غدت حمّامات السوق في أيامنا هذه نشوة من ماضي الذكريات، مثّلت حتى وقت قريب مظهراً من مظاهر الحياة في دمشق كما العديد من المدن السورية الأخرى، وملتقى أساسياً للحياة الاجتماعية، يرتادها الناس ليمضوا وقتاً هنياً في الاغتسال وتناول أطباق هي بمثابة اللازمة في كل زيارة للحمام، كالمجدرة والصفيحة، واحتساء الشاي "الأكرك عجم" والكركديه، علاوة على إحياء مناسبات اجتماعية، مثل حمام العرس للرجال وحمام النفاس للنساء.
وتمثّل هذه الحمّامات ببنائها الفريد وجهاً من وجوه العمران في سوريا، وحسب ما جاء في كتاب "مختصر تاريخ دمشق" لابن عساكر، فقد خاطب الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك يوم بناء المسجد الأموي، أهل دمشق قائلاً: "ألا وإني بما رأيتكم يا أهل دمشق، تفخرون على الناس بأربع خصال (...) بهوائكم، ومياهكم، وفاكهتكم، وحماماتكم، فأحببت أن يكون مسجدكم الخامس".
تميزت رحلة الرجال لحمامات السوق بدمشق بالأغاني والطقطوقات التي كانوا يبدعون بترديدها.
وامتازت حمامات السوق بدمشق بإتقان التصميم وغزارة المياه وحسن الخدمات والاهتمام الكبير بالزبائن، وقد ذكر ابن عساكر أسماء 57 حماماً كانت تعمل في زمانه داخل دمشق، وفي مخطوط موجود بالمكتبة الظاهرية بدمشق باسم "عدة الملمات في تعداد الحمامات" لكاتبه يوسف بن عبد الهادي، وثّق بالاسم وجود 102 حمام بالاستعانة بتوثيق المؤرِّخَين ابن شداد الموصلي والأربلي.
تُعدّ بعض هذه الحمامات روعة من روائع العمارة كحمامات التيروزي، الظاهر بيبرس، نور الدين الشهيد وحمام الورد، ولم يتبق منها اليوم سوى عدد لا يتجاوز أصابع اليدين، فيما تحوّل بعضها لصالات لإحياء المناسبات الاجتماعية، كحمام فتحي في حي الميدان، وبعضها الآخر أصبح طي الإهمال والنسيان.
واعتادت نساء دمشق ارتياد الحمامات من الصباح وحتى العصر، ليس بقصد الاغتسال فقط، وإنما شكل الحمام المكان الأنسب للبحث عن زوجات لأولادهن، أما الرجال فاعتادوا زيارتها من العصر حتى منتصف الليل، إضافة ليوم الجمعة بقصد الاغتسال للذهاب إلى صلاة الجمعة على "طهارة"، وهذه من المواقف الطريفة التي يتحدث عنها "الشوام العتاق" أي القدماء، فهم يقولون على سبيل النكتة بأن صاحب الحمام لديه جدول لكل رجل مارس الجنس مع زوجته ليلة الخميس، فمن لا يزور الحمام يوم الجمعة لم يمارس الجنس في الليلة السابقة.وإضافة لطقس الجمعة الروتيني، اعتاد الرجال الذهاب إلى الحمّام بصحبة الأصدقاء والأحبة والأهل، فيقضون ساعات طويلة بتبادل الأحاديث والنوادر والنكت إلى جانب الغناء والطرب، وما ميّز رحلات الرجال إلى حمّامات السوق هي الأغاني والطقطوقات التي كانوا يبدعون في ترديدها، ولا تخلو من إيحاءات جنسية وذكورية، ولا يزال الكثير منها معروفاً في أوساط الدمشقيين ومتناقلاً بالتواتر الشفهي حتى يومنا هذا.
البراني والجواني ولعبة "المسندحة"
يبدأ حمام الرجال من قسم "البرّاني" أي الخارجي، حيث يخلعون ملابسهم ويلتحفون المناشف التقليدية وينتعلون "القبقاب" ويتوجهون للقسم "الوسطاني" ذي الحرارة المتوسطة، لتهيئة الجسد حرارياً لدخول القسم "الجواني" أي الداخلي، فيفترش الرجال الحواف الحجرية العريضة في هذا القسم ويبدؤون بتبادل الأحاديث والنكات، وعندما يشعرون بأن حرارة أجسادهم أصبحت جاهزة ينتقلون للقسم الجوّاني الذي يحتوي على إيوانين متقابلين، يحتوي كل منهما على جرن أو أكثر للماء الساخن.
تجري طقوس الاستحمام بمساعدة الريّس أو المكيّس، وهو العامل المختص بتلييف الزبون بالصابون والماء الحار، ويتميز بقوة عضلية تساعده على أداء مهمته بشكل يرضي الزبون، وأيضاً يقوم "التبع"، وهو مساعد المكيس، بتغسيل رأس الزبون بالصابون وتلبية ما يحتاجه الرجال في القسم الجوّاني.
وما إن ينتهي التبع حتى يدخل الرجال كل على حدة إلى إحدى المقصورات الموجودة في الجوّاني بقصد خلع المنشفة وإكمال الاغتسال حفاظاً على الخصوصية، وبعد الانتهاء من الاستحمام يخرجون إلى باحة الجوّاني وتبدأ سهرتهم بلعبة "المسندحة"، فيقف أحدهم ويضع يده على خده والأخرى تحت إبطه بحيث تكون مفتوحة لتلقي ضربات الآخرين، وعلى ذلك اللاعب معرفة من صفعه على كف يده، وما إن تنتهي اللعبة حتى تبدأ طقوس الغناء والنكات، واعتمد الرجال على أسلوب فريد في ترديد هذه الأغاني حيث كانوا يبدؤون جلستهم بأقل "الطقطوقات زعرنة" حسب توصيفهم، بقصد "التطفيش" أي دفع من لا تعجبه هذه الأمسية إلى المسارعة في الاغتسال والمغادرة.
أغانٍ تمهيدية
ينتصب المؤدي ويحمل بيده ليفة الاغتسال، وعلى يمينه ويساره شبان يحملون "طاسة الحمام" كأداة موسيقية، ويبدأ بالغناء:المؤدي: يُهْ يُهْ بعدك لاحئني يُهْ يُهْ
الجميع: بعدك لاحئني
المؤدي: لاحئني لا ترعبني، وأنا حبلة لا تطرحني يُهْ يُهْ
الجميع: بعدك لاحئني
المؤدي: لاحئني لراس السوء (السوق) يُهْ تضرس ما بتزوء، بالله عليك تتركني يُهْ يُهْ
الجميع: بعدك لاحئني
المؤدي: ناطرني عالشباك واشتلئوا علينا الشباب وأهلي دربسوا البواب يُهْ يُهْ
الجميع: بعدك لاحئني
وما إن ينتهي المؤدي حتى يغرق الشباب في نوبة من التصفيق والصفير والضحك.
وتزداد الطقطوقات والأغاني إيحاءات جنسية، فيبدأ آخر بأغنية "يا عيني على هالبنات":
الجميع: يا عيني على هالبنات سكر نبات سكر نبات
المؤدي: لمن بيمشوا من حدي ركابي ما بتعود تهدي
الجميع: يا عيني على هالبنات سكر نبات سكر نبات
المؤدي: مين بشوف فرافير وعقلوا من راسو ما بطير
الجميع: يا عيني على هالبنات سكر نبات سكر نبات
المؤدي: بناموا متل العصافير بيفيقوا متل الغزلان
الجميع: يا عيني على هالبنات سكر نبات سكر نبات
وتكون هذه الأغنية بمثابة الفرصة الأخيرة للراغبين بالمغادرة قبل أن يرتفع مستوى الحماسة وتبدأ الأغاني "الغميقة".
يقول "الشوام العتاق" على سبيل النكتة بأن صاحب حمام السوق لديه جدول لكل رجل مارس الجنس مع زوجته ليلة الخميس، فمن لا يزور الحمام يوم الجمعة لم يمارس الجنس في الليلة السابقة
مرحلة أخرى
على وقع التصفير والتصفيق يبدأ المؤدي أغنية "عالدادا لي" التراثية والتي لا يعرف من هو مؤلفها، وقد وثقتها الكاتبة السورية سهام ترجمان في كتابها "يا مال الشام" ضمن فصل "أوها يا عريس لا تعبس":
الجميع: عالدادا لي عالدادا لي، وهالنألة نألة غزالي
المؤدي: لبست بدلة وشلحت بدلة، وتحت البدلة شي ضوّالي
الجميع: عالدادا لي عالدادا لي، وهالنألة نألة غزالي
المؤدي: لبست شلحة وشلحت شلحة وتحت الشلحة شي مخبّى لي
الجميع: عالدادا لي عالدادا لي، وهالنألة نألة غزالي
المؤدي: لبست لولو وشلحت لولو وتحت اللولو شي نادالي
الجميع: عالدادا لي عالدادا لي، وهالنألة نألة غزالي
وحالما ينتهي المؤدي، ينتصب آخر لغناء درّة السهرة، طقطوقة "يا ريتني خلقان برغوت"، للمونولوجيست السوري سلامة الأغواني، وقد وثقها الباحث منير كيال في كتابه "في العرس الشامي":
ياريتني خلئان برغوت ولوني أبيض متل الشّحم
وين مابدّي كنت بفوت وبغلغل بين اللحم
شو أعمل لكون برغوت وين ما بدّي كنت بفوت
كنت بشمشم وين ماكان وخصوصي تحت الباطات
ولمّا بعلأ بالرمان دغري برخي الفرامات
ولمن بمشي ما بوقف غير بأعظم المحطات
شو أعمل لكون برغوت وين ما بدّي كنت بفوت
كنت بلاعب هالستات وما بترك وحدة تفلص
ودوم بشغل هالبنات ومطرح ما بدّي بئرص
ولمّن وحدة بتكمشني من بين أصابيعها بفلص
شو أعمل لكون برغوت وين ما بدّي كنت بفوت
والله البشعة بهلكها وما بخلّيها ساعة تنام
ودوم الحلوة براضيها وخصوصي بعد الحمام
بهدّ عليها بلطافة وبخلّيها أوام تنام
شو أعمل لكون برغوت وين ما بدّي كنت بفوت
اعتمد الرجال على أسلوب فريد في ترديد الأغاني داخل حمام السوق، فكانوا يبدؤون جلستهم بأقل "الطقطوقات زعرنة" حسب توصيفهم، بقصد "التطفيش" أي دفع من لا تعجبه هذه الأمسية إلى المسارعة في الاغتسال والمغادرة
حمام العرس
إضافة لهذه الأغاني والطقطوقات، كان لحمام العرس طقوسه الخاصة، بداية من حلاقة شعر العريس وممارسة الطقس المحبب لدى "العزابية" بوخزه بدبوس للتأكد من قدرته على تحمل الألم كدليل على "رجوليته"، وصولاً إلى إبداء نصائح جنسية له حتى "يقطع راس القط من ليلة العرس"، وكل هذا يجري أثناء الاستحمام في الجوّاني.
وما إن تنتهي حفلة النصائح الجنسية حتى يبدأ البعض بترديد طقطوقات محفّزة للعريس، كقطقوقة "يا ست ويا بنت"، و"يا مليحة هادويني":
يا ست ويابنت إيمي هالغطا وارميه
يحرء يلي حيكو ويلي سعالك فيه
الوش دورة قمر والورد فتح فيه
والصدر فسحة ميدان لأب العم يلعب فيه
يا مليحة هادويني
وإن أخدتيني خديني
وإن أخدتك لأحرق دلك
على صديرك لاعبيني
على صديرك يا بنية
كان لحمام العرس طقوسه الخاصة، بداية من حلاقة شعر العريس وممارسة الطقس المحبب لدى "العزابية" بوخزه بدبوس للتأكد من قدرته على تحمل الألم كدليل على "رجوليته"، وصولاً إلى إبداء نصائح جنسية له حتى "يقطع راس القط من ليلة العرس"
وبهدف إخصاب مخيلة العريس الجنسية يبدأ بعض المتزوجين بتحريف أغنية "يا قضامة مغبرة" الدمشقية المعروفة:
يا قضامة مغبرة ويا قضامة ناعمة
شوف عيني شوف، شوف روحي شوف
شوف حركاتي الناعمة
جبتلها الحمرة بالورقة، قالتلي شفافي ما بتلقى
قلتلها تعالي يا رشقة، حمرتها وهي نايمة
جبتلها الشلحة بالورقة، قالتلي جسمي ما بيلقى
قلتلها تعالي يا رشقة، لبستها وهي نايمة
جبتلها السوتيان بالورقة، قالتلي صدري ما بيلقى
قلتلها تعالي يا شبقة، زررتها وهي نايمة
وبقصد الطرافة وإثارة غيرة الشباب "العزابية" يقول العريس:
هاد العزابي يا دله
مافي مين يغسل له
داير على جيرانه
بقمله وصيبانه
صابونته بجيبته
الله يلعن هيبته
وما إن ينتهي الاستحمام ونوبة الغناء حتى يدعو صبي الحمام الرجال للتوجّه نحو البرّاني، حيث تبدأ مراسم تلبيسة العريس من قبل إخوته وأصدقائه، وتضميخه بالعطور وفتل شاربيه بملقط محمى على النار بعد دهنهما بمادة الزباد، ويركّز له الطربوش على رأسه استعداداً للانطلاق في عراضة العرس.مثّلت طقوس حمام السوق هذه جزءاً أساسياً من تراث شعبي غني من العادات والتقاليد الاجتماعية التي سيطرت على حياة الدمشقيين لعقود طويلة، ولا زال الكثير ممن عايشوها يتحدثون عنها بنوع من الحنين، أما اليوم فتراجع دور هذه الحمامات نتيجة الحداثة وتغير نمط الحياة وتوفر المياه والحمامات داخل المنازل.
ورغم ذلك يحرص بعض الشبان على زيارتها في مناسبات عدة مثل ليلة العيد، في مسعى لممارسة طقس اعتاد عليه الآباء والأجداد، مع فارق واحد هو إصباغ هذه الزيارة بطابع معاصر، فقد استبدلت الأغاني التراثية بأغانٍ شبابية، كما باتت الحمامات تقدم خدمات حديثة كالساونا والجاكوزي، وكما يقول بعض الدمشقيين "لم تعد حمامات اليوم تشبه حمامات الأمس إلا بالاسم فقط".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...