"كانت السينما المصرية قريبة إلى الواقع في تقديمها لشخصية المكفوف، فقد استطاعت أن تعبر عن مكنوناته، ورصدت أحاسيسه وهواجسه، وتمكنت من عرض يوميات فاقد البصر بكامل معاني الخصوصية التي يتميز بها، ووظفتها درامياً وكوميدياً بشكل فريد، فكان الحس الإنساني الطابع المميز لها"، بهذه الكلمات بدأ الناقد الفني طارق الشناوي حديثه لرصيف22 حول مختلف جوانب شخصية المكفوف في السينما المصرية.
السينما المصرية عندما عرضت شخصية المكفوف كانت صادقة.
استعرض الشناوي رؤيته النقدية حول عملية توظيف السينما المصرية لهذه الشخصية وسماتها المميزة: "السينما المصرية عندما عرضت شخصية المكفوف كانت صادقة"، مشيراً لنجوم وفنانين كثر نجحوا في تقديم هذه الشخصية الشديدة الحساسية بقدر من الإتقان سواء كانوا فنانين قدامى أو معاصرين، بداية من فيلم "ليلى في الظلام" الذي لعبت دور البطولة فيه ليلى مراد وصولاً لفيلم "قصة حب" وبطله الممثل أحمد حاتم.
"شخصية المكفوف كانت سر نجاح الحبكة الدرامية في الأفلام الروائية"، يؤكد الشناوي، ويضيف أن الدراما السينمائية التي استعرضت قصصاً لفاقدي البصر جعلت منهم الشخصية المحورية للقصة الروائية، ووضعت حولهم الأزمات وقلصت الأدوار الأخرى لتخدم الشخصية الأساسية.
يشير الشناوي إلى أن أول عرض لشخصية المكفوف في السينما المصرية كان عام 1944، مع فيلم "ليلى في الظلام" الذي قدمه المخرج توجو مزراحي وقامت بدور البطولة فيه ليلى مراد، وتبدأ قصته بفقدان ليلى بصرها ثم إخفاء الخبر السيئ عن خطيبها حسين صدقي، ثم تقرر أن تبتعد عنه لكنه يكتشف الأمر ويرفض أن يتركها: "ربط هذا الفيلم بين قيمة التضحية وقيمة الحب الحقيقي فبيّنت الأزمة صدق مشاعر الطرفين".
ثم يتوجه الشناوي للحديث عن فيلم "الكيت كات" الذي يعتبره من أكثر الأفلام السينمائية قرباً إلى قلبه خاصة أنه قدم شخصية المكفوف بصورة استثنائية: "الكيت كات جمع بين الكوميديا الشعبية والدراما الهادئة في قالب اجتماعي ممتاز"، يقول.
أُنتج هذا الفيلم عام 1991، وهو مأخوذ عن رواية مالك الحزين للكاتب إبراهيم أصلان، وقدم محمود عبد العزيز شخصية الشيخ حسني، المكفوف الذي لا تمنعه إعاقته من حب الحياة والاستمتاع بها كالأطفال، ويقضي أيامه كما يبتغي أن يعيشها.
يلفت الشناوي إلى أن عبد العزيز استطاع تقديم شخصية المكفوف بشكل جيد، وفي نظره أن المخرج داود عبد السيد تمكن من تقديم فيلم مميز وكان ذلك وراء اختياره واحداً من أفضل 100 فيلم في تاريخ السينما المصرية.
كانت السينما المصرية قريبة إلى الواقع في تقديمها لشخصية المكفوف، فقد استطاعت أن تعبر عن مكنوناته، ورصدت أحاسيسه وهواجسه، وتمكنت من عرض يوميات فاقد البصر بكامل معاني الخصوصية التي يتميز بها، ووظفتها درامياً وكوميدياً بشكل فريد، فكان الحس الإنساني الطابع المميز لها
الإخراج السينمائي وصدقية الجمهور
يقول المخرج السينمائي محمود كامل لرصيف22 إن مخرج فيلم "الكيت كات" استطاع إيصال حالة الشيخ حسني إلى المشاهدين الذين أظهروا تعاطفهم مع هذا الرجل المسالم الخفيف الظل: "جعل داود عبد السيد موهبة محمود عبد العزيز تظهر للمشاهد واستعمل الكوميديا بطريقة احترافية".
ويرى كامل أن مكان التصوير يلعب دوراً كبيراً في مدى تصديق الجمهور لما يراه: "يمكن للجمهور أن يعيش الحالة الإنسانية المعروضة في العمل الفني عندما تتكامل عناصرها، والمكان هو رمزية أساسية لنجاح هذه الحالة".
يمكننا أن نرى هذه الحالة من اليأس الممزوج بالإحباط في العمل السينمائي الذي قدمه المخرج عز الدين ذو الفقار في فيلمه "أسير الظلام" من إنتاج عام 1947، حين كانت المرأة ملاذاً أخرج فاقد البصر من أزمة شعورية، كما جدد تقديم هذه الحالة في فيلمه البوليسي "الشموع السوداء" حيث عاش الشاعر المكفوف الذي قدم دوره صالح سليم معقداً من النساء بسبب خيانة حبيبته له، لكن الممرضة التي أسندت لها مهمة رعايته أخرجته من هذه الحالة، وهنا تثبت رؤية كامل في قدرة المخرج على استخدام جميع العناصر حوله لخدمة هدف العمل الفني وتوصيل رسالته للجمهور.
جوانب مشرقة وأخرى مسيئة
ناقشت الناقدة الفنية ماجدة خير الله في حوار مع رصيف22 رومانسية فيلم "قصة حب"، وهو أحدث الأفلام السينمائية المصرية التي تناولت في عرضها الروائي شخصية المكفوف حينما نشأت قصة حب بين يوسف الذي جسده أحمد حاتم وجميلة التي قدمت دورها هنا الزاهد. يوسف هو شاب ضرير تعلقت بحبه فتاة وضعت نفسها أمام تحدٍ كبير لمعرفة طبيعة مشاعرها إن كانت تعاطفاً أم حباً حقيقياً، وبحسب الناقدة فإن الفيلم قدم رومانسية رقيقة مزجت بين التفاؤل والحب وتعاطف المشاهد.
وتشير أيضاً للجوانب المسيئة التي قد يتعرض لها المصاب بفقدان البصر في حياته اليومية، وهذا ما عرضته السينما المصرية في فيلم "شمس لا تغيب" من إنتاج عام 1959 وإخراج حسين حلمي. تبدأ قصة الفيلم مع تعرض سهى "زبيدة ثروت" لحادث نتج عنه فقدانها البصر، فتركها خطيبها في الوقت الذي كانت تحتاج إلى وجوده، فخيم على قلبها شعور بالحزن والخذلان، وهذا ما دفعها للانعزال والعيش في حالة من الوحدة والأسى وصلت بها حد الامتناع حتى عن إجراء أي محاولة للعلاج، لكن طبيبها كمال الشناوي أحبها بقلب مخلص فأجرى لها عملية جراحية سرية، وهنا يعرض الفيلم المأساة النفسية التي قد يعيشها المكفوف حين يجد تنمراً ورفضاً من المجتمع.
وتتحدث خير الله عن حالات الاستغلال التي قد يتعرض لها المكفوفون، والتي تناولها فيلم "صباحو كدب" الذي أنتج عام 2006 وقدمه المخرج أحمد النجار، إذ يتعرض نعناع الذي لعب دوره الفنان أحمد آدم لعملية نصب وتزييف كبيرة من قبل مجموعة من أقاربه الذين يستغلون فقدانه البصر، فيخططون لإقناعه ببيع أرضه بثمن زهيد ثم يدفعون نحوه بفتاة ليل جسدت دورها أميرة فتحي في محاولة منها لتقنعه بحبها الزائف له، وما إن يسترد بصره حتى يكتشف كذبهم وزيفهم.
وقدمت السينما المصرية أيضاً صورة أخرى لشخصية المكفوف الذي يقع في حالة استغلال من خلال فيلم "عبيد المال" الذي أُنتج عام 1953 وأخرجه كمال الشيخ، وجسد عماد حمدي شخصية جلال، الرجل الغني المكفوف وقد وضع ثقته البالغة في صديقه وحيد وقدم هذه الشخصية فريد شوقي، ويحاول وحيد قتل جلال لكنه ينجو، فيسعى إلى سرقته فيفشل ثم يعود البصر إلى جلال ويكتشف خيانة وحيد.
حاولت الأعمال الفنية التي قدمتها السينما المصرية أن تبزر قضايا مجتمعية عديدة من خلال شخصية المكفوف، فركزت على دور رعاية المكفوفين، وشرحت كيف كانت المرأة المكفوفة ضحية للاستغلال، وتحدثت عن الصراع بين العلم والجهل
عرض للقضايا المجتمعية
يقول المخرج السينمائي أحمد البدري لرصيف22 إن الأعمال الفنية التي قدمتها السينما المصرية حاولت أن تبزر قضايا مجتمعية عديدة من خلال شخصية المكفوف: "نجد مثلاً أن فيلم 'أمير الظلام' لفت الانتباه لأهمية التركيز على دور الرعاية وضرورة وجود رقابة ومتابعة على ما يحدث بها مع وجود بعض حالات الفساد داخلها"، وقد برز ذلك من خلال عرض الفيلم لدار المكفوفين التي تكرس حياتهم النمطية، فيثور عليها ويرفضها سعيد المصري الذي جسد شخصيته عادل إمام.
ويشرح البدري كيف كانت المرأة المكفوفة ضحية للاستغلال وقد ظهرت هذه الصورة في فيلم "اليتيمتين" الذي أُنتج عام 1948، وقدمه المخرج حسين الإمام، وجسدت فيه فاتن حمامة دور الفتاة المكفوفة نعمة التي يتم استغلالها في عمليات التسول، وبانتصار الخير على الشر تتمكن نعمة من الهرب.
ويلفت البدري إلى معتقد ديني وثقافي يسيطر على تفكير وقرارات بعض أفراد المجتمع المصري وهو التبرك بالأولياء والاعتقاد بأنهم قادرون على تحقيق المعجزات ومن ضمنها الشفاء من الأمراض، وهنا يشير إلى فيلم "قنديل أم هاشم" الذي قدمه المخرج كمال عطية عام 1968، ويحكي عن ذلك الصراع الذي ينشأ بين العلم والجهل، إلى جانب المعتقد الديني والأثر النفسي لدى الأفراد الذين يثقون بقدرات الأولياء.
ويعرض الفيلم قصة طبيب الرمد اسماعيل وقد أدى شخصيته شكري سرحان، وهو يسكن في أحد الأحياء الشعبية ويجد أن أهل هذا الحي يعتقدون بمعجزات الأولياء وآل البيت ويصدقون أن لهم قدرات، فيتبركون بهم ويسألونهم الوسيلة، ثم يلاحظ الطبيب كثرة في أعداد المصابين بمرض الرمد ويكتشف أن سببه استخدامهم لزيت القنديل الذي يحصلون عليه من مسجد الحي ويظنون أنه مبروك، ثم يعالج هذا الطبيب فاطمة التي جسدت شخصيتها سميرة أحمد فيتم لها الشفاء ويعود بصرها بعد أن يوهمها أنه استخدم الزيت لعلاجها.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 7 ساعاتكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 4 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...