السياسة لا تصوغها الأمنيات، ولا تبالي بالينبغيات، ولا تخضع للمثاليات، وإنما لحقائق القوة على الأرض. أتذكر ذلك، وأذكّر به أعدادا لا نهائية من المثاليين الأبرياء، وغير المثاليين غير الأبرياء، في العالم العربي. هؤلاء وهؤلاء، بنيّة طيبة لسوريا ما بعد الأسد أو برجاء لئيم يريد فشلَ التجربة قبل الاختبار، أدمنوا إسداء النصائح إلى القائد العام لإدارة سوريا أحمد الشرع، الذي تخلى عن لقبه الجهادي أبي محمد الجولاني. الوصايا الإلكترونية الموجزة، والتحليلات المطولة، لم يطلبها الجولاني ولا يريدها؛ فوقته لا يسمح بالمتابعة، وأظنه يستغني عن الاستجابة لأي دعوة لم ينصت إليه المنتصرون في التاريخ الإسلامي، أيّاً كان استحقاق النصر، أو سوء العاقبة.
التاريخ يسجل أن السلطة لمن غلب. المتغلب بالقوة أو بالحيلة، أو من دونهما، يفضّل أن يكون وحده، له شريك في الملك. أقترب بحذر من مآلات التجربة السورية الحالية، وإذا اقتربتُ أكثر من اللازم سألوذ بالتاريخ؛ لإنقاذي من التورط في مشروع استقطاب ديني علماني. وما يمكن الاتفاق عليه أنه في الثامن من كانون الأول/ديسمبر 2024 أُنجز شيء عظيم، هو فتح معتقلات معلنة وأخرى خفية، وإخراج عشرات الألوف من ضحايا بشار الأسد وأبيه. مرّت سوريا بربيعين قصيري العمر، ربيع دمشق عام 2000، والثورة السورية المغدورة عام 2011. كلا الربيعين، الإصلاحي والثوري، لم يحلم بإنجاز تحرير هؤلاء الأبرياء؛ لتخلو البلاد من مظلومين وراء الأسوار.
التاريخ يسجل أن السلطة لمن غلب. المتغلب بالقوة أو بالحيلة، أو من دونهما، يفضّل أن يكون وحده، له شريك في الملك
الأحزاب الشيوعية العربية لا يعلّمها التاريخ، ولا مآسيها القريبة. بيان الحزب الشيوعي السوري الموحد مثالي لا يصطدم بالسلطة الجديدة، ويتجاهل طبيعتها وداعميها، وفي الختام: "نؤكد أننا نريد لسوريا المستقبل أن تكون حرة، ديمقراطية مدنية"، وقبل الختام يشدد على مواصلة النضال "من أجل إخراج القوات الأجنبية المحتلة وفي مقدمتها الاحتلال الإسرائيلي والأمريكي والتركي". وبيان حزب العمل الشيوعي السوري دعا إلى تشكيل جمعية وطنية ممثلة للسوريين كافة، لتصوغ الدستور الجديد، وأدان "بأشد العبارات الصمت الدولي والعربي على القصف الإسرائيلي لمقدرات الشعب السوري... حتى سلطة الأمر الواقع لم تصدر أي موقف تجاه ما جرى من قصف واحتلال لأرض سورية وصلت إلى مشارف العاصمة".
ومن الجوار القريب، تفاءل بيان الحزب الشيوعي اللبناني، في 10 كانون الأول/ديسمبر، بالرهان على "إرادة الشعب السوري"، بدعم من قوى اليسار والتقدم والديمقراطية في مواجهة المخاطر المحدقة بسوريا والمنطقة، واعياً بأن التغيير الجذري الشامل للنظام "وبناء الدول السيّدة العادلة، هي عملية أشد تعقيداً بكثير من مجرد رحيل رئيس وقدوم رئيس. وهذا ما يستوجب التنسيق والتكامل والوحدة بين مختلف أطياف القوى الوطنية والديمقراطية والعلمانية والتقدمية والشيوعية في سوريا"، لإعادة تشكيل مستقبل البلاد. أكتفي بهذه الإشارات إلى البيانات الثلاثة، وما يحمله خطابها من رغبات، آمل ألا يثبت المستقبل القريب أنها إبراء ذمة؛ فالجولاني ذو الخلفية الجهادية لا ترضيه اصطلاحات العلمانية والتقدمية والدولة المدنية.
حزب العمل الشيوعي السوري أدهشه صمت "سلطة الأمر الواقع" على توغّل العدو، والْتهام المزيد من الوطن، وبلوغ القصف والاحتلال مشارف دمشق. إسرائيل لا تخفي أطماعها، سارعت إلى خرق اتفاقية وقف إطلاق النار عام 1974، واحتلت الجانب السوري من جبل الشيخ الإستراتيجي المطل على دمشق. بدأت النكبة الثانية، بقرار إخلاء القرى الجنوبية. سمعتُ أهالي قرية "الحرية" يقولون إنهم أُمروا بالرحيل، بلا عودة. إسرائيل دمرت ما قدّره الخبراء بثمانين في المئة من قدرات الجيش السوري. هذا كله يفترض أن يتصدر اهتمامات "سلطة الأمر الواقع"، أن يكون أكثر أهمية من الانتقام الفكاهي من الأسد الذي انتهى، ولا يمثل تهديداً. فكيف ردّ أحمد الشرع؟
قال إن "الحجج الإسرائيلية باتت واهية ولا تبرر تجاوزاتها الأخيرة". تجاوزات وليست عدواناً. صيغة تبحث عن تسويغ لمسوّغات العدو، انتقاد خجول لحجج يراها الجولاني واهية. ميوعة صاحب بيت اقتحمه لصوص تتمثل بقوله لهم: أسأتم التقدير، ما في البيت إلا الماء. في هذه الصيغة من الحنان ما يثير الأسى، ويطئْمِن العدو على عجز الضحية، فلم يُجرِم الإسرائيليون، فقط "تجاوزوا خطوط الاشتباك في سوريا بشكل واضح، مما يهدد بتصعيد غير مبرر في المنطقة". العدو آمنٌ، فسوريا لن تدخل "في أي صراعات". أين نضع آية "كُتب عليكم القتال وهو كُرهٌ لكم"، وقد اُعتدي علينا؟ يجيب: "الحلول الدبلوماسية هي السبيل الوحيد لضمان الأمن والاستقرار".
أبتعد، كما وعدتُ، عن الشرع وسورياه، لائذا بالتاريخ، مستعيداً سلوك الظافرين. كان عبد الملك بن مروان عابداً تقياً، يُلقّب بحمامة المسجد، وبالمسجد اعتصم رافضاً مساس جيش يزيد بعبد الله بن الزبير. وبانقطاع نسل أبي سفيان، تولى مروان بن الحكم، وسرعان ما مات، فصعد ابنه عبد الملك. في أيام البراءة رفض عمرو بن سعيد بن العاص مبايعة عبد الملك، واتفقا على أن تكون الخلافة لعبد الملك، ومن بعده لعمرو. وثّقا الاتفاق وشهد عليه أشراف الشام. ولم يتأخر غدر "الخليفة". صلى العصر، وأمر بعمرو "فأضجع، وذبح ذبحا، ولُفّ في بساط". كما سجل الدينوري في "الأخبار الطوال". ثم أرهب أصحاب عمرو، قتلا ومطاردة.
السياسة لا تصوغها الأمنيات، ولا تبالي بالينبغيات، ولا تخضع للمثاليات، وإنما لحقائق القوة على الأرض.
بقية المأساة معروفة. الخليفة استحلى السلطة؛ فواجه الناس: "والله لا يأمرني أحد بتقوى الله بعد مقامي هذا إلا ضربت عنقه". وأرسل الحجاج بن يوسف فحاصر مكة، وضرب الكعبة بالمنجنيق، وقتل ابن الزبير وصلبه، وبعث برأسه إلى "أمير المؤمنين". هذا شأن رجل سعى إليه الحكم، واستمرأ لذة السلطة التي تثير جنون العسكريين أكثر، فيعايرون الشعب بمخاطرتهم حين قاموا بالانقلاب. كان معمر القذافي صواماً قواماً، ولم يحتمل أن يخالفه شركاؤه. فشل انقلاب زميله عمر المحيشي، فهرب إلى المغرب. وفي "صفقة قذرة"، تضمنت وقف دعم القذافي لجبهة البوليساريو ودفع 200 مليون دولار للحسن الثاني، استعاد المحيشي وذبح "كالخروف"، كما قال عبد الرحمن شلقم.
هل الجولاني استثناء؟ أستبعد أن يفرّط في السلطة لاعبٌ يتمتع بالنفس الطويل، ازداد نفوذ جماعته على المسرح، بعد أن ابتلع المشهد كثيرين، في مقدمتهم نجوم في المجلس الوطني الذي تشكل في خريف 2011. هل يتركها لبرهان غليون؟ فلأبتعد، وأذهب إلى تجربة الخميني الذي قطف ثمرة ثورة شعبية، تمّ تزوير صفتها. يرى سبهر ذبيح "أن زعامة الخميني جاءت عفوية، وكان يمكن تجنبها، بل إنه بعد ثلاثة أشهر من توليه السلطة بدأت معظم الجماعات السياسية المعادية للشاه في إدراك الخطأ الذي وقعت فيه بتأييدها له وانفضت من حوله". وبنهاية عام 1979، تحولت الثورة الشعبية على النظام الديكتاتوري للشاه، إلى "اغتصاب ديني للسلطة".
المرجع الشيعي محمد كاظم الحسيني شريعتمداري، الذي أنقذ الخميني من الإعدام في عهد الشاه، كان يشدد على النأي بالإسلام عن السياسة، ويعارض فكرة ولاية الفقيه والدستور الذي تضمن صلاحيات مطلقة للخميني تفوق ما كان للشاه. وفي كتابه "قصة الثورة الإيرانية"، الذي ترجمه إلى العربية عبد الوهاب علوب، يقول ذبيح إن الخميني "عقد العزم على أن يكون النظام الجديد جمهورية إسلامية خالصة ومطلقة"، واصفاً الأهمية السياسية لبيانات الخميني بأنها ظلت ضئيلة حتى نهاية عام 1978، فالثورة ولدت "داخل البلاد"، بمشاركة شعبية، وإن الجماعات اليسارية التي دعمت الخميني عام 1979 "لسحق أنصار شريعتمداري تحولت هي نفسها بعد قليل إلى ضحية لانتقام الخميني".
هل الجولاني استثناء؟ أستبعد أن يفرّط في السلطة لاعبٌ يتمتع بالنفس الطويل، ازداد نفوذ جماعته على المسرح، بعد أن ابتلع المشهد كثيرين، في مقدمتهم نجوم في المجلس الوطني الذي تشكل في خريف 2011. هل يتركها لبرهان غليون؟
لم تتأخر الإفاقة، وانشق عن الخميني رجال دين وسياسيون حذروا من إعادة إنتاج الاستبداد، وتوالت الإعدامات بتهم "التمرد على الدولة، والفساد في الأرض، ومحاربة الله". وقضت محكمة الثورة بإعدام الكثيرين من المناضلين ضد استبداد الشاه. ولم ينجُ رئيس الجمهورية أبو الحسن بني صدر من تهمة الخيانة، وعزله الخميني فاختبأ، فأصدر آية الله قدوسي المدعي العام لمحاكم الثورة أمرا باعتقاله، مع توعّد من يساعدونه على الهرب. تلك الدراما الإيرانية إحدى نتائج اختزال الثورة في شخص، واعتبار الشخص هو الوطن أو روح الله. يقل في الدرجة، لا النوع، إذا كان الحكم عسكرياً كما بدأ في مصر، ليلة 23 تموز/يوليو 1952، ولم ينته.
في الشهور السابقة لاستيلاء الضباط الأحرار على الحكم، تلاحقت الوقائع. في تشرين الأول/أكتوبر 1951 أعلن رئيس الوزراء مصطفى النحاس إلغاء معاهدة عام 1936 مع الاحتلال البريطاني. كان النحاس سياسيا عنيداً، رفض إقامة احتفال ديني لتتويج الملك فاروق.
كان التخطيط أن يجيب الملك عن أسئلة شيخ الأزهر، ثم يقسم اليمين. رفض النحاس هذا الطقس استناداً إلى ليبرالية حزب الوفد التي تفصل الدين عن الدولة. في تموز/يوليو 1952، كان النحاس المعزول في عطلة صيف في سويسرا، وتمكن الضباط الأحرار من خلع الملك، وإجباره على مغادرة مصر. وعاد النحاس سعيداً بمصر الجديدة، شامتا بالملك الديكتاتور الذي لم يتقن إلا إقالة حكومة حزب الوفد.
فوجئ النحاس بحكم ضباط شبان حققوا، بالضربة القاضية، ما عجزت عنه الحركة الوطنية بالنقاط منذ عقود. ما كان لضابط في سن الرابعة والثلاثين، يفاوض الإنجليز على اتفاقية الجلاء، ليترك السلطة غنيمة لرجال الأحزاب، ويرجع إلى خشونة المعسكر ينتظر ترقية من قائده. واختلف الضباط، وتعرض البعض منهم للاعتقال والإقصاء، هذا متوقع إذا أديرت السياسة بمنطق المعسكر.
وما كان الفكاك من الحكم العسكري لينجح إلا بثورة شعبية، فكانت 25 كانون الثاني/يناير 2011، لولا عثرتين دبّرتهما القوى المضادة للثورة. ولأن "الثورة النصيحة"، مثل الدين، ففي المسألة السورية الحالية يؤكد السوريون عدم تكرار "السيناريو المصري"، يعايروننا بعودة العسكرة. والمصريون ينصحونهم ألا يتأفغنوا أكثر من اللازم.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
KHALIL FADEL -
منذ يومراااااااااااااااااااااااااائع ومهم وملهم
د. خليل فاضل
Ahmed Gomaa -
منذ يومعمل رائع ومشوق تحياتي للكاتبة المتميزة
astor totor -
منذ 5 أياماسمهم عابرون و عابرات مش متحولون
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامفعلاً عندك حق، كلامك سليم 100%! للأسف حتى الكبار مش بعيدين عن المخاطر لو ما أخدوش التدابير...
Sam Dany -
منذ أسبوعانا قرأت كتاب اسمه : جاسوس من أجل لا أحد، ستة عشر عاماً في المخابرات السورية.. وهو جعلني اعيش...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلماذا حذفتم اسم الاستاذ لؤي العزعزي من الموضوع رغم انه مشترك فيه كما ابلغتنا الاستاذة نهلة المقطري