تحاول ميساء (27) عاماً، وهي مغمضة عينيها، أن تستلذ بشعور الراحة والمياه الساخنة المتدفقة من بركة الجاكوزي، تتغلغل في عظام جسدها المرهق من تمرين رياضي فرغت منه قبل دقائق، وأن تسترخي من عناء يوم عمل متعب وطويل، لكن الصوت الذي باغتها بسؤال: "قديش عمرك؟"، قتل تلك اللحظة.
الصوت جاء من سيّدة ستينية، وفق حديث ميساء لرصيف22، رأتها عندما فتحت عينيها، جالسة بجانبها في البركة في قسم السيدات، ضمن النادي الرياضي الذي تلتحق به الشابة. وبكل احترام أجابت، مع ابتسامة لطيفة على السؤال، وعادت لتغمض عينيها لكنها لم تفلح بذلك، لأن السيدة باغتتها بسؤال آخر: "متزوجة؟".
قصّة ميساء هي واحدة من قصص لفتيات أردنيات تحدثن لرصيف22، عن مواقف تعرّضن لها في صالات وحمامات أقسام النساء في نواد رياضية. تشابهت جميعها بعروض زواج قُدّمت لهن من قبل سيدات يقصدن النوادي للبحث عن عروس المستقبل لأبنائهن، فيما يبدو أسلوباً جديداً قد يتحول إلى "موضة".
نساء العائلة يخترن العروس
في الأردن، كما في العديد من بلدان المنطقة، جرت العادة أن تقوم النساء بعملية البحث والفحص والتنقيح ومن ثم الاختيار لعروس الابن المستقبلية، وذلك في الأعراس والحفلات، وأحياناً حتى في بيوت العزاء، التي تخفف عبء اكتشاف شكل الفتاة دون مساحيق التجميل وتسريحات الشعر، لكن أماكن البحث عن عروس أصبحت تتخذ أسلوباً جديداً وذكياً، وهو الاتجاه إلى النوادي الرياضية.
تقصد سيدات أردنيات النوادي الرياضية للبحث عن عروس المستقبل لأبنائهن.
فوجود ميساء داخل بركة الجاكوزي بلباس السباحة، أعطى السيدة فرصة سهلة لفحص هيئة جسمها، التي يبدو أنها أعجبتها. وعندما أجابتها ميساء بأنها غير متزوجة، ردت عليها بسؤال: "مش حرام هالجمال كله لساتها مش متزوجة؟". تقول ميساء: "بعد السؤال الثالث، عرفت أنني أشبه بالحشرة الموضوعة أسفل مجهر بعدستي تكبير وتصغير، والسيدة تبحث معي عن أسباب عدم زواجي حتى الآن، وعيناها ترصدانني من شعري وحتى قدمي غير الواضحتين أسفل مياه البركة".
وتضيف الشابة: "من جملة الأشياء التي لفتتني بجرأة تلك السيدة، نبرة صوتها الخافتة، وهي أشبه بنبرة محقق المخابرات، الذي يتبع الأسلوب الرزين ليبث الاطمئنان ويحصل على الأجوبة التي يريدها. كما أن محاولاتي بأن تكون أجوبتي قصيرة لحرصي على احترام خصوصيتي كانت فاشلة، إذ أصرّت السيدة على التوسع في دائرة أسئلتها حتى وصلت لمعرفة اسم عائلتي، عدد أفراد أسرتي وطبيعة عملي، حتى أنها تجرأت على سؤالي حول راتبي! هذا السؤال الذي لم يطرحه عليّ والدي يوماً".
وبعد أن سحبت السيدة من ميساء بعض الإجابات على أسئلتها التحقيقية، ختمت الجلسة بأن تقول: "اعطيني رقم أهلك، حابين نزوركم أنا وابني، عمره 33 ومحاسب قد حاله، وقاعدين بندوّر على عروس حلوة مثلك. زرنا أكتر من بيت وحابين نزوركم".
تشبّه ميساء هذا الطلب "بالصفعة" التي جمّدت قدميها لثوانٍ: "تتحدث معي كأنني فستان أو حذاء أو حتى أثاث بيت تريد أن تختاره بعناية!".
هل أعطيتها رقم عائلتك؟ سألت ميساء في ختام حديثنا، وأجابت: "أعطيتها جواباً أتمنى أن يبقى يرن في أذنها، قلت لها: 'أنا مش بضاعة ولا بوكسة بندورة خالتو، تشرّفت بمعرفتك'، وخرجت من البركة وشعور وابتسامة الانتصار معي".
"أعجبت بتفاصيل جسمك وأنت ترقصين"
من برك الجاكوزي إلى حمامات النساء في النوادي الرياضية، تتجه وجهة الباحثات عن عروس لأبنائهن، مثل ما حدث مع نسرين (31) عاماً، والتي تخبرنا قصتها: "بينما كنت أستحم بعد انتهائي من التمرين الرياضي، شعرت أن هناك امرأة تقف خلف الباب. رجّحت أنها فتاة تنتظر أن يأتي دورها، وهو ترجيح منطقي، فمن غير المنطقي أن أخرج وأجد أمامي سيدة كبيرة في العمر تقول لي: بدي إياك بموضوع!".
"موضوع؟" تسأل نسرين، وتضيف: "أي موضوع ممكن أن يجمعني بسيدة لا أعرفها؟ سألتها: بدك شي خالتو؟ محتاجة شي؟ لأنني افترضت حسن النية بأنها بحاجة لمساعدة، أو لشامبو مثلاً! لا أن يكون الموضوع هو بحثها عن عروس لابنها!".
وتضيف: "علمت أن السيدة وضعتني ضمن خياراتها، عندما جلسنا لنتحدث. قالت بجرأة: راقبتك منذ أن كنت في حصة الزومبا، ولفتّي انتباهي كثيراً وأنت بترقصي وأعجبت بتفاصيل جسمك، ما شاء الله عليك، يا رب ما تكوني خاطبة أو متزوجة".
ما سبب تلك الدعوة؟ سألت نسرين السيدة، وأجابتها: "لأنك بالضبط مثل 'الستايل' الذي يحبه ابني، ابني ما بعجبه أي حدا، بحب البنت مثلك، مش طويلة كثير وجسمها متناسق، وطبعاً بيضاء"، وهي كلمة قالتها مع ضحكة خبيثة.
تستكمل نسرين رواية القصة: "عندما ختمت مواصفات الفتاة التي يحبها ابنها، وأنا تعمّدت أن أنصت إليها بصمت، أصابني الفضول حول جرأة هذه السيدة التي تابعت بسؤالي عن عمري وعملي، وما إذا كنت أقبل العيش في كندا مع ابنها الذي يعمل هناك".
علمت أن السيدة وضعتني ضمن خياراتها، عندما جلسنا لنتحدث. قالت بجرأة: راقبتك منذ أن كنت في حصة الزومبا، ولفتّي انتباهي كثيراً وأنت بترقصي وأعجبت بتفاصيل جسمك، ما شاء الله عليك، يا رب ما تكوني خاطبة أو متزوجة
ما هو الحال الذي يوصل شاباً أردنياً مغترباً في أبعد القارات لأن يطلب من والدته اختيار عروس له؟ واحدة من الأسئلة التي راودت نسرين وهي جالسة بجانب "أم العريس" التي كانت تنظر إليها بعين فاحصة، حتى شعرت الفتاة بشرارة اجتاحت شعرها المبلل وملامح وجهها حتى رقبتها، وتتابع: "عندما علمت السيدة أن عمري 31، لمست تغيراً في ملامح وجهها، رافقتها تنهيدة سمعتها بأذني، لكن سرعان ما طبطبت على نفسها، عندما أخبرتني أن عمر ابنها 44 وله ابن من زوجة كندية طلقها".
وتختم نسرين روايتها كما ختمت حديثها مع تلك السيدة: "شكراً على الإطراء، لكن والدي رحمه الله علمني بألا أسمح لأحد أن ينظر إليّ كأنني سلعة، فلا شخصي ولا روحي ولا لحمي رخيص مستباح لتفحّصه، وأهم شيء علمني إياه أن يكون شريك حياتي من اختيار قلبي وحده".
"أفضّل الطرق الحديثة"
بينما كانت عنود (25) عاماً تتمرّن على أحد الأجهزة في النادي الرياضي، شاركتها في الجهاز القريب سيدة، ترجّح عنود أنها في منتصف الستينيات من العمر، لكن اللافت في عرض تلك السيدة وبحثها ما إذا كانت عنود "خياراً مطروحاً" بأن تكون عروساً لابنها، هو أنه كان عرضاً "من الباب للطاق"، أي مباشراً للغاية، كما تصفه الفتاة في حديثها مع رصيف22.
تتحدث معي كأنني فستان أو حذاء أو حتى أثاث بيت تريد أن تختاره بعناية!
"بعد أن ألقت السيدة التحية، أخبرتني فوراً أنها مشتركة جديدة في النادي، ومنذ قرابة الأسبوع وهي تقصد هذه القاعة للبحث عن فتيات، تصلح واحدة منهن زوجة لابنها"، تروي الشابة، وتضيف ما جاء على لسان تلك السيدة: "أنا لا أفضل الطريقة القديمة 'الأولد فاشن'، كأن نزور عائلات الفتيات في بيوتهم، فابني الأكبر زوجته عن طريق بحثي عن صور فتيات على فيسبوك، واستطعت أن أختار من تستحقه خلال رصدي الفيسبوكي. أفضّل الطرق الحديثة 'المودرن'".
بالطبع استفزت هذه الكلمة عنود، فهي تتناقض مع المعنى الحقيقي لأن تبحث الأم عن عروس لولدها بدلاً من أن يختار لنفسه، وكان جواب السيدة حاضراً: "شعرت أن البحث عن عروس في النوادي الرياضية طريقة أحدث، وصدقيني استطعت أن أرصد أكثر من خيار، مثل رصدي لك منذ حوالي النصف ساعة. أعجبني شكلك وهيئتك. ما قلتيلي كم عمرك؟".
"جوابي كان: بدك تعرفي عمري خالتو؟ عمري هو أنني طوال عمري لن أقبل بالزواج بهذه الطريقة، أنا مش مانيكان على واجهة محل ملابس"، أجابت عنود، وختمت: "رميت هذه العبارة في وجهها، ووضعت السماعات على أذني واستكملت تمريني على أغنية 'كلمتي حرّة' للفنانة التونسية آمال مثلوثي!".
شكراً على الإطراء، لكن والدي رحمه الله علمني بألا أسمح لأحد أن ينظر إليّ كأنني سلعة، فلا شخصي ولا روحي ولا لحمي رخيص مستباح لتفحّصه، وأهم شيء علمني إياه أن يكون شريك حياتي من اختيار قلبي وحده
ممارسات اجتماعية تقليدية
في لقاء مع رصيف22، علقت أخصائية علم الاجتماع، الدكتورة فاديا الإبراهيمي، على هذه الحكايات بالقول: "كثيراً ما يستسلم شبابنا للممارسات الاجتماعية التقليدية، ويتنازلون عن حقهم المصيري في اختيار شريكة حياتهم، لتحصل الأم على هذه المهمة وتمارسها بكل ثقة وفخر، ما يدعمها بمزايا نفسية واجتماعية، فتشعر أنها صاحبة السلطة ومصدر الثقة لابنها المطيع الذي لا يستطيع أن يذهب بعيداً عن رأيها ومشورتها".
وتضيف: "لأن مجتمعاتنا، كانت وما زالت، تقيّم المرأة من خلال شكلها، تركض الأم وراء الأجساد والوجوه الجميلة، وتتصيد المناسبات الاجتماعية التي تستطيع من خلالها معاينة وتقييم أجساد الفتيات بشكل أفضل للحصول على 'غنيمة' جيدة، وغالباً تكون الأفراح والنوادي مكاناً مناسباً لذلك".
وترى المتحدثة بأن الزمن تغير، وما كان يصحّ ممارسته في الماضي أصبح غير ملائم في وقتنا الحاضر، وتضيف: "من حق الفتاة ألا تعامل كسلعة، وأن تُصان كرامتها الإنسانية، وأن ننظر لها كإنسان كامل عقلاً وقلباً وروحاً وليس جسداً فقط، ويجب أن تُدرك الأمهات أن طرق الزواج اختلفت، وعليهن التوقف عن ممارسات تنتهك خصوصية الفتيات وتسبب لهن الإحراج والامتهان".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...