"الحمام نعيم الدنيا، وإذا أنعم عليك الزمان غسيل وروح على الحمام، ودخول الحمام مو متل خروجه"... أمثال شعبية متداولة بين السوريين إلى يومنا هذا، تعكس مكانة الحمام الكبيرة في الحياة الاجتماعية للأجداد.
كان الحمام مكاناً للمؤانسة وتبادل الآراء والأفكار إضافة لكونه مكاناً للنظافة والاغتسال. فالبيوت السورية والدمشقية على اختلاف تصاميمها ومساحاتها، وعلى الرغم من سعتها وتعداد غرفها، ووجود نافورة الماء وسط أرض الديار فيها، كانت تخلو من حمام داخل البيت، إلا في بعض القصور الكبيرة، وكان كل حي يمتلك حماماً كبيراً يطلق عليه حمام السوق يتميز عن غيره بخدماته وفن بنائه وعراقته وتصاميمه.
وقد لعبت الحمامات دوراً جلياً في الحياة الاجتماعية للسوريين مطلع القرن العشرين، ودخلت في نسيج العادات والتقاليد والأمثال الشعبية، ورافق زيارة الحمام الكثير من الطقوس الخاصة التي تتوافق مع كونه مكاناً لاجتماع الأهل والأصدقاء، ومكاناً للتسلية، ولإقامة المناسبات الاجتماعية وحفلات السمر والغناء.
فإن كنتم لم تزوروا الحمامات الدمشقية من قبل، ولم تتعرفوا على طقوسها، فتعالوا في جولة ممتعة على تاريخ الحمامات الدمشقية وفنها المعماري، وأهم الطقوس والعادات الاجتماعية المتعلقة بزيارتها.
تعود للعصر الروماني أم الأموي؟
اشتهرت دمشق بحماماتها الخاصة والعامة منذ مئات السنين، وكانت الحمامات الشعبية بمائها وزخارفها وخدماتها، تعكس وجهاً تراثياً من وجود مدينة دمشق وتميز الدمشقيين عن سواهم. فذكر بعض المؤرخين أن تاريخ الحمامات في دمشق يعود إلى العصر الأموي، حين قال الخليفة الأموي الوليد بن عبدالملك، عند بنائه مسجد دمشق الأموي الكبير: "يا أهل دمشق تفخرون على الناس بأربع خصال، بمائكم وهوائكم وفاكهتكم وحماماتكم، فأحببت أن يكون مسجدكم الخامسة".
في حين ينسب مؤرخون آخرون تاريخ الحمامات الدمشقية إلى العصر الروماني، وما زالت آثارها حاضرة كفن من فنون الحضارة الرومانية القديمة. وسحرت هذه الحمامات بفنها العديد من المؤرخين العرب والأجانب الذين خلدوها في كتاباتهم .
وقد تراجع دور الحمامات في فترة الحكم العثماني، وخصوصاً خلال الحرب العالمية الثانية، إذ أدى ضيق الحياة المادية، وظروف الحرب، إلى توقف عدد كبير من الحمامات، واعتباره نوعاً من الرفاهية.
طقوس الحمام
كانـت الحمامات تسـتقبل الرجال طلباً للطهـارة والنظافة صباحاً ومسـاءً، بينمـا تسـتقبل النسـاء مـن الظهر حتـى قبيـل المغـرب، ضمن شـروط خاصة، تحـرم دخول الرجـال أو حتـى اقترابهم من إدارة الحمـام. وكانت النساء يقصدن الحمام مرة أسبوعياً، وفي المناسبات، وعشية الأعياد. فكانت كل أسرة تذهب بمفردها أو مع مجموعة من الأسر التي تربطها أواصر القرابة أو الصداقة، وكانت كل أسرة تستأجر مقصورة واحدة، وفي مناسبات معينة تقوم بعض الأسر باستئجار الحمام كاملاً، كمناسبات الزواج والولادة والنفاس وغيرها.
وكان الذهاب للحمام بالنسبة إلى الكثير من النساء بمثابة السيران (النزهة) الأسبوعي، يقصدنه للاحتفال وإدخال السرور والبهجة إلى نفوسهن، وسرد السير والأخبار، وتقليد اجتماعي يمارسن جميع طقوسه، من تحضير بقجة الحمام، وهي صرة قماشية تحتوي على مستلزمات الحمام كالثياب النظيفة والبيلون والدريرة وصابون الغار والحنة والليفة وكيس التفريك والمناشف والمآزر، وهي قطع منسوجة يدوياً تستخدم لتغطية جسم المستحم.
كما يحضرن معهن الأطعمة والفواكه المنوعة، من صفيحة اللحم أو المجدرة والكشك وحراق بإصبعه، أو يكتفين بعرائس الزيت والصعتر، مع فواكه الموسم، خصوصاً البرتقال الذي كان يروي عطشهن بعد الاستحمام. وغالباً تذهب المرأة إلى الحمام مع أطفالها وبناتها وكنّاتها.
وفي المناسبات الاجتماعية، غالباً ما يُحجز الحمام كاملاً من قِبل أصحاب المناسبة، ليقوم المدعوون بالاستحمام والاستمتاع بأنواع الضيافة المختلفة، والغناء والرقص، وإطلاق الزغاريد. ومن الزغاريد الشامية التي كانت تردد في بعض المناسبات، كالزواج مثلاً:
"أوْها بِـبيـتنا رمّـانـة أوها حـامضـة و لفّـانـة أوها حَـلَفْنا ما نقطعـها أوها ليدخل عريسنا بالسلامة
أوها ديـارنا كـبـيـرة أوها ودَرَج الحـمام فيـها أوها وأم العريس فرحانة
أوها إن شاء الله ربي يهنّيها
أوها يا ما قعـدوا جنبـي أوها ويا ما حرقـوا قلبي أوها وقالوا فلان ما بيتجوز أوها تجوّز وربي نصرني".
كان حمام السوق المكان الأمثل للبحث عن عروس مناسبة للزواج، فالفتيات يظهرن على طبيعتهن، بدون مساحيق تجميل. وفي حال نالت إحدى الفتيات الإعجاب برشاقتها وجمالها ونظافتها، تقوم أم العريس بالتقرب منها، وسؤال المكيسة عن وضعها وأهلها وعنوانها. كما كان للعروس والعريس طقوس خاصة للحمام، فكانت العروس تستحم قبل زفها إلى عريسها، مع تقاليد الحنة في الحمام. في حين كان أصحاب العريس يأخذونه إلى حمام السوق ليستحم يوم زفافه، ويخرجونه من الحمام بعراضة شامية، وأهازيج حماسية، ويوصلونه إلى مكان الرجال في حفل الزفاف.
بناء الحمامات
امتازت حمامات دمشق بنظام هندسي بارع، فالمياه كانت تجر للحمامات بواسطة أقنية خاصة، وتوزع إلى مختلف أقسام الحمام كلّ حسب درجة الحرارة المطلوبة فيه، سواء الباردة أو الساخنة. وكانت البحرات داخل الحمام تصمم بأشكال أخاذة وتُزود بالماء البارد. في حين كان الحمام يزين بالقيشاني، وترصف أرضه بالرخام والمرمر، وكانت النوافذ البلورية فيه تُزين بأجمل الألوان والأشكال.
ومع اختلاف الحمامات بعضها عن بعض بزخرفتها وفنون تزيينها، تشترك بالأقسام الرئيسية فيها. وهي "الجوّاني" و"الوسطاني"و"البرّاني". عند دخولك من باب الحمام، تجد مصطبة مفروشة بالسجاد، تصعد إليها بثلاث درجات، وفي هذه الفسحة، يسلم المستحمون أشياءهم للمصطبجي الذي يزودهم بالمناشف والقباقيب. بعد خلع الملابس، يدخل المستحمون إلى الجواني، حيث البخار المتصاعد والحرارة المرتفعة. وتنتشر في الجواني الأجران الحجرية والطاسات النحاسية، وتبدأ عملية "التكييس" في جو غائم من البخار. عملية التكييس هذه يتولاها شخص محترف بواسطة (كيس) يُلبس بالكف، هو من قماش خشن نوعاً ما، يساعد على تقشير البشرة وتساقط الخلايا الميتة. ويعتبر التكييس بمثابة تدليك قوي، يساعد على تنشيط الدورة الدموية في الجسم، وبث الدم في الأوردة.
بعد التكييس، يُصب على الشخص خليط من الماء الساخن والبارد، الذي يُغرف بوعاء نحاسي اسمه (طاسة) من داخل وعاء كبير من الرخام يدعى (الجرن). وتستمد غرف الجواني المياه الباردة والساخنة من حوض الماء الحجري، من خلال أنابيب قرميد، تمتد داخل جدران الحمام ليعم الدفء كل الأرجاء. ثم يخرج المستحمّ إلى القسم الوسطاني، الذي يتميز بدرجة حرارة أقل نسبياً. يأخذ فيه الشخص قسطاً من الرّاحة، وتقدّم له بعض المشروبات الساخنة كالشاي والزهورات.
هنا تبدأ رحلة المؤانسة في الحمام، فيجلس المستحمون للحديث والتسلية، وإنشاد الأغاني والمواويل. بعدها تأتي المرحلة الأخيرة، هي مرحلة (البراني). هذا القسم من الحمام يتميز باعتدال حرارته، لتقارب حرارة الطقس في الخارج، يرتدي فيها المستحم ملابسه النظيفة كلياً، ويرتاح إلى جوار البحرة، ويستعد للخروج من الحمام.
عادات وأمثال شعبية مرتبطة بالحمام
من العادات المنتشرة لدى السوريين بعد الخروج الحمام، تبادلهم لعبارة "نعيماً"، ليرد المستحم "الله ينعم عليك دنيا وآخرة"، ومنهم من يضيف "ويرحم والدينا ووالديك". فالحمام لدى السوريين نعيم لا يضاهيه نعيم في الدنيا. ويقوم الأطفال بعد الخروج من الحمام بتقبيل يد من هم أكبر سناً، كدليل على امتنانهم وتقديرهم لهم لإحضارهم إلى الحمام.
ومن الأمثال الشعبية المتداولة والمتعلقة بالحمام:
ضاعت الطاسة: يضرب في حال الفوضى وفقدان الوسيلة. فكان المغتسلون يتجمعون حول جرن حمام واحد مغمضين العيون بسبب الصابون، ليقوم أحدهم بسرقة الطاسة المشتركة وليبدأ الآخرون بالبحث الأعمى عنها، كلّ في مكانه دون فائدة.
طاسة ساخنة وطاسة باردة: يقال لمن يلين أحياناً ويقسو أحياناً. وأصل المثل يعود إلى أنه عندما كان ينفد ماء الجرن في الحمام، يفتح القيم أو القيمة الماء الساخن، قبل أن يجري الماء البارد، وغالباً ما كان المستحمون يغفلون عن ذلك، فيصبون طاسة مياه ساخنة، وإذا أعاد القيم الكرة وابتدأ بالماء البارد لإملاء الجرن قبل الساخن، أصاب المستحم غير المنتبـه البرد الشديد بعــــد أن كان قد أصيب بالحرارة الشديدة، فيصيح بالقيم: ما هذا؟ طاسة باردة وطاسة ساخنة؟
طعمي القيم وملوك الحمام: ويضرب تشجيعاً للرشوة، فالقيم هو من يقوم بخدمة المغتسلين ونقل الماء وتعديل الحرارة وتنشيف الزبون. إن أكرمته يهتم بك وكأنك مالك الحمام.
حمام مقطوعة ميته: ويضرب في الضوضاء والفوضى وضياع النظام. أصعب المواقف في حمام السوق هو عندما تنقطع مياه الحمام، فيبدأ المستحمون بطرق الطاسات على الأرض وبالنداء لأصحاب الحمام ليصلحوا العطل.
via GIPHY"العروس من على جرن الحمام"، و"هون بتعرف القرعة من أم الشعر": يُضرب هذان المثلان للدلالة على أن الحمام هو المكان الأنسب للخطبة، والبحث عن عروس جميلة.
الشكلة بعد الحمّام: أي أن الحلوان يأتي بعد الخروج من الحمّام وليس قبله.
اللي استحوا ماتوا: يضرب هذا المثل لمن يفعل الخطأ ويدافع عنه. وتعود قصة هذا المثل الشعبي إلى أن حريقاً اندلع في أحد الحمامات التركية القديمة الخاصة بالنساء، فهربت كل امرأة مرتدية الثياب، أما النساء العاريات فبقين في الحمام من الخشية والحياء، وفضّلن الموت على الخروج عاريات. وعند عودة صاحب الحمام وسؤاله: هل تسبب الحريق في موت إحدى النساء؟ أجابه: نعم، فقال له من هي التي ماتت؟ ليجيبه: اللي استحوا ماتوا.
دخول الحمام ليس كخروجه: يقال لمن يوقع نفسه في المشاكل. كان يُقال قديماً للدلالة على الراحة الجسدية والنفسية، التي يشعر بها المرء بعد خروجه من الحمام. أما قصة المثل فتعود إلى أن أحد الأشخاص افتتح حماماً، وأعلن أن دخول الحمام مجاني. فبدأ الناس يذهبون إلى هذا الحمام، وبالفعل لم يأخذ صاحبه مالاً منهم عند دخولهم، لكنه كان عند خروج الزبائن من الحمام يحجز لهم ملابسهم ويرفض تسليمها لهم إلا مقابل مبلغ من المال. فثار الزبائن قائلين: ألم تقل بأن دخول الحمام مجاني؟ فكان يرد عليهم: دخول الحمام ليس كخروجه.
الحل الأمثل لغياب الماء والكهرباء
ساهم تغير نمط الحياة وتوافر الماء والحمامات الخاصة في البيوت الحديثة، في تراجع دور الحمامات الشعبية في حياة السوريين قبيل الحرب، لتقتصر زيارتها على الضيوف والسياح العرب والأجانب، الذين يرغبون في التعرف إلى الناحية التاريخية والتراثية للحمامات، وتجربة طقوس الأجداد في الاستحمام. وهذا ما أدى إلى تراجع عدد الحمامات المتبقية في دمشق إلى 20. لكن ظروف الحرب في سوريا اليوم، من غياب للماء والكهرباء، وصعوبات النزهات والزيارات بين الأقارب والأصدقاء، أعادت لهذه الأماكن أثرها ودورها الاجتماعي في حياة السوريين، لتعود ضرورة من ضرورات الحياة، ومكاناً لتسليتهم والترفيه عنهم.
ومن الحمامات العامة في مدينة دمشق، التي لا تزال تعمل وتستقبل الزبائن يومياً، حمام الظاهري، حمام الشيخ إرسلان، حمام البكري، حمام الدرويشية، حمام المقدم، حمام الورد الدمشقي، وحمام نورالدين.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
HA NA -
منذ 3 أياممع الأسف
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت بكل المقال والخاتمة أكثر من رائعة.
Eslam Abuelgasim (اسلام ابوالقاسم) -
منذ أسبوعحمدالله على السلامة يا أستاذة
سلامة قلبك ❤️ و سلامة معدتك
و سلامك الداخلي ??
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعمتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينعظيم