لحظة الاستحمام هي لحظة شبه مقدّسة في حياة المرأة، فهي لا تطهّر الجسد من أوساخه وأدرانه، ومن محيطه أيضاً، بل في الحمّام تُصالح النفس جسدها ويصارح الجسد النفس بما استتر من تضاريس تخفيها الثياب والقواعد والأعراف وحتى الروايات والتقاليد.
في الحمّام لوحة مشكّلة من أجساد عارية. تتشابه الأجساد في موضع التطهر ولكن لكل جسد روايته وسيرته الخاصة، وأسباب وجوده في ذاك الموضع خاصة جداً.
"حارزات" الحمّامات
ومن النسوة في الحمّام مَن لسن هناك للتطهر بل لالتقاط لقمة العيش من بين حبات العرق المنهمرة وبخار الماء الذي يغمرهنّ.عند الركن الأيمن من قاعة استقبال الحمّام، تجلس امرأة تنزع ببطء سريع ملابسها، تمرّر يديها على نهديها مدندنة كلمات أغنية أرادت أن تسمعها من شفتي زوجها ولم يفعل، ترمي حمالة الصدر في حقيبتها وتسأل: هل للهموم حمالة تريحني من شقاء الحياة؟
تبتسم عند الركن المقابل سيدة أخرى لبست أجمل ما عندها من ثياب، مادّة يديها إلى "الحارزة" لتنقش على كفيها نقوش الحناء. "ليلتي ليلة عروس"، تهمس لنفسها. تجري هذه المشاهد على صوت تنهيدات تأتي من قعر الحمام تطلقها امرأة تحمل أسطل الماء التي تتقاطر فيها حبات عرقها. لا تهمها انحناءة جسدها النحيل ولا ألم ظهرها الشديد، فهي هنا تعمل من أجل التقاط فتات الخبز لعائلة لم تجد لقمة عيشها إلا بين حيطان الحمام، حيث ينتفي جسدها لأجل إراحة أجساد أخريات.
"الحارزة" أو المدلكة هي المرأة التي تقوم بفرك أجساد المستحمات مقابل مبلغ مالي يختلف بين حمام وآخر، ويترواح بين دولار ودولارين في أقصى الحالات. دفعتها الظروف الاجتماعية والاقتصادية إلى العمل في هذه المهنة المحتقرة اجتماعياً.
وتتحدر أغلبية الحارزات من فئات ضعيفة الدخل أو من مطلقات وأرامل يعملن في فضاء الحمام بسبب غياب معيل لهن ولعائلاتهن.
تلغي الحارزة أو المدلكة أنوثتها ووعيها بجسدها والاهتمام به ومنافسة الأخريات في إغرائهن وتبرجهن. فجسدها هو جسد عامل لا يأبه بعريه ولا بملامح أنوثته.
تروي مريم، 34 عاماً، وتعمل حارزة في أحد الحمامات الشعبية في ضواحي العاصمة تونس: "بعد استقالة زوجي من إعالة الأسرة وانشغاله بتوفير ملذاته الخاصة، لم يبقَ لي سبيل سوى العمل في الحمام، فأنا لا أملك شهادة إذ انقطعت عن الدراسة منذ المرحلة الابتدائية".
مريم امرأة جميلة جداً ولكنها تقول إنها فقدت الوعي بجمالها. ليس لديها وقت للانتباه إليه، فكل إمرأة مستحمة تمثل لها مورد رزق. "صحيح أنّي أحزن عندما تفترش المرأة دكة الحمام للاسترخاء بينما أنا أفرك جسدها. لا توجد امرأة تقبل أن تكون في وضعي ولكن ليس أمامي سبيل آخر من أجل إطعام أطفالي"، تردد لرصيف22 وملامح الحسرة بادية على وجهها.
مريم ليست الوحيدة ولا هي الأولى ولن تكون حتماً الأخيرة التي يمثّل الحمّام لها مورد رزق. يعود تاريخ هذه المهنة إلى مرحلة تحوّل الحمام إلى ركن رئيسي من أركان المدينة إلى جانب الجامع والسوق.
أما أصل التسمية فهو "الحارسة" وغيّرها التونسيون إلى "الحارزة" وكانت تُطلَق على المرأة التي تحرس أغراض المستحمات بمقابل إلى أن تطوّر بها الأمر وصارت تفرك الأجساد الأنثوية داخل فضاء الحمام، تقريباً منذ أواخر القرن التاسع عشر. فمع إلغاء العبودية في تونس اضطرت بعض النساء الحرّات إلى العمل في هذه المهنة.
وراثة الشقاء
وكما تورّث بعض الأمهات بناتهن المصوغ والأملاك، تورّثهنّ أخريات الشقاء والتعب، ومنهن الحارزة، المهنة التي يمكن أن تتوارثها نساء العائلة الواحدة لأجيال.تروي "الخالة زينب"، 72 عاماً، وتعمل حارزة في حمام الناعورة، أنها ورثت مهنتها عن والدتها. بدأت مشوارها في هذه المهنة منذ نهاية الستينيات من القرن الماضي من أجل إعالة أطفالها الذين تقول إنهم أصبحوا اليوم رجالاً ونساء علّمتهم وزوّجتهم من عملها في هذه المهنة.
وتقول لرصيف22 إنها كان تعمل أثناء حملها، تفرك أجساد النساء الأخريات حتى وإن كنّ حوامل. لا يهم وجعها بقدر ما يهم أن تعيل أطفالها.
تلاقي مهنة "الحارزة" الاحتقار الاجتماعي، فهي مهنة المهمشات ويُقال على سبيل التهكم: "كيف حارزة الحمام"، أي مثل حارزة الحمام، وهو نوع من الوصم الذي يحتقر المرأة، وقد يصدر أحياناً عن النسوة أنفسهن.
في الحمام لوحة مشكّلة من أجساد عارية. تتشابه الأجساد في موضع التطهر ولكن لكل جسد روايته وسيرته الخاصة، وأسباب وجوده في ذاك الموضع خاصة جداً
"الحارزات" في حمامات تونس... تلغي الحارزة أو المدلكة أنوثتها ووعيها بجسدها والاهتمام به ومنافسة الأخريات في إغرائهن وتبرجهن، فجسدها هو جسد عامل لا يأبه بعريه ولا بملامح أنوثتهتبدأ الحارزة عملها في الحمام بعد خروج الرجال منه في الفترة الصباحية الأولى. فأغلب الحمامات في تونس تقسّم الفترات بين الجنسين: الرجال في الصباح الباكر والنساء بعد الساعة الـ11 صباحاً حتى الساعة السادسة مساء، ليعود الرجال إليه مجدداً في فترة مسائية أخرى.
تنظف الحارزة أرضيات الحمام جيداً من أوساخ المستحمين الرجال وتهيّئه لاستقبال النساء. في العادة لا يأخذن أموالاً عن جهد التنظيف فهو شرط العمل في فضاء الحمام. ضمن كل هذه التفاصيل ينتفي جسدها كأنها تقتله عن وعي أو غير وعي ليهب حياة ومتعة لأجساد الزبونات.
"أنا هنا لكسب قوت عيالي فقط". هكذا تقول لرصيف22 فاطمة (اسم مستعار) ومثلها تقول أخريات كأنهن فقدن الإحساس بمقوّمات الفضاء الذي يتواجدن فيه والغاية منه أيضاً. فهنّ لسن هناك لنفس أسباب تواجد زبوناتهن وهنّ أحد الأسباب لمتعة الأخيرات، إذا أتقنّ مهنتهن.
أدوار الحارزات
فيما تُغيِّب الحارزات أجسادهن، يستحضرن كل شروط متعة أجساد زبوناتهن. يجلس بعضهن في قاعة الاستقبال لتقديم خدمات نزع الشعر الزائد ورسم الحناء والحرقوص، وهي مادة تقليدية تشبه الحناء ولكنها ذات رائحة طيّبة ولا تستمر أكثر من أسبوع على موضعها.إلى جانب خدماتهن التجميلية، تقدّم الحارزات أيضاً خدمات أخرى إرشادية ونفسية. يصغين إلى مشاكل الزبونات مع أزواجهن أو مع حمواتهن ويمكن أن يقدمن نصائح حميمية جداً لإثارة رغبات الزوج وكسب "حبّه"، لا سيما للمتزوجات حديثاً، كما يمكن أن يرشحن زوجة لأحد أبناء الأمهات اللواتي يبحثن عن عرائس لأبنائهن.
لا تتقاطع أدوار الحارزة التي تعمل داخل قاعات الاستحمام مع أدوار حارزة قاعة الاستقبال فهي مكلفة بالعناية بجسد الزبونة وفركه من الأوساخ ويمكن أيضاً أن تدلكه بـ"مساج" تقليدي لا سيما للنفساء التي تكمل يومها الأربعين فتقصد الحمام لتكبس جسدها عند حارزة قديمة تتقن هذه الطريقة.
والكبسة هنا هي لف جسد المرأة النفساء بخلطة تقليدية مكوّنة أساساً من عود القرنفل، والضغط عليه بحزام "حتى تسترجع العظام مكانها"، حسب المخيال الشعبي. وتجني الحارزة من هذه العملية مقابلاً مادياً مضاعفاً عدة مرات مقارنةً بمقابل فرك الجسد الواحد.
تقفز الحارزات وهنّ يؤدين خدماتهن إلى داخل عوالم وأسرار زبوناتهن، فيلعبن من داخل الحمام أدواراً في حل مشاكلهن خارجه، وهنّ في الموضعين حاملات أسرار نسين كل مشاكلهن التي رمت بهن في تلك المهنة.
سوسيولوجيا الجسد
يمنح الحمام دوراً رئيسياً للحارزة، فهي مَن تنظم دخول النساء في حالة الزحام وتوزّع الأسطل عليهن وتمنع الشجارات بينهن، إلا أنها خارج هذا الفضاء تُعايَر بعملها البسيط اليدوي والحقير والذي يُنقص من مكانتها في الوعي الشعبي.رغم قدم مهنة الحارزة، إلا أنها لم تنل الاعتراف القانوني بها. ويقوم أصحاب الحمامات بهضم حقوقها. هي لا تحظى بالتغطية الصحية وليس لها تعويض تقاعد رغم أن أغلب النساء اللواتي عملن كحارزات في فضاء الحمام يعانين من مشاكل صحية جراء جلوسهن لفترات طويلة في ذاك الفضاء.
تُعتبر مهنة الحارزة من المهن التراثية الضاربة في القدم والتي تحفظ جزءاً مهمّاً من الذاكرة الشعبية، إذ يمكن توثيق تجربة الحارزات في تونس للحديث عن البناء الجسدي الثقافي التونسي.
ربما يمكننا من خلال الجسد كمجال للتأمل السوسيولوجي قراءة التحوّلات الاجتماعية والثقافية في البلاد. فتيار الجسدانية أو سوسيولوجيا الجسد في الغرب يعتبر أن الجسد مرجعية هامة في قراءة تحوّلات الواقع ويستعمله كأداة كشف وتحليل.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...