في كتاب بعنوان "الدراما والسياسة" أصدرت الباحثة نجوى زيدان بحثها الأكاديمي "المحددات السياسية في الدراما السورية"، ويتناول البحث ظاهرة الدراما السورية وعلاقتها بالسياسة، من خلال رصد المحددات السياسية البارزة في مسلسلات عرضت على محطات التلفزة العربية من 2010 – 2014، واختارت الباحثة من خلال المشاهدة عينة تضمنت 14 مسلسلاً، قامت بتحليلها لمعالجة إشكالية مقومات النجاح والتراجع في الدراما عشية اندلاع أحداث العام 2011 في ضوء الثقافة السياسية السائدة.
يظهر هذا البحث الطابع المستقبلي للدراما التلفزيونية التي تثير تنافساً ضارياً بين المنتجين ومحطات التلفزة، لأسباب سياسية وأيديولوجية تتعلق بالنفوذ والهيمنة السياسية، وبالتأثير في الرأي العام العربي، في صناعة هذا الرأي وفي تشكيل الوعي الجمعي العربي، تكتب الباحثة في هذا الخصوص: "إن الدراما بما تمثل من صناعة تدرّ أرباحاً على مؤسسات الإعلام الجماهيري، فهي قد أوجدت عدداً من المهن المرتبطة بها وهي مهن فاعلة وطموحة وجدية للحاضر وللمستقبل وستوفر فرص عمل للعديد من الدارسين. كما أن توظيف الرساميل في إنتاج الدراما، لابد أن يعود بالفائدة على مداخيل الإنتاج العام".
من الآفاق التي يتلمسها هذا البحث إعادة تقييم دور المثقف، الكاتب، المخرج، الممثل، الناقد وحتى المشاهد العربي، تلاحظ الباحثة أن مفهوم "المثقف" في الصناعة الدرامية غير واضح، وهناك قصور في كيفية قياس نجاحه من عدمه، والقياس هنا "يعني فاعلية المثقف في تطوير الحياة الاجتماعية وتخليصها من الموروثات السلبية"، لاسيما في هذه المرحلة الحرجة، في ظل حالة التقهقر التي تتخبط فيها مجتمعاتنا العربية. وفي معرض التماس دور المثقف وتأثير الدراما، نذكر أن داعش استعانت بمشاهد من دراما سورية على أنها مشاهد حية ونشرتها على يوتيوب، وأيضاً دعوة ناشطين إسلاميين على مواقع التواصل الاجتماعي إلى مقاطعة الدراما لأنها تلهي عن ذكر الله، واستخدام الجيش الإسرائيلي لمشاهد من مسلسل "باب الحارة" للترويج لصورته.
البعد الذي حرص البحث على إظهاره هو تسرب الفكر الخليجي إلى الدراما السورية، لاسيما في أجزاء مسلسل باب الحارة وغيره من أعمال البيئة الشامية. هذا المفهوم ارتبط بالثورة النفطية في أواخر سبعينيات القرن الماضي، حيث انتقلت صناعة الإعلام العربي مع فورة الفضائيات، لاحقاً، أي في التسعينيات، إلى عواصم الخليج.
محاولة في تعريف الدراما ودراسة أثرها
تكتب الباحثة: "الدراما هي ما يحدث الآن، هي الحياة التي تدور من حولنا، إنها الواقع الذي يرتبط بعلاقة وثيقة بالنمط الدرامي، وهي عمل منصب في صناعة الرأي، وهي قصص تتحول في عقل المشاهد إلى وعي جمعي للواقع السياسي والاجتماعي والتاريخي. ولعل هذا ما يفسر تصريح الفيلسوف الأمريكي الروسي أندريه فيلتشيك أنه سينتقل إلى سرد القصص عوضاً عن الكتابة الأكاديمية التي لا تهتم بها إلا الجامعات الكبرى".
بينما يكتب المخرج الإيطالي بيتيني عن أثر التلفزيون: "هو الجهاز المنتج والمدخل للمعاني، هو هذا الغائب الذي شاهد الأشياء قبل المشاهد، وبالتالي هو يفرض على المشاهد رؤيته الخطابية الخاصة وتكتيكه الخاص في الاتصال"، وتستند الباحثة إلى كتابات الفيلسوف الفرنسي جان بودريار، الذي ابتكر عدة مفاهيم مرتبطة بتطور عالم الاتصال، ومنها مفهوم وسائل الإعلام الجماهيري، ودورها في تشكيل الرأي العام والثقافة العامة. كما تعتمد على مؤلفات هربرت شيللر، وخصوصاً كتابه "المتلاعبون بالعقول" الذي عرف فيها الثقافة الجماهيرية بكونها: "ثقافة الكم على حساب النوع، والإنتاج على حساب الإبداع، والمادة على حساب الروح، والتسويق على حساب الجمال، والبذاءة على حساب الأناقة".
من دعوة ناشطين إسلاميين على مواقع التواصل الاجتماعي إلى مقاطعة الدراما لأنها تلهي عن ذكر الله، إلى استخدام الجيش الإسرائيلي لمشاهد من مسلسل "باب الحارة" للترويج لصورته، واستعانت داعش بمشاهد من دراما سورية على أنها مشاهد حية ونشرتها على يوتيوب... كيف تؤثر الدراما والسياسة في ضهما
نظرية الغرس الثقافي
واحدة من أبرز النظريات التي يتكئ عليها البحث أيضاً، هي نظرية الغرس الثقافي التي ظهرت مع الانتشار الواسع للتلفزيون في أميركا، كوسيلة اتصال وإعلام جماهيرية في العام 1976، مع المنظر جورج جربنر، وجاءت بمثابة رد على نظرية لازرسفيلد التي قالت بالتأثيرات المحدودة للتلفزيون. تقوم مبادئ النظرية على أن التلفزيون مسؤول عن غرس المفاهيم عن الواقع الاجتماعي بعقل المشاهد، وأن التعرض المكثف للمشاهدة يخلق لدى الأفراد مفهوماً عن الواقع الاجتماعي وأيضاً عن ثقافة المجتمع بشكل عام، لذا اعتبر جربنر أن التلفزيون يملك تأثيراً متدرجاً وغير مباشر ومتتالياً وإيحائياً، ووجد الباحثون عبر هذه النظرية أن رسائل التلفزيون تشكل نظاماً ثقافياً يعبر عن الاتجاه السائد، تسهم في تضييق الفجوة بين الاتجاه والسلوك، كما تقوم هذه الوسائل بنقل المعايير السائدة.
بخصوص الدراما السورية، تستنتج الباحثة أن الدراما السورية حظيت باحتضان النظام السياسي ودعمه من الجوانب كافة، لاسيما الجانب المالي، فجاءت إنتاجاتها منسجمة مع الواقع السياسي، الاجتماعي والثقافي الذي تروجه السلطة الحاكمة، فكانت الدراما من دعائم سياسات الدولة. وتعتبر الباحثة أن الدراما إحدى الصياغات السياسية التي تحقق أهدافاً إيديولوجية للسلطة القائمة، فقد استطاعت السلطة أن تستخدم الإنتاج الدرامي في سورية كمنصة إطلاق للسياسة الداخلية والخارجية، من أجل ضمان ترويج ثقافة سياسية تستوعبها فئات المجتمع كافة.
ومن الأسئلة التي يحاول البحث الإجابة عنها: إلى أي مدى عبرت الدراما المدعومة عن سياسيات الدولة في علاقتها بالمجتمع وفي سياساتها الخارجية؟ منها موضوعات متعلقة بالتاريخ، بمقاومة المستعمر، بالعلاقة مع دول الإقليم، بالقضية الفلسطينية، دعم خط المقاومة في لبنان والعلاقة بتركيا.
الأسباب التي أدت إلى تراجع الدراما السورية
تضع الباحثة الرقابة في أول الأسباب التي أدت إلى تراجع الدراما السورية، فتثبت أن سلطة الرقابة مازالت تراوح بين القص والحذف والمنع، فقد منعت الرقابة مسلسل "عناية مشددة" من العرض، رغم موافقة لجنة قراءة النصوص وإتمام تصويره في دمشق، وتم حذف حلقات كاملة من مسلسل "وطن حاف" في عرضه الثاني بعد عام على عرضه الأول، واعترضت الرقابة على مسلسل "الدومري" الذي يعمل حسب ما كتب الناقد رامي كوسا: "على إظهار التباين بين الإسلام الشامي المعتدل ووهابية وتطرف الدين".
كذلك تذكر من أسباب تراجع الدراما هجرة رموز الدراما وصناعها، وخصوصاً حين أقصت شركات الإنتاج السورية عدداً كبيراً من الممثلين، لاسيما أولئك الذين أعلنوا مواقفهم مما يجري في البلاد منذ العام 2011. واعتبرت من الأسباب أيضاً، المراوحة والتكرار في إنتاج دراما البيئة الشامية، والتي تم من خلالها تغييب بقية المجتمع السوري عن فضاء الدراما، وكذلك التراجع في إنتاج الدراما التاريخية، التي أثبتت الدراسات أنها تحوز على شعبية واسعة وتتمتع بجودة إنتاجية عالية.
كذلك يتعرض الإنتاج الدرامي السوري لمنافسة شديدة من محاور أربعة: الدراما التركية، الدراما المصرية، الدراما اللبنانية أو العربية المشتركة، وأخيراً الدراما الخليجية التي بدأت تعتمد على إنتاجها المحلي بدلاً من دعم إنتاجات الدراما السورية والمصرية.
لعبت الحرب وتأثيراتها دوراً كبيراً في تراجع الدراما السورية، تكتب الباحثة في هذا الخصوص: "في سياق الحرب وجد صناع الدراما أنفسهم منقسمين بين من يريد التحدث عن الحرب وبشاعتها، وما تتركه من معاناة وآثار على الصعد كافة في المجتمع السوري، ووجد البعض الآخر ضرورة التريث وانتظار انتهاء الحرب للتحدث عنها درامياً"، وقد فصلت نقابة الممثلين السوريين وشطبت أسماء البعض ممن أعلنوا مواقف مناهضة للنظام، وحرضوا أو شاركوا في نشاطات الحراك السوري منذ العام 2011.
ومنذ تلك الفترة، عانت الدراما السورية من مقاطعة على مستوى الإنتاج والعرض من القنوات الخليجية، ولم تقتصر المقاطعة على الدراما المتلفزة بل أيضاً السينما السورية، ووفق مبدأ النأي بالنفس، تمت مقاطعة الأعمال الدرامية التي تتناول الحدث السوري، حيث لم تشأ الدول الخليجية الخوض في ملابسات الراهن الدموي في سورية، ما دفع بالناقدة روز سليمان للتساؤل: "كيف تستمر الدراما إن كانت محاصرة بين مقصين: مقص الرقابة الرسمية السورية ومقص شروط القنوات العربية؟".
أهم المحددات السياسية في الإنتاجات الدرامية خلال الحرب
تحت هذا العنوان قدمت الباحثة لخلاصة الخطاب السياسي الذي استنتجته من معاينة الإنتاج الدرامي السوري منذ العام 2011 وحتى الآن. وقد توصلت بدايةً إلى الاستنتاج بأن الدراما السورية عمدت إلى تغييب الأزمة السياسية من خلال الاكتفاء بالحديث عن تداعيات الحرب على حياة الناس اليومية، وهذا يرتبط بمحدد سياسي يعبر عن السياسية المعلنة للدولة السورية: الدولة قائمة وموجودة وقوية، والحياة تسير بشكل طبيعي من خلال المؤسسات.
كما احتل مفهوم الإرهاب مساحة كبيرة في الإنتاج الدرامي السوري مسلسلات مثل "بقعة ضوء"، "شهر زمان"، "دامسكو"، "ظروف غامضة" وغيرها. كما برز في الآراء السياسية انقسام الأعمال الدرامية حول الأزمة السورية، "فأصبح هناك إنتاج درامي بنَفَس معارض، وآخر ببصمة النظام ومفهومه لما يدور على الأرض السورية"، كذلك حيثية إدارة الأزمة، كانت واحدة من الموضوعات التي تناولتها سياسياً المسلسلات السورية وخصوصاً مسلسل "الولادة من الخاصرة" بأجزائه الثلاثة، حاول أن يرصد جوانب إدارة الأزمة والتعامل معها والوقاية من خسائرها ومن استمرارها، من خلال التصدي للرموز الفاسدة في السلطة.
إذن، تتركز الموضوعات السياسية التي استقصتها الباحثة في إنتاجات الدراما السورية بالإرهاب، الفساد في أجهزة الدولة، البعد الخارجي في الأزمة أو تدخلات قطر والسعودية وتركيا، العامل الأميركي والإسرائيلي المعادي، القيام ببعض الإصلاحات الدستورية والحفاظ على الدولة وتماسك مؤسساتها.
وفي نهاية البحث تقدم الباحثة توصيتين لابد من التوقف عندهما:
- ضرورة إيلاء الدراما التلفزيونية أهمية أكاديمية وعلمية، كجزء من منظومة إعلامية.
- اقتراح منهجية خاصة بطلاب المدارس في المرحلتين التكميلية والثانوية، تعلم التلامذة كيفية التعامل مع المشاهدة التلفزيونية والأعمال الدرامية، لمساعدتهم على امتلاك حس انتقائي ونقدي.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 19 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 5 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين