"عيشة قنديشة" جنيّةٌ تعيش في الأماكن النائية، حيث يوجد أثر للمياه: المستنقعات، الوديان، الأنهار. لا تخاف سوى النار، ويخافها المغاربة، يجسّدونها بأبشع الصور التي تخيف الأطفال، ويصدّقون تلك الصور، تغوي الرجال، يمارسون معها الجنس، وقبل أن ينتشوا بالأورغازم، تمتصُّ دماءهم قطرة قطرة.
"قنديشة" في الأصل، كما يُحكى، كانت في القرن الخامس عشر سيّدة اسمها "عائشة"، من أصلٍ أندلسي، طُردت مع عائلتها إلى المغرب، وأصبحت مقاومة بعدما قُتل زوجها على يد البرتغاليين، إذ ساعدت الجيش المغربي في حربه ضدّ البرتغال، اشتُهرت بجمالها الباهر فكانت تستخدمه لإغواء الجنود، واستدراجهم لمناطق معزولة ثمّ تذبحهم، وحين أعيت الجيش البرتغالي الحيل أشاعوا أنها جنيّة تسكن المقابر والأودية والمستنقعات كي يغطوا على ضعفهم.
إذا ذهبتم إلى المغرب، خاصّة في منطقة تمركز الأمازيغ، قرب شواطئ المحيط الأطلسي، سيحكون لكم قصصاً عن أصدقائهم، وأفراد عائلتهم، لم يسلموا منها.
"عيشة قنديشة" تشبه "إلهة الحب" المقدّسة عند القرطاجيين والفينيقيين والكنعانيين، "عشتار"، ولكنهم على النقيض من المغاربة، أقاموا على شرفها طقوس "الدعارة المقدّسة"
ولكنها بحسب فؤاد بلمير، باحث سوسيولوجي، تشبه "إلهة الحب" المقدّسة عند القرطاجيين والفينيقيين والكنعانيين، "عشتار"، فالجنس حاضر هنا، ولكنهم على النقيض من المغاربة، أقاموا على شرفها طقوس "الدعارة المقدّسة".
مؤسّس "علم اجتماع" المغرب: "جنية نادرة"
في كتابه "الأساطير والمعتقدات بالمغرب" يُشير عالم الاجتماع ومؤسّس السوسيولوجيا المغربّية، بول باسكون، إلى أن "عَيْشة قنديشة"، هي واحدة من الجنِّ النادرين بالمغرب؛ أُضفي عليها اسم علم، وشخصية محدَّدة، حتى وإن كانت مزدوجة.
بالنسبة لبعض المغاربة هي شابة، ساخنة، تعشق الرجال، وتُغوي عُشَّاقها، وتسحرهم، ثم تلتهمهم، ولآخرين هي ساحرة، شمطاء، حسودة، تلتذّ بالفصل بين الأزواج.
باسكو أيضاً يرى، في كتابه، أن "عَيْشة" هي "عشتار" إلهة الحبِّ القديمة، التي كانت معبودةً على امتداد البحر الأبيض المتوسط من قبل الكنعانيين والفينيقيين والقرطاجيين، كما كانت تغذِّي عبادة الدعارة المقدّسة.
"إذا كانت عَيْشة قنديشة لم تعد تخيف اليوم سوى الأطفال، فإن الأمر يحتاج للكثير كيلا يكترث لها الراشدون، حتى وإن كانوا أساتذة جامعة" بول باسكو
ويسخر باسكو من خوف الرجال المغاربة من "عيشة"، يقول: إذا كانت عَيْشة قنديشة لم تعد تخيف اليوم سوى الأطفال، فإن الأمر يحتاج للكثير كيلا يكترث لها الراشدون، حتى وإن كانوا أساتذة جامعة، وإن ذكر اسمها في مدرّجٍ بإحدى الكليات يثير ضحكات عصبيّة، ليست ساخرة دائماً.
يحكي باسكو أن أحد أساتذة الفلسفة الأوروبيين، قرّر بعد أن شرع في كتابة رسالةٍ عنها، أن يحرق كلَّ ما دوّنه من وثائق ويوقف أبحاثه، بعد أن وقعت له أحداث عديدة لا تفسير لها.
"سيدة الرداء الأبيض تخطف الرجال"
عيشة القنديشة، أو لالة عيشة، أو عيشة السودانية، أو سيدة المستنقعات هي أسماء أطلقت على الجنية الأكثر شعبية في المغرب. ترسمها الخرافة على أنها امرأة بالغة الجمال تخفي خلف ثوبها الأبيض قدمين تشبهان حوافر الجمال أو البغال أو الماعز. ويُزعم أنها تظهر ليلاً في الغابات وبجوار المجاري الراكدة وأن عشاءها المفضل هو لحم الرجال.
ويُقال إن جمال عيشة القنديشة فائق الوصف وأنها تفتن كل رجل يراها فتغويه وتستدرجه إلى وكرها وتمارس الجنس معه ثم تقتله وتتغذى بلحمه وتشرب دمه.
وبحسب الأسطورة، لا شيء يقهرها إلا النار. ففي إحدى الروايات عنها، يحكى أنها اعترضت سبيل رجال كانوا في طريقهم عائدين إلى قريتهم فأوشكت على الإيقاع بهم إلا أنهم نجوا بعد أن أحرقوا عمائمهم وذلك بعد أن لاحظوا أن أرجلها هي أرجل ماعز.
ويُحكى عن وجود سيّدةٍ في رداء أبيض، ناصع، تتجوّل في الشوارع المظلمة بمدينة الدار البيضاء في التسعينيات، ويقال إنهم سمعوا صرخاتٍ لرجالٍ مشرَّدين ولم يتم العثور عليهم في صباح اليوم التالي.
وتحكي مي يامنة، 85 عاماً، في حديثٍ لـ"رصيف22"، أنها حرصت على حماية أحفادها عندما كانوا رضّعاً، بعدم تركهم لوحدهم، وإشعال النار وسط البيت لـ"تحصّنه من هذه الروح الشريرة".
وتذكر بعض الروايات الشعبيّة أن "عيشة قنديشة" تخطف الأطفال الرضّع الذكور وتقتلهم.
وتنتشر أسطورة عيشة القنديشة بين مكناس وسيدي سليمان في المغرب انتشار النار في الهشيم، ويُحكى أنها تظهر في بعض الأماكن مثل حفرة لالة عيشة في قرية سيدي راشد في مكناس.
وقال عبد الرحيم العمراني، مقدم في الزاوية الحمدوشية في مدينة فاس: "تأتي الفتيات والنساء إلى ضريح حدماشي كل خميس معتقدات أن هذا المكان مخصص لها"، وأكّد أن "هذه المعتقدات انتشرت بين الناس، ولكن هذا المكان هو مكان للعبادة فقط".
وتقوم النساء اللواتي يظنّن أنهنّ مسلوبات ومسكونات من طرف عيشة القنديشة بطقوس غريبة من وضع الحناء على الشعر لإكسابه اللون الأحمر، ولبس الأسود في احتفال يقام على شرفها والرقص بشكل غريب على موسيقى خاصة. ويتم التقرب منها بالشموع وبوضع الخبز والزيتون في أماكن ظهورها كقربان لها.
وقال الباحث الاجتماعي المغربي مراد محمد إن "المغاربة معروفون بتشبثهم بالتقاليد، وهي في معظمها ترتبط بطقوس تدخل ضمن ما يسمى بالخرافة، فهناك مَن يخشى الجن أكثر من خوفه من الله، وهذا ناجم عن اليأس".
وقالت سكينة بوراوي، خريجة اختصاص علم الاجتماع: "اعتقاد شريحة كبيرة من المجتمع المغربي بهذه الأسطورة هو واقع لا يمكن إنكاره، ويصل الأمر إلى الاعتقاد بأن مجرّد لفظ اسمها يجر اللعنة على ناطقه".
"عيشة" خرافة المقهورين
يفسّر زكريا أكضيض، باحث في علم الاجتماع بمركز مدى للدراسات والأبحاث الإنسانيّة، تلك الحكايات بأن المجتمع المغربي يمارس سلطةً قهريةً قويّةً على الأفراد، إلى الدرجة التي يعجزون فيها عن التحرّك خارج تلك السلطة.
ويضيف زكريا لـ"رصيف22" مشدّداً على دور حالة "القهر" في خلق خرافة "عيشة قنديشة": أيّ تحرّكٍ خارج هذه السلطة يعرّض صاحبه للعقاب، سواء كان عقاباً مادياً أو عقاباً رمزياً، والنتيجة بطبيعة الحال: فرد مكبوت.
"المجتمع المغربي يمارس سلطةً قهريةً قويّةً على الأفراد، إلى الدرجة التي يعجزون فيها عن التحرّك"
يصرف الفرد هذا المكبوت الجماعي أو هذه الرغبات التي لا يستطيع التعبير عنها داخل المجتمع، بطريقةٍ مَرَضيّة نوعاً ما، عبر وسائط الأسطورة مثل "عيشة قنديشة" باعتبارها "وسيطاً يعبّر عن ذلك المكبوت الجماعي أو تلك المعاناة الجماعيّة التي يعانيها الأفراد داخل المجتمع"، بحسب زكريا.
يشرح أكثر: عندما يتحدّث شخص أن "عيشة قنديشة" تسكن جسداً آخر، فهذا الشخص لا يعبّر من خلال "عيشة قنديشة" إلا عن معاناته الاجتماعيّة، وعن تجربته الاجتماعيّة، وعن علاقته المتوترة مع هذا المجتمع، الذي يمارس داخل مؤسّساته، حتى الأسرة، سلطةً قهريّة، والمتنفّس الوحيد يتجسّد في وسيطٍ أسطوري مثل "قنديشة".
ويربط بلمير في تصريحات لـ"رصيف22" خرافة "عيشة قنديشة" بموقف المجتمع المغربي الذكوري من المرأة، الرجل لم يحاول أن يفهمها، ويتواصل معها بشكلٍ طبيعي، وهذا منذ قرون رغم أن الدين الإسلامي "لطّف نوعا ما" من صورتها، ولكنها ظلّت في الخيال المغربي بمكانةٍ دونيّة، وإذا أبرزت المرأة مكانتها، وذكاءها، وتفوّقها، لا يستوعب الرجل ذلك، يجرّدها من إنسانيتها، ويعطيها صفة "جنيّة" لأنها خرجت من طوعه.
عندما يصف المغاربة امرأة قوية، وشجاعة، وذكية، يقولون إنها "جنية" في سياق المديح والثناء، وعن ارتباط الجنس بالدم والقتل في خرافة "عيشة قنديشة" يرى بلمير أن المسألة "ثقافيّة"، يقول: عندما كان يتبنّى سكان المغرب الأوّلون الديانة اليهوديّة، ثم المسيحيّة، وبعد ذلك الإسلام، نجد أن القرابين كانت دائماً حاضرة، والقرابين تقدّم إلى الآلهة، إذن فالدم كان حاضراً، وبقي حاضراً ومترسّخاً في ثقافتنا.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ ساعة??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 21 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون