتى قلب البحر المتوسط، وذلك لتهريب الإمبراطور الروماني في حالة حدوث قلاقل أو ثوراتِ غضبٍ من الشعب الإسكندري، وقال المقريزي في وصفِ تلك الأنفاق، إن إرتفاعها يزيد عن 3 أمتار، وإن الفارس يستطيع أن يسير فيها ممتطياً جوادَه ورافعاً سيفه.
أسطورة قبر الإسكندر الأكبر شغلت الفنانين والمثقفين والمؤرخين في مصر خلال العقود الأخيرة، وقام الفنان المصري صلاح السعدني ببطولة مسلسل "حلم الجنوبي"، وجاورتْه معالي زايد وجيهان فاضل، ودارت أحداث المسلسل حول باحث آثارٍ صعيديٍّ يسافر إلى الإسكندرية للبحث عن قبر الإسكندر أسفل شارع النبي دانيال.
علّق الروائي المصري إبراهيم عبد المجيد على الأسطورة في أحد أعداد مجلة الهلال التذكارية عن مدينة الإسكندرية، وقال إن شارع النبي دانيال قد تشبع من كثرة الحفر في سنوات الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، وتسبّب في ذلك النادل اليوناني "إستيليوس" الذي كان نادلاً في أحد المطاعم وعانى من لوثة عقلية، وزعم أنه عثر علي مخطوطات تحدد موقع قبر الإسكندر، وهو ما داعب أحلام الكثير من الباحثين عن الثراء السريع حتى يومنا هذا.
صاحب "لا أحد ينام في الإسكندرية" الروائي إبراهيم عبد المجيد تحدث مع "رصيف22" عن حكاية إستيليوس، وقال: "إنها كانت مثارَ جدلٍ كبيرٍ في الصحافة المصرية، منتصف القرن الماضي، ونشر عنها العديدَ من الأخبار التي تتبعت مغامرات إستيليوس كما كانت من الحكايات الرائجة على مقاهي النبي دانيال ومحطة الرّمل، وقد تحدثت عنها في روايتي (طيور العنبر)، وما جدّد الحديث عن (إستيليوس) بعد ذلك، هو سقوط إحدى الفتيات من المارّة في حفرةٍ بشارع النبي دانيال، وذلك في بداية السبعينات، ولم يتمّ العثور على تلك الفتاة حتى الآن، ممّا أعاد إلى الأذهان قصة (إستيليوس) وعمليات الحفْر المتكرّر في النبي دانيال بحثاً عن الإسكندر.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.