ترتهن الدراما السورية للظرف الاجتماعي، الاقتصادي والسياسي، بوصفها صناعة من صناعات الرأي، لكنها في السنوات الماضية خرجت من الساحة العربية، لامتثالها بشكل رئيسي لموضة ما سُمِّي بـ"دراما الحرب"، واشتغال صناعها على صياغة ما يشبه وثائق درامية تُصوِّر الواقع الاجتماعي المزري، واضعةً الحرب كخلفية للأحداث دون القدرة على ملامسة تفاصيلها الرئيسية، ما أبعدها عن جوهر المسلسل التلفزيوني القائم على التسلية والترفيه، وجعل منها قاتمة ومليئة بالهمّ والغمّ، لدرجة أن جمهورها السوري نَفَرَ منها، فما بالكم بالجمهور العربي، الذي لا تعنيه معظم مضامينها.
شكَّل هذا عائقاً رئيسياً أمام تسويقها عربياً، فضاقت مساحة انتشارها، وانحصرت في الإطار السوري المحلي، وعلى قنوات لا تتعدى أصابع اليد الواحدة، أي أنها خسرت مرتين: الأولى تتعلّق بجمهورها السوري غير الراغب بإعادة تدوير مأساته تلفزيونياً، والثانية تتعلّق بالجمهور العربي الذي لا تعنيه تراجيديات الحرب غير المسلية، وانعكس ذلك على رغبة المحطات في عرض تلك الأعمال التي باتت بلغة السوق "ما بتجيب همّها"، لا بل تزيد هموم المشاهدين وتخرِّب مزاجهم في متابعة التسلية الرمضانية الأثيرة على قلوبهم.
هل نستطيع القول بأن الدراما السورية هذا العام كسرت الحصار، وأزالت العوائق أمام عودة ألق انتشارها؟
ومن أكثر الأعمال الدرامية التي تناولت الحرب ولقيت صدى جيداً كان مسلسل "غداً نلتقي" الذي ركَّز على حالة اللاجئين السوريين في لبنان، و"الندم" ومحوره الحياة السورية زمن الحرب على لسان روائي، و"ضبوا الشناتي" الذي عالج بمنطق الكوميديا مواقف سوريين يرغبون بالهجرة خوفاً من القذائف والجوع والعطش وانهيار القيم الاجتماعية، و"بانتظار الياسمين" ويتناول حياة مهجري حرب اضطرتهم الظروف إلى العيش ضمن حديقة.
لكن بعدما استفاق صناع الدراما السورية من غفوتهم في كوابيس الحرب، وأعادوا حساباتهم وفق مقتضيات المصلحة الدرامية، آخذين بعين الاعتبار رغبة القنوات وجمهورها الواسع، سعوا لتغيير المسار، وعدم التورط في مواضيع لا تهم المتابع العربي بالعموم، فكثَّفوا هذا العام من دراما البيئة الشامية بمسلسلات "سوق الحرير"، "حارة القبة"، "الكندوش" و"باب الحارة"، وجميعها عانت من التنميط وتكرار الشخصيات والأحداث الدرامية، حيث صراع أربع زوجات لرجل واحد، وأمانة ضائعة، وكركون "مخفر"، وزعيم وبكوات، وحفلات أعراس وموالد... لكنها تشكل وجبة خفيفة ومحببة لكثير من المشاهدين العرب.
كذلك توجه صناع الدراما لتدوير زوايا الأعمال الاجتماعية، لتمسّ الحس الإنساني للمشاهدين، إذ كانت الحكاية البطل الرئيسي، ومنها ما استطاع أن يخترق أماكن لم تتناولها الدراما السورية سابقاً، مثل "على صفيح ساخن" لمؤلفيه علي وجيه ويامن الحجلي اللذين صوَّرا حياة "نبَّاشي القمامة" كواقع قذر في موازاة عالم أنظف ظاهرياً، لكنه في مضمونه أقذر، وهو عالم المتاجرة بالمخدرات والتلطي وراء الجمعيات الدينية المتأسلمة لتمرير صفقات لاإنسانية.
توجه صناع الدراما السورية لتدوير زوايا الأعمال الاجتماعية، لتمسّ الحس الإنساني للمشاهدين، ومنها ما استطاع أن يخترق أماكن جديدة تماماً، في حين عانت مسلسلات من برود في مفاصل الحكاية وتصوير ورؤية إخراجية بعيدين عن الحداثة بشكل مطلق
في الوقت ذاته، حافظ "بعد عدة سنوات" و"ضيوف على الحب" للمؤسسة العامة للإنتاج الإذاعي والتلفزيوني على لطافة الحكاية، مع برود في مفاصلها، زاد مفعوله تصوير ورؤية إخراجية بعيدين عن الحداثة بشكل مطلق، حتى لتكاد تشعر أنك تشاهد مسلسلاً من الثمانينيات، في حين غابت الدراما الكوميدية بشكل تام رغم رواجها الكبير عربياً، بعد تأجيل مسلسل "السنونو" لـ"ياسر العظمة"، وتوقف إنتاج سلسلة "بقعة ضوء" و"ببساطة"، ولتبقى الدراما المشتركة ذريعة لمشاركة بعض صناع الدراما السورية في أعمال يمكن تبريرها بأنها لإثبات أهمية الوجود السوري على الصعيد الدرامي.
كل ذلك ساهم في فك الحصار عن تلك الدراما، إذ حققت قفزة على صعيد انتشارها على المحطات العربية، مقارنةً بالأعوام الماضية، حتى أن بعض الأعمال رُوِّج لها على لوحات الإعلانات الطرقية في عدة مدن عربية، فهل نستطيع القول بأن الدراما السورية كسرت الحصار، وأزالت العوائق أمام عودة ألق انتشارها؟
السر: الإنتاج والنص
يقول المخرج السوري جود سعيد لرصيف22: "عودة الدراما السورية بشكل أفضل هذا العام مردّه إلى المنتجين والاهتمام بالنص السوري -ولو طُعِّم أحياناً- مع الإضاءة على مواضيع محلية، يمكن من خلالها إنجاز مواد بصرية ذات أهمية، لا سيما مع الخذلانات التي رافقت الصياغات الدرامية لمواضيع الحرب التي لا تناسب محطات كثيرة، خاصة بوجود خلاف في قراءة المرحلة الحالية. لذا جاء الابتعاد عن هذه المواضيع، ورغبة بعض المحطات في عودة الدراما السورية، كحل وسط سمح لها أن تعود للإطلالة، إضافة إلى ذلك فإن الظرف السياسي يتغير، وبالتالي بات تسويق المنتج الدرامي السوري أسهل من السنوات السابقة".
مسلسل "خريف العشاق" الذي أخرجه سعيد هذا الموسم، تناول الحرب من بابها الخلفي إن صحّ التعبير، إذ تناقش كاتبته، ديانا جبور، القبضة الأمنية المتحكمة في سبعينيات القرن الماضي وممارساتها المتسلطة على الجميع، الصفقات التي تمرر للنافذين، الإثراء غير المشروع، تغيير الولاءات وفق المصالح، الاشتغال على الترهيب وقولبة المجتمع وفق هوى السلطة وعسفها، وغير ذلك من قراءة لواقع تلك المرحلة السياسي والاجتماعي والثقافي، مع إسقاطات على الحاضر، ما يُعتبر خرقاً للرقابة في الدراما السورية.
وعن ذلك قال المخرج: "أعتقد أن العودة إلى الماضي حالة صحية، فنحن شعوب هذه المنطقة نعاني من شيئين: إرخاء نوع من القداسة على ماضينا البعيد، ما يجعلنا عاجزين عن محاكمته ووضعه تحت مجهر النقد، بينما الماضي القريب خلافي جداً، ومحمي أحياناً من قبل الرقابات. بالتالي تسليط الضوء على ما هو مهمل سواء في الماضي القريب أو البعيد حالة صحية عندما يتناولها الفن، إذ يؤدي لقراءة حاضرنا بشكل أفضل، ويجعلنا نفهم لِمَ وصلنا إلى ما وصلنا إليه، بجوانبه الإيجابية أو السلبية".
ويضيف: "مع ذلك أقول بأن المحاولة في 'خريف العشاق' خجولة، إذ سعت لرفع سقف قراءة الماضي القريب إلى الحد الأقصى المسموح به، وهذا يحسب للجهات الوصائية من ناحية، ومن ناحية أخرى كان هذا المسلسل محاولة لفتح باب كان مغلقاً لسنوات عديدة".
تضيق الحارة الشامية وتتكرّر مفرداتها بالتزامن مع تململ الجمهور الذي شعر بأن الدراما السورية دخلت نفق التنميط، ولم تعد متمكنة من صناعة قصة اجتماعية صادمة في ظل سقف الرقابة المنخفض للغاية، والانقسام الشاقولي في المجتمع
لكن هل نستطيع القول بأن الدراما السورية خرجت من عنق الزجاجة؟ يجيب سعيد: "أي صناعة مرتبطة بالظرف السياسي، وخاصة صناعة الفن لأنها صناعة رأي. كلما كان هناك تحسن بالوضع السياسي، بمعنى قبول الأطراف العربية للحضور السوري ستتحسن ظروف الدراما السورية. وهذا العام شهدنا تحسناً مقبولاً على صعيد الكمّ، وميزته الحقيقية تتعلق بتشغيل أكبر عدد من الفنيين والفنانين، وعلى صعيد النوع، فإن العودة للخصوصية السورية، ولتناول مواضيع حساسة لها علاقة بالمجتمع السوري، أفرزت حالة صحية فنياً، لن أقول إنها ناجحة بالضرورة، وإن كان الجو العام يوحي بذلك".
هذا النجاح برأي المخرج الشاب يتلقفه المشاهد العربي لأنه يحب الحكايات السورية، بذلك فهو يتمنى أن يكون بوابة لعودة هذه الصناعة لأن تشغل المساحة التي كانت تشغلها قبل الحرب، وهذا سينعكس إيجابياً على النوع قبل الكمّ، وله أيضاً مردوده الاقتصادي على العاملين فيها.
كلما كان هناك تحسن بالوضع السياسي، بمعنى قبول الأطراف العربية للحضور السوري ستتحسن ظروف الدراما السورية.
انتعاش كمي لا كيفي
على صعيد متصل يرى أنس فرج، رئيس تحرير منصة ET Syria الفنية المنوعة، في حديثه لرصيف22 بأن الدراما السورية عاشت في موسم 2021 انتعاشاً كمياً لا كيفياً، عازياً ذلك لغياب التنوع في الطروحات الاجتماعية، وعدم وجود حالة ندية للتنافس بين الكتاب والمخرجين والفنانين في المسلسلات المعاصرة، وذلك على حساب تسويق ثلاثة أعمال شامية، بحضور أسماء شهيرة في الدراما، لكن مع تعثّر في صناعة مشروع منافس عربياً يحقق نسب متابعة عالية، ويستقطب الجمهور العربي مجدداً للدراما السورية.
يقول فرج: "تضيق الحارة الشامية وتتكرّر مفرداتها بالتزامن مع تململ الجمهور الذي شعر بأن الدراما السورية دخلت نفق التنميط، ولم تعد متمكنة من صناعة قصة اجتماعية صادمة في ظل سقف الرقابة المنخفض للغاية، والانقسام الشاقولي في المجتمع، وتنوع بيئات السوريين التي لم تعد قائمة على الاختلاف الديموغرافي، بقدر التناقض في شكل السلطات المحلية، وطبيعة الظروف الاقتصادية، والشتات الذي يعيشه اللاجئون حول العالم. يحضر ذلك مع قلق حقيقي لدى العاملين في المجال الفني من تدهور فكرة الصناعة الدرامية داخل سوريا، وحالة التشرذم الهائلة للفنيين مع الاختلاف الشاسع والمتزايد بالتقنيات وفرق الأجور بين سوريا والمنطقة".
ويوضح الصحفي الدرامي: "تتجذر المشكلات في عمق الدراما السورية، مع رمي الاتهامات بين المنتجين والمخرجين والفنانين، فتغيب النصوص الإشكالية، ويُفتقد نظام الورشات الكتابية، وتبقى النوستالجيا هي حيز الذاكرة المتبقي للسوريين للتغني بدراما كانت ذات يوم سبّاقة عربياً".
وعن أهم الأعمال والملامح الإيجابية التي رصدها في متابعته للموسم الدرامي الحالي، يقول فرج: "أكثر الآراء إيجابية اتجهت نحو مسلسل 'على صفيح ساخن'، والجهد المبذول من قبل الممثلين والممثلات. كما لفت مسلسل '2020' الأنظار، وحظي بإشادة من قبل مخرجين ونقاد للصورة الجديدة التي قدمها للشارع اللبناني، وكسر الصورة التقليدية المأخوذة عن الدراما المشتركة، التي باتت تتحول تدريجياً إلى دراما لبنانية شبه خالصة. بينما تغيب الكوميديا عن المشهد الرمضاني، ويتم التوجّه لإنتاجات منخفضة التكلفة تقوم على كوميديا هزلية لا تحظى بالجماهيرية ولا ترتقي لعرض مفارقات الحياة وهموم المواطن".
تبقى الدراما السورية وعودة ألقها مرهونين بفكر إنتاجي حقيقي، يتبنّى نصوصاً ذات سوية عالية، قادرة على مناقشة قضايا إنسانية تهم المواطن العربي بالقدر ذاته الذي تعني فيه المواطن السوري، وتسخير الخبرات الفنية في صالح تظهير تلك المواضيع بأبهى حلَّة، ما يُشكِّل جاذباً حقيقياً للفضائيات لتبني تلك الأعمال وعرضها، مع يقين دامغ بأن الدراما السورية بإمكانها أن تعود لتصبح بضاعة رائجة، وتحقق أرباحاً مادية وفكرية في الوقت ذاته.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...