على إحدى صفحات فيسبوك السورية المتخصّصة بالشؤون الصحية والطبية، بدأ منشور يعود تاريخه لعدة أيام خلت بعبارة "قيد مجهول يشغل خطوطنا الساخنة!"، في إشارة للمسلسل السوري ذي الحلقات الثمانية الذي انتهى بثه قبل بداية شهر رمضان، لكن أصداءه لا زالت متداولة حتى اليوم، مع استمرار كثيرين بمتابعته رغم ازدحام الأجندة الدرامية الرمضانية.
يتابع المنشور بالشرح عن السبب الذي يمكن أن يدفع منصة طبية للحديث عن عمل درامي، فالاتصالات التي تلقاها الخط الساخن كانت من متابعين فوجئوا مع نهاية المسلسل بأن الحالة النفسية التي يعاني منها البطل، وتُعرف طبياً باسم "اضطراب الهوية التفارقي"، هي أمر يعتقدون بأنه بات يلازمهم، خاصة خلال السنوات الأخيرة، دون أن يدركوا بأنها حالة مصنفة ضمن اضطرابات الصحة النفسية، وتعني أن المصاب بها يحمل أكثر من هوية متناقضة تتفاعل مع بعضها، وتتصرف بما يعجز هو عن القيام به، دون أن يكون قادراً على تذكر أي من المعلومات والتفاصيل المتعلقة بها.
لا نملك سوى الهروب من واقعنا الذي نعجز عن مواجهته وتغييره، نحو عالم آخر متخيل، نكون فيه أكثر شجاعة مما نحن عليه في الحقيقة
هذه الأصداء، والشعور بأن ما تناوله المسلسل يشبه ما يعيشه سوريون كثر اليوم، لم يقتصر على ما نشرته تلك المنصّة، بل بدا واضحاً من خلال مئات المنشورات التي امتلأت بها مواقع التواصل الاجتماعي السورية في الأسبوعين الأخيرين، سواء ممن احتفوا بالعمل لكونه شكّل برأيهم نقلة في عالم الدراما السورية، كتابة وتمثيلاً وإخراجاً وإنتاجاً وتصويراً، أو ممن أسقطوا معظم تفاصيله على حياتهم الشخصية، ليخرجوا باستنتاج مفاده أن "البطل على الأغلب يشبهنا جميعاً، ونحن لا نملك سوى الهروب من واقعنا الذي نعجز عن مواجهته وتغييره، نحو عالم آخر متخيل، نكون فيه أكثر شجاعة مما نحن عليه في الحقيقة".
سمير ويزن، ونحن
بطلا العمل هما سمير (عبد المنعم عمايري)، ويزن (باسل خياط).
الأول يعمل خياطاً وسائق سيارة أجرة، ولا يمكن إلا أن نشعر بأنه يشبه شريحة واسعة من السوريين بكل ما يتعلق بتفاصيل حياته، بدءاً من المنزل بما يحتويه من تلفاز صغير ومرآة مكسورة، والسيارة الصفراء المتهالكة التي يعمل عليها مساءً، مروراً بملابسه التي تبدو أكبر من مقاسه، وحذائه غامق اللون المتسخ على الدوام، وصولاً لملامح وجهه التي خط التعب كل تجاعيدها، والأهم ربما، انكساره الدائم أمام كل ما يعيشه يومياً، ومحاولاته الدائمة الفاشلة، لتأمين مستوى معيشي كريم لعائلته، فهو غير قادر على شراء "بيضة كيندر" الأصلية التي تحبها ابنته الوحيدة، ويضطر، ككل السوريين، لترك عمله والتوجّه نحو مكان بعيد للحصول على أسطوانة الغاز المخصصة له، وحين يفتح محفظته لإخراج هويته على أحد الحواجز، لا نلمح فيها سوى بضع مئات من الليرات. والبطل الثاني هو النقيض، الشاب الأنيق المنطلق ذو الحياة الصاخبة التي لا يهدأ إيقاعها، بين الحفلات الليلية، لعب القمار، العلاقات العاطفية السريعة والنقود الكثيرة التي لا يشعر بالقلق إزاء الحصول عليها أو تبديدها.
تدور أحداث المسلسل بداية في خطين متوازيين، نتعرف في الأول على سمير ويزن وعلاقة الصداقة الغريبة التي تربطهما، وقد بدأت تتوطد مع آخر سنوات الحرب في سوريا، وفيها يحاول يزن مساعدة سمير كي يؤمن مبلغاً مالياً يشتري به ماكينات الخياطة من الورشة التي يعمل فيها وهي على وشك الإغلاق. وفي الخط الثاني نرى جرائم قتل يروح ضحيتها رجل أعمال وفنانة لها شهرة كبيرة وصاحب الورشة التي يعمل فيها سمير، ونغوص مع المحققين في عالم بات له حضور ملحوظ في سوريا خلال السنوات الأخيرة، وأبطاله أثرياء وتجار ومسؤولون من طراز رفيع، بمقابل العالم الآخر الذي يعيش فيه سوريون مسحوقون في محاولات تأمين لقمة عيشهم.
واعتباراً من الحلقة السابعة، يتشابك الخطان لنعرف بشكل مفاجئ أن جرائم القتل لا علاقة لها بمجتمع المتنفذين كما كنا نعتقد، بل سمير هو من ارتكبها، ولكل منها أسباب تسوغها معرفتنا بإصابته باضطراب الهوية التفارقي الناجم عن أحداث متلاحقة في حياته، منها تعرضه للتحرش في طفولته، وبأن يزن ليس شخصية حقيقية، بل هو هوية أخرى لسمير. هذه الشخصية هي من كانت تقتل، وأيضاً تعيش تلك الحياة الصاخبة، التي تشكل كل تفاصيلها ما هو "مشتهى" بالنسبة للبطل المسحوق، فحين يهينه رجل الأعمال أمام العشرات تكون ردة فعله أن يقتله، وكذلك الأمر بالنسبة لصاحب ورشة الخياطة الذي لا ينفك يستهزئ به ويهدده بفقدان عمله. ينتهي الأمر بسمير مداناً بجرائم القتل وهو في مشفى للأمراض النفسية، لكن صديقه المتخيل يزن يعود لينقذه ويطير به نحو عالم لا يعرف الضعف والذل والحزن والانكسار.
في خضم تلك الأحداث التي تتسارع على مدار الحلقات الثمانية، ببنية درامية بعيدة عما اعتاده المشاهد السوري ضمن القوالب الرمضانية التي تتكون من ثلاثين حلقة ولا مهرب فيها من الإطالة والحشو، وبكوادر جديدة إلى حد كبير، كان مشرفاً عليها المخرج السدير مسعود، تمر عبارات لامست الكثير من السوريين، كما بدا واضحاً من تعليقاتهم، مثل: "كلنا منعرف كيف بتمشي القصص بهالبلد، في ناس فوق، وفي ناس تحت"، "كيف ما خاف؟ كلشي بيخوف"، "أنا حياتي ثقيلة صعبة، الدنيا عم تسكر بوجهي"، "ماعم يصدقوني، يمكن لأني مضيع هويتي"، وغفرت لأخطاء تقنية وفنية لا بد لكل عمل من أن يمر بها، إلا أنها في "قيد مجهول" بدت أقل أهمية من الحكاية والنص الذي عبّر بحرفية وإتقان عن هوياتنا المتعددة المتناقضة، والخوف الذي بات ملازماً لكل تفاصيل حياتنا.
تتجسد شخصية سمير تماماً في سوريا، وهي تخلق هويات أخرى كآلية دفاعية عن بنيتها النفسية الهشة العاجزة عن تحمل القسوة المطبقة عليها، فتأتي تلك الهويات لتتحمل التجربة عنها
الاضطرابات النفسية كرة ثلج مهملة
بدأت فكرة النص بالتشكّل في ذهن الكاتبين محمد أبو لبن ولواء يازجي قبل حوالي عامين، كما تحدثا في لقاء مع رصيف22، وتحديداً من حلم راود محمد ورأى نفسه فيه بهوية أخرى تماماً. تبع ذلك بحث مطول عن الاضطرابات النفسية التي تسبب حالة تعدد الهويات هذه، مروراً بكل الأعمال المكتوبة والدرامية التي تناولت الموضوع، وتبلورت الفكرة بشكل نهائي مع زيارة الكاتبين المقيمين في برلين لسوريا عام 2019، ليعرفا أن الحكاية لا بد وأن تتحدث عن السوريين وليس أي أحد غيرهم.
"ما لاحظناه هناك من عنف موجود لدى البشر وفي الشارع وكل تفاصيل الحياة، وهو أمر كان واضحاً أنه يزداد عاماً بعد آخر نتيجة مفرزات الحرب، جعلنا نرى شخصية سمير متجسدة تماماً في سوريا، وهي تخلق هويات أخرى كآلية دفاعية عن بنيتها النفسية الهشة العاجزة عن تحمل القسوة المطبقة عليها، فتأتي تلك الهويات لتتحمل التجربة عنها، وبدأنا نربط بين هذه المشاهدات وبين بنية العمل الدرامية"، يقول محمد.
استغرق الأمر بعد ذلك عدة أشهر لبناء شخصيات سمير ويزن والعالم المحيط بهما، بالاستعانة بخبراء نفسيين، ومن ثم مع فريق العمل لمحاولة إنتاج مكان يشبه الواقع السوري ويجاوره بكثير من التفاصيل دون أن يطابقه بالضرورة، ما يخلق إحساساً بأننا ربما نشاهد حلماً قد يلامس الواقع وقد يكون بعيداً عنه، لكن الأمر في النهاية يخدم فكرة اضطراب الهوية التي يتحدث عنها العمل بالمجمل، وفق تعبير محمد ولواء.
الأحوال النفسية للسوريين اليوم هي مفرز واضح جداً للحرب، لكنه مهمل في انتظار أن تنتهي كل المعارك، وحينها قد نفكر بالجلوس وإحصاء خسائرنا المتراكمة، فيتحول الأمر إلى كرة ثلج تكبر يوماً بعد آخر دون أن تحظى بأي اهتمام يذكر
وفي الوقت ذاته شدد الكاتبان -وهما خريجا المعهد العالي للفنون المسرحية بدمشق- على أن العمل ليس توثيقاً أو درساً عن اضطراب الهوية التفارقي، وإنما محاولة للإضاءة عليه بشكل درامي لا يخلو من شطحات خيالية لا بد منها، كما أن طبيعة هذا الاضطراب، بما فيه من شخصيات يخلقها المريض ولا يكون قادراً على السيطرة عليها، إذ لكل منها تجاربه ومقدراته الخاصة، هي بمثابة إغراء لأي كاتب كي يستفيد من القدرات الهائلة لخيال الإنسان ولا وعيه على تجاوز علله النفسية وحتى الفيزيائية من خلال تلك الهويات المتخيلة.
وتضيف لواء بأن أهمية تناول اضطراب نفسي كهذا ضمن عمل سوري تأتي من كون الأحوال النفسية للسوريين اليوم هي مفرز واضح جداً للحرب، لكنه مهمل في انتظار أن تنتهي كل المعارك، وحينها قد نفكر بالجلوس وإحصاء خسائرنا المتراكمة، فيتحول الأمر إلى كرة ثلج تكبر يوماً بعد آخر دون أن تحظى بأي اهتمام يذكر.
"بناء على ما مررنا به يا صديقي خلال عشر سنوات، كم هوية يجب أن نمتلك كي نتعايش مع كل هذه القسوة؟"، سؤال طرحه أحد من تابعوا المسلسل على فيسبوك، ليجيبه آخر: "الكثير الكثير يا صديقي".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...