لدى مريم النجدي قضية إنسانية تتمثّل في خلق حالةٍ من التفهُّم والتقبّل لمفهوم الاختلاف، فتسعى هذه الشابة المصرية بكل ما أوتيت من قوّةٍ لتصحيح صورةٍ ذهنيةٍ مغلوطة من خلال القول: "لم نخلق جميعاً بنفس الهيئة وبنفس الإمكانات البشرية، وفقدان شخص لشيءٍ ما لا يعني أنه أصبح يعاني نقصاً أو خللاً معيّناً".
وُلدت مريم فاقدة للبصر، ومع مرور الوقت أدركت اختلافها وتعايشت معه بابتسامة الواثقة المُقبلة على الحياة، إلا أنها قابلت العديد من العثرات، ليس لجهة فقدانها للنظر، ولكن فيما يخصّ بعض العقليات التي لا تتفهّم ولا تدرك أن فاقدي البصر مثلهم مثل أي شخصٍ آخر، وأن العقل والتفكّر والتدبير فقط هو ما يميّز بين الأشخاص، ومن هنا بدأت رحلة مريم فيما تُسمّيه: محاولة لتصحيح الصورة المغلوطة، وترسيخ مفهوم الاختلاف بين سائر البشر، وتغيير نظرة المجتمع للمكفوفين.
كسر الصورة النمطية
لطالما كانت "السوشال ميديا" ملاذ مريم النجدي للتعبير عن نفسها وإيصال صوتها للكثيرين، ومن خلال صفحتها على "فيسبوك" تقوم مريم بالردِّ على كافة الأسئلة التي تتبادر إلى الأذهان، على غرار: كيف يرى فاقد البصر وكيف يتخيّل الألوان؟ بالإضافة إلى محاولة تبديد الهواجس المتعلقة بكيفية استخدام السوشال ميديا، وإحساس فاقد البصر بالأشياء وبالأشخاص من حوله، ورؤيته للجمال والقبح، وكل ذلك يندرج ضمن ما تؤكّده مريم على أنه دورها في توعية المجتمع وإرساء ثقافة التعايش.
"لم نخلق جميعاً بنفس الهيئة وبنفس الإمكانات البشرية، وفقدان شخص لشيءٍ ما لا يعني أنه أصبح يعاني نقصاً أو خللاً معيّناً"
وبالفعل، تقوم مريم بدورٍ هام في تغيير الصورة النمطية المتعارف عليها عن فاقدي البصر، والتأكيد على أن الحياة هي المعنى الكامل لكلمة إرادة، to be or not to be، "فالله خلقنا لتبدأ مهمتنا في الحياة، فهل نريد أن نعيش أم لا؟ هل نريد أن نكون سعداء أو تعساء؟ ففي النهاية هذا قرارٌ شخصي"، على حدّ قولها.
وعن كيفية التأقلم مع متطلبات الحياة تقول مريم لرصيف22: "مفيش حاجة بتقول إن موجود في الحياة شخص معاق أو غير قادر أن يعمل حاجة مُعيّنة، كل البشر يقدروا يعملوا أي شيء يحبوه لو قرروا يعملوه"، وتنوّه مريم بأنها تعي جيداً أنه لديها أشياء جميلة تُميّزها عن غيرها، فتشير إلى أنها تعمل طوال الوقت على استغلال هذه النقاط الإيجابية بشكلٍ جيد.
قوة الإختلاف
على مرّ السنوات تقبلت مريم فكرة أنها شابة مختلفة تماماً كما يختلف الناس، ولكنها في المقابل تمتعض ممن ينظرون إليها على أنها الشابة الكفيفة العاجزة عن النظر، فهي ترفض تماماً توصيف الناس لكونها تعتقد أن البشر بإمكانهم أن يكونوا أصحاب قدراتٍ فائقة مهما كانت ظروفهم صعبة، كما تستنكر تصنيف الإنسان وفق إعاقته أو فقدانه لأي جزءٍ من جسده.
وتعتبر النجدي أنّ هذا التصنيف غير مُنصفٍ وغير صحيحٍ بالمرة، فالإنسان، وفق رأيها، يجب أن يُصنّف ويُميّز وفق صفاته الشخصية فقط وليس أي شيءٍ آخر، وتعيد لتؤكّد من جديد أن حالها كحال سائر الناس: "اختلافي الوحيد هو أني مابشوفش، تماماً كأي شخصٍ لا يستطيع فعل أمرٍ ما وأستطيع أنا فعله أفضل منه".
الصعوبات
تُصرّ مريم النجدي على رفض المساعدة من أيّ شخص، فتنزل بنفسها إلى الشوارع، وتذهب للتسوّق والعمل والتنزه، وغيرها من الأمور التي تعتبر بديهية بالنسبة لسائر الناس.
وبالرغم من بعض الصعوبات التي تواجهها في حياتها اليومية إلا أن النجدي تتجاوزها ببساطة، ليبقى الأصعب بالنسبة لها هو مواجهة الأشخاص الذين تقابلهم في أي مكان، والأسئلة المحرجة التي قد يطرحونها عليها مثل: "إزاي ماشية لوحدك في الشارع؟"، "مش عايزة مساعدة؟"، "فين أهلك ولا أي حد هما سايبينك كده إزاي؟"، وغيرها من الأسئلة المتطفلة السخيفة، كما تصفها.
وبعد هذه المواجهات مع الناس، تعود مريم إلى ملاذها عبر "فيسبوك" لتطلب من الجميع عدم طرح مثل هذه الأسئلة المحرجة، والتوقف عن التعامل مع أي شخص فاقد لأي جزءٍ من جسده على اعتبار أنه إنسان غير مكتمل الأهلية وبحاجة دائماً إلى مساعدة.
ولا تملّ النجدي من التحدث عن تجربتها في الحياة والتي تمثل تجربة الآلاف مثلها، وهي تُجيب دوماً عن كافة الأسئلة العالقة بالأذهان عن كل ما يخصها، مثل سؤالها عن كيفية استخدامها للسوشال ميديا، وخاصة أنها نشطة جداً على مواقع التواصل الاجتماعي، فتجيب بأنها تتعرّف على الصور على "فيسبوك" من خلال خاصية مُفعّلة عن التعرف على الصور وإعطائها توصيفاً كاملاً لها.
ومن خلال مقطع مصوّر، توضّح مريم كل التفاصيل الخاصة باستعمال الشخص فاقد البصر لوسائل السوشال ميديا.
نشر التوعية
بهدف توعية المجتمع وإرساء ثقافة التعايش بين البشر، تنشر مريم بصفةٍ دورية، مقاطع فيديو توعوية عن كل ما يخصّ حياتها اليومية، وتشير إلى أن حياة الكفيف تشبه حالة أي شخص يستمع إلى الراديو، فيكتفي بسماع الصوت وتخيّل الشخص وراءه، من دون أن يكون قادراً على رؤية المتحدث، هذا وتعتبر أن أهم 3 عناصر في حياة الكفيف هي: الإحساس، الخيال والصوت.
وتتحدّث مريم عن علاقتها بالطبيعة والأماكن التي تحب أن تقضي وقتها فيها وعن مفهومها للألوان، كأن تعتبر مثلاً الأصفر لوناً مشرقاً يشبه سطوع الشمس في الصباح، وتوضح كيف تستشعر جمال بعض الأشخاص أو قُبح غيرهم، فتتخيل مثلاً الوجوه وشكل أصحابها، هذا وتعتبر أن الوجوه المستديرة هي التي تتمتع بنسبة جمالٍ أعلى من غيرها، مع تأكيدها على أن الجمال نسبي.
حياة الكفيف تشبه حالة أي شخص يستمع إلى الراديو، فيكتفي بسماع الصوت وتخيّل الشخص وراءه، من دون أن يكون قادراً على رؤية المتحدث
تكشف مريم أن كل شيء بالنسبة إليها رهن إحساسها، بحيث أنها تقيّم المكان الذي تجلس فيه وفق إحساسها، ومع الوقت اتضح لها أن المكان الغني بالأشجار والهواء النقي هو بالفعل مكان جميل، أما عند التعرّف على الأشخاص وتكوين صورة عنهم فتحاول التركيز على أصواتهم، معتبرة أن الفرد الذي يتميز بصوت هادئ رقيق هو شخص جيد وليس سيئاً: " أما مش شايفاك بس سامعاك"، على حدّ قولها.
والمميز أنه لا يخلو أي مقطع فيديو من ابتسامة مريم وحرصها على نشر حالةٍ من التفاؤل، بالإضافة إلى غنائها وعزفها على آلة الكمان.
تؤكد مريم أنها لم تصل بعد لما تريده، وأنه ما يزال أمامها مشوار طويل، فهي ترغب في إيصال آرائها وأفكارها لفئةٍ مُعينةٍ من المجتمع، وهي الفئة الأُميّة التي لا تستعمل وسائل التواصل الاجتماعي، والتي تُقابل منهم الكثيرين عبر وسائل المواصلات العامة، ودائماً ما يُمطرونها بوابلٍ من الأسئلة.
وقد ختمت النجدي حديثها مع رصيف 22، بالتأكيد على فكرةٍ محددةٍ وهي "القناعة: "أن يقتنع الجميع بأنهم خُلقوا في أنسب صورةٍ ووضع مع الثقة بقدراتهم"، تماماً كما تفعل هي، فمريم واثقة من قدراتها ومتأكدة أنها ستصبح ذات شأنٍ كبيرٍ "حتى لو متأخر شوية"، على حدّ قولها وتضيف: "أرغب في أن أعيش في كنف مجتمعٍ واعٍ يليق بآدميتنا، دون أن يُغرقنا في تصنيفاتٍ لا قيمة لها ولا جدوى".
الجدير بالذكر أن مريم النجدي سبق وأن اختيرت لتكون ضمن المذيعين في قناة dmc للصمِّ وضعاف السمع، كما أنها شاركت في فيديو كليب أغنية "صاحب" التي ترعاها شركة الاتصالات أورانج، بحيث ظهرت في الكليب وبيدها آيباد مع العبارة التالية: "أنا أقوى مما العالم يتخيل".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ 3 ساعات??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 23 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون