بدأت منذ مدة أشاهد مسلسلات عربية بنهم ما (كما يليق بعصر الـ binge). بدأ البولموس عند وفاة حاتم علي، وامتلاء الفيد الفيسبوكي بذكريات عنه ومن مسلسلاته، فبدأت بمشاهدة "الفصول الأربعة" بموسميه، وانتقلت منه إلى مسلسلات عربية أخرى، اعتدت مشاهدتها في أيام طفولتي ومراهقتي. بالإضافة إلى اندلاع الحس النوستالجي، وإدراكي لمدى تأثير هذه المسلسلات على سنوات مراهقتي. راودتني فكرة فاجأتني بعض الشيء، وهي تطبيق كافة هذه المسلسلات لاختبار بكدل.
اختبار بكدل الذي ابتكرته فنانة الكوميكس الأمريكية، أليسون بكدل، في العام 1985، يهدف لفحص وقياس تمثيل النساء في الأعمال الأدبية، التلفزيونية أو السينمائية. يرتكز الاختبار على السؤال عن احتواء العمل لمشاهد تشارك فيها شخصيتين نسائيتين (لهما اسم) على الأقل، تتحاوران سوية عن أمر ما لا يتعلق برجل ما، أو بإحدى الشخصيات الذكورية في العمل. بحسب الاختبار، فإن أي عمل لا يحتوي على هذه المقاييس، هو عمل يرتكز على الرجال أساساً ولا يطرح تمثيلاً منصفاً للنساء.
وبالفعل، تظهر مشاهدة الأعمال العربية تطبيقاً تاماً لاختبار بكدل، حتى الأعمال التي تهمّش المرأة وتقصيها. في باب الحارة مثلاً، نرى مشاهد كثيرة لشخصيات المسلسل النسائية مجتمعات في "أرض الديار"، مرتديات ومتزينات بملابس وتسريحات مختلفة، يتصرفن ويتحدثن كما يشأن. يبرز هذا تحديداً في شخصية أم زكي، وهي المرأة "القوية" غير المرتبطة برجل أو بأطفال، والتي تتجوّل كل يوم في الحارة من بيت لآخر، تجمع النميمة و"تكسر السفرة" في كل بيت تدخل إليه، في مشاهد نسائية بحتة، تخلو من أي شائبة رجالية، إن كان من حيث الحضور الحقيقي والجسدي للرجل، وإن كان من حيث تأثيره أو سيطرته على النساء، حيث أنهن يتمازحن ويقهقهن وتعلو أصواتهن.
إن إخضاع العمل لاختبار "بكدل" لا يدلّ على نسويته، حيث أننا نرى النساء يضعفن ويضربن في هذه الأعمال، ناهيك عن المضامين المسيئة التي تعزز وتحفظ النظام الأبوي والذكوري، حتى في مسلسلات "جديدة" و"منفتحة" أيضاً، مثل "الفصول الأربعة"
نرى هذا في المسلسل المصري "الحاج متولي" أيضاً، حيث تسكن نساء الحاج فيما يبدو ككوميون مع أطفالهن، يتحدثن بينهن عن شتى الأمور وليس عنه فقط، بل عن المطبخ والأولاد أحياناً. يجدر بالذكر أن إخضاع العمل للاختبار لا يدلّ على نسويته، حيث أننا نرى النساء يضعفن ويضربن في هذه الأعمال، ناهيك عن المضامين المسيئة التي تعزز وتحفظ النظام الأبوي والذكوري، حتى في مسلسلات "جديدة" و"منفتحة" أيضاً، مثل "الفصول الأربعة"، التي قد تبدو على أنها أعمال ليبرالية، إلا أنها تضم الكثير من المضامين المحافظة أو النسوية "الحذرة" إن شاء التعبير.
ليس تطبيق بكدل دليلاً على الحرص على تمثيل النساء، لسبب واحد وبسيط، وهو أن العوالم النسائية في العمل، التي تسكنها النساء ويتصرفن فيها بحرية ما، هي عوالم تتكوّن وتتاح في ظل السياق الخارجي الرجولي المهيمن فقط، فلولا الخارجي لم يكن ليستطيع الداخلي أن يتكوّن.
حتى عندما تجلس النساء وحدهن ويتحدثن دون أي دخيل رجولي، هنّ لا زلن يخدمن الكينونة الرجولية، إما مباشرة بالحديث المباشر عن الرجل، وإما بشكل غير مباشر، أي بالحديث عن أعمال المنزل والأطفال، أو الشجار على أمور "نسوانية" تافهة. ما يتيح هذه المشاهد والحوارات النسائية هو الحياة والواقع العربي المقسوم بين الشارع (الحيز العام)، حيث يكون الرجل، وبين الداخل، أو البيت (الحيز الخاص)، حيث تكون المرأة.
في "باب الحارة" مثلاً، نرى ونسمع النساء في الداخل، وفقط بعد دخولهن من العالم الخارجي الرجولي الذي يهمشهن ويقوم بتشييئهن. فقط بعد الدخول من الباب، تخلع النساء عباءاتهن السوداء، التي تخفيهن وتجبرهن على التزام الحيز الداخلي المخبأ، ونرى بهنّ مزيجاً من الألوان والأعمار والمكانات الاجتماعية، في عالم خاص بهن، مفعم بالألوان والشعر المصفف الأجعد والكحل البارز، في حيّز يخلو من الرجال.
تتمتع تلك النساء بالحرية في عالمهن الخاص، ويتحدثن سوية، ويناقشن أمور البيت والأعمال البيتية، تغتاب إحداهن الأخرى أو يتشاجرن لسبب تافه أو لآخر، وكل ذلك في حيّز "محمي" من سيطرة الرجال وحيّزهم المهمين. دليل آخر على إتاحة الفصل لتطبيق الاختبار، هو انخفاض المشاهد النسائية في الأعمال العربية المشتركة التي تم إنتاجها مؤخراً، مثل "تانغو"، "الأخوة"، و"الكاتب"، وهي أعمال تعتبر "مودرن" نوعاً ما، يمتزج فيها الحيز الرجالي الخارجي بالحيز الداخلي النسائي، ونرى فيها نسبة أقل من المشاهد النسائية الكاملة، ما يقلّل بالتالي من مدى تطبيقها لاختبار بكدل.
ليس اختبار بكدل إذن، أو الأسئلة التي يطرحها، هي الأداة الصحيحة لقياس مدى تمثيل العمل للمرأة أو منحها الحيز الخاص بها، وذلك لأن الواقع والظروف الجندرية العربية تجرد الاختبار من أهميته وإسقاطاته التي يتمتع بها في العالم الغربي
تطبيق اختبار بكدل المذكور أعلاه هو ليس دلالة على نسوية الأعمال أو تمثيل المرأة فيها ككيان مستقل، بل هو أداة للحفاظ على "الستاتوس كوو" الذي يُقصي النساء ويدفعهن إلى حيز داخلي مغلق. وهو تأكيد على كون النساء كياناً تابعاً يتعلق بالرجل وبالتقسيم الذي يمليه عليهن. ليس اختبار بكدل إذن، أو الأسئلة التي يطرحها، هي الأداة الصحيحة لقياس مدى تمثيل العمل للمرأة أو منحها الحيز الخاص بها، وذلك لأن الواقع والظروف الجندرية العربية تجرد الاختبار من أهميته وإسقاطاته التي يتمتع بها في العالم الغربي، مثبتاً لنا مرة أخرى عن مدى انعدام الملاءمة بين النسوية الغربية، التي نستوردها جاهزة معلّبة في قوالب، وبين الواقع والنضال النسوي العربي. إن تمثيلاً منصفاً وحقيقياً للنساء يتطلب أعمالاً تتحدى "الستاتوس كوو" الجندري القائم، والفصل المتشرّش بين الرجال والنساء، وإقصائهن عن الحيّز الخارجي العام.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...