شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!

"عائلة من الجحيم"... عندما روّع ستة أشقاء وأُسُودهم ترهونة الليبية وأسسوا دولتهم الصغيرة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

سياسة

الخميس 7 يناير 202105:47 م

في قصة أقرب إلى أدب الروايات منها إلى الواقع، استغل ستة أشقاء ينحدرون من أسرة فقيرة الفوضى الهائلة التي اجتاحت ليبيا بعد الثورة الشعبية على نظام العقيد الراحل معمر القذافي عام 2011، لفرض سيطرتهم على مجتمعهم وتأسيس دولتهم الخاصة وحكمها بالترهيب والأسود.


شكّل الإخوة عبد الخالق ومحمد ومعمر وعبد الرحيم ومحسن وعلي وعبد العظيم، من عائلة كاني أو الكانيات، "عائلة من الجحيم" استطاعت بسط نفوذها على مدينة ترهونة (جنوب شرقي العاصمة طرابلس) لنحو ثماني سنوات عذبوا وذبحوا خلالها الرجال والنساء والأطفال للحفاظ على سلطتهم بعدما أسسوا ميليشيا تحمل اسمهم "ميليشيا الكاني" التي عرفت أيضاً بـ"اللواء التاسع". استمر ذلك حتى الصيف الماضي حين نجحت قوات موالية لحكومة الوفاق الوطني المعترف بها دولياً في هزيمتهم وطردهم من ترهونة. علماً أن الميليشيا كانت على صلة في بداية تأسيسها بالوفاق قبل أن تسوء العلاقة بينهما بسبب محاولة "الكانيات" التغلغل في طرابلس.


منذ ذاك الحين، استمر الكشف تباعاً عن جرائم العائلة، التي اشتهرت عام 2017  بأعمال قتل واسعة في المدينة، بما في ذلك مقابر جماعية ضمت جثثاً لمقاتلين شبان قتلوا في معارك حول ترهونة في العام التاسع من الحرب الأهلية التي تعصف بالبلاد، وجثث العديد من المدنيين - بمن فيهم النساء والأطفال- وعليها آثار التعذيب.

"قطيع من الضباع"... استغل ستة أشقاء ينحدرون من أسرة فقيرة الفوضى الهائلة التي اجتاحت ليبيا بعد إطاحة القذافي عام 2011، لفرض سيطرتهم وتأسيس دولتهم الصغيرة في ترهونة التي حكموها ثماني سنوات بالقتل الوحشي والترهيب بالأسود. قصة ميليشيا الكانيات

"قطيع من الضباع"

على الرغم من مقتل ثلاثة منهم حتى الآن، وطرد البقية من ترهونة، يخشى أهالي المدينة الحديث عن جرائم الكانيات، لافتين إلى أنه لا تزال تصلهم تهديدات من موالين للميليشيا، وفق ما نشرته "بي بي سي" في تقرير مطول عن العائلة. في غضون ذلك، تكشف القبور الإرث المروع لعهد الإرهاب.


استذكر حمزة ديلاب، المحامي والناشط المجتمعي الليبي، الأشقاء كاني قبل الثورة، خلال اللقاءات المشتركة في الأعراس والجنازات، فقال لـ"بي بي سي": "هؤلاء الإخوة السبعة كانوا أشخاصاً فظّين، بلا أخلاق. كان وضعهم الاجتماعي صفراً (يقصد متواضعاً)". ثم أضاف: "كانوا مثل قطيع من الضباع عندما كانوا معاً. كانوا يشتمون ويتهاوشون حتى أن يضرب بعضهم بعضاً بالعصي".


حين اندلعت الثورة، ظل غالبية سكان ترهونة موالين للقذافي إذ كان الديكتاتور قد منح المدينة الأفضلية، فخص رجال أبرز عوائلها بوظائف مرموقة في قواته الأمنية. لكن الكانيات كانت من العائلات القليلة التي دعمت الثورة ليس رفضاً للظلم وإنما نكايةً مع بعض أبناء عمومتها المناصرين للقذافي على خلفية عداء دام 30 عاماً.


وجد الأشقاء في الاضطرابات التي أعقبت الإطاحة بالقذافي فرصتهم فأقدموا "ببطء وتكتم" على اغتيال تلك العائلة المنافسة "واحداً تلو الآخر"، حسبما أوضح حمزة. خلق هذا دائرة من الانتقام والانتقام المضاد أدت إلى مقتل ثاني أصغر الأشقاء، علي، عام 2012.


في سياق متصل قال جليل حرشاوي، الباحث في معهد كلينغيندال في لاهاي بهولندا، وقد أعد بحثاً عن تاريخ العائلة: "كان علي الأخ الشاب الوسيم في الكانيات، وعندما مات، حولوه إلى أسطورة"، لافتاً إلى أن "الإخوة قرروا الرد على مقتله ليس فقط بالعثور على الجناة وقتلهم بل عبر قتل عائلاتهم بأكملها".


بعد ذلك، انطلقت الكانيات من الانتقام إلى بسط سيطرتها تدريجياً على المدينة، مؤسسةً من بعض القوات العسكرية الموجودة فيها ميليشياتها الخاصة المكونة من عدة آلاف من المقاتلين. وكما معظم الميليشيات في ليبيا، باتت لديها إمكانية الوصول إلى أموال الدولة. 

"المرة الأولى التي نعثر فيها على نساء أو أطفال في مقابر جماعية. وجدنا جثة مدفونة بأجهزة طبية وقناع أكسجين وأنابيب وريدية... رجل حي تم أخذه من المستشفى ودفنه. هذه صدمة لنا"

شدد حمزة على أن "سياستهم كانت ترهيب الناس ليس لسبب إلا لخلق الخوف. لقد قتلوا لهذا السبب وحده"، وأنهم رسخوا لدى الناس قناعة بأن "كل من وقف ضدهم في ترهونة يموت".


عام 2017، نظم الأشقاء عرضاً عسكرياً للأسلحة الثقيلة ورجال الشرطة بالزي الرسمي والأسود التي أشيع أنهم كانوا يطعمونها لحم بعض ضحاياهم.


في 17 نيسان/ أبريل من نفس العام، اقتحم رجال الميليشيا منزل عائلة أبو كليش، وصوب أحدهم مسدسه إلى رأس إحدى نساء العائلة -حنان- مستفسراً عن الموجودين بالمنزل. قالت حنان إنه لا يوجد سواها لكن المسلحين جروها إلى غرفة والدها حيث قتلوه رغم محاولاتها ثنيهم عن ذلك. في اليوم عينه، قُتل ثلاثة من أشقاء حنان، واثنان من أبناء أشقائها يبلغ عمراهما 14 و16 عاماً.


لفتت حنان إلى خطف الكانيات بعض أقاربها وإخفائهم قسرياً، مضيفةً أنه لم يكن هناك أي دافع لهذه الاعتداءات سوى أن عائلتها كانت ميسورة الحال وتحظى بالاحترام في ترهونة. وسبق أن اتهمت منظمات حقوقية الميليشيا باختطاف عدد من نساء عائلة "هرودة" في البلدة بعد أن قضت على رجالها.


"دولة الكانيات"

بحلول ذلك الوقت، كان الأشقاء كاني قد أسسوا دولتهم الصغيرة في ترهونة وما حولها، بما في ذلك السيطرة على الشرطة النظامية؛ أداروا إمبراطورية تجارية، وابتزوا المصانع والشركات المحلية تحت مسمى "الضرائب" وبنوا مركزاً تجارياً وأنشأوا بعض المشاريع. كما استفادوا من "حماية" تجار المخدرات والمهاجرين الذين عبروا مناطق سيطرتهم بينما تفاخروا بمحاربة التهريب وإنشاء منطقة نظام في ليبيا التي مزقتها الحرب.


كان يحكم هذه الدولة المصغرة محمد الكاني الذي هو سلفي مقتصد وهادئ وثاني أكبر الإخوة، لكن العضو الوحيد في العائلة الذي حصل على قسط من التعليم وعمل منتظم بأجر قبل الثورة، إذ عمل سائقاً لدى شركة نفط.

بعد نحو سبعة أشهر على طرد الكانيات من ترهونة لا تزال جرائمهم المروعة تتكشف تباعاً، بما في ذلك المقابر الجماعية التي ضمت المقاتلين الشباب جنباً إلى جنب مع النساء والأطفال، وزنازينهم التي حولوها إلى "أفران تعذيب" وغطت الدماء جدرانها

خلفه، أتى عبد الرحيم الذي كان مسؤولاً عن "الأمن الداخلي" والتعامل مع أي خائن مشتبه به، ثم محسن "وزير الدفاع" في الميليشيا. قال حمزة عنهما: "عبد الرحيم كان القاتل الأول وبعده محسن"، مبرزاً أنه فرّ مع أخرين من ترهونة،  مستطرداً "لكن للأسف تجاهلت الحكومات كل جرائم الكنيات، لأن الميليشيا كانت مفيدة لها".


تبدل موقف الميليشيا من أطراف الحرب الأهلية عام 2019؛ تخلت عن حكومة الوفاق الوطني، التي كانت تسيطر على غرب ليبيا، لتتحالف مع ألد أعدائها، الجنرال خليفة حفتر، قائد الشطر الشرقي من البلاد، وقدموا له بلدتهم كنقطة انطلاق لمهاجمة العاصمة خلال حملته المزعومة لـ"تطهير طرابلس من الإرهابيين والمرتزقة".


أدى ذلك إلى تحول ترهونة الصغيرة إلى قمرة قيادة لصراع دولي لحفتر المدعوم من فرنسا ومصر والإمارات وروسيا. وفيما أرسل مرتزقة إلى البلدة لدعم حلفاء حفتر، وجهت تركيا -حليف الوفاق- السلاح والدرونز ضدهم. يعتقد أن طائرة تركية بدون طيار هي التي قتلت محسن الكاني وشقيقه الأصغر عبد العظيم (22 عاماً) في أيلول/ سبتمبر عام 2019.


قاد مقتل الشقيقين وتالياً فشل قوات حفتر في الاستيلاء على طرابلس إلى فترة دموية في ترهونة. أوضح جليل أن تنفيذ جرائم القتل بوتيرة أكبر كان وسيلة الكانيات لترهيب الناس لعدم التآمر ضدها بسبب "جنون العظمة" ومحاولة التعتيم على فشلها. 


جرائم بشعة ومشاهد مروعة

لدى طرد الميليشيا وتقهقرها مع قوات حفتر إلى الشرق، كان لدى أهالي ترهونة أمل في العثور على ذويهم الذين تم خطفهم واحتجازهم من قبل الكانيات. حين هرعوا إلى منشأة احتجاز الكانيات السيئة السمعة، هالهم منظر الزنازين الضيقة وهي فارغة بينما بعض الثياب ملقاة على الأرض والدماء تغطي الجدران.


قال دانيال هيلتون، مراسل "ميدل إيست آي" وأحد المراسلين الأجانب القلائل الذين زاروا ترهونة منذ هزيمة الكانيات، إنهم عثروا على أكوام من الرماد الناتجة عن حرائق أشعلها رجال الميليشيا فوق الزنازين لتحويلها إلى "أفران" كأحد أشكال التعذيب. ولاحظ أحذية صغيرة بألوان زاهية على أرضية زنزانة، مرجحاً أنها لأطفال قتلوا أو لمفقودين.


بحسب رئيس الهيئة العامة للبحث والتعرف على المفقودين بحكومة الوفاق الوطني، كمال أبوبكر، فإن نحو 350 شخصاً من ترهونة مسجلون مفقودين، فيما يرجح سكان محليون أن العدد الحقيقي قرابة 1000.


وفي حين تم التعرف على عدد قليل جداً من الجثث التي عثر عليها في المقابر الجماعية، قال أبوبكر إن المدافن التي اكتشفت حتى الآن صادمة أكثر من أي مدافن أخرى عُثر عليها في ليبيا منذ بداية الصراع عام 2011. وتابع: "هذه هي المرة الأولى التي نعثر فيها على نساء أو أطفال في مقابر جماعية. وجدنا جثة مدفونة بأجهزة طبية وقناع أكسجين وأنابيب وريدية... رجل حي تم أخذه من المستشفى ودفنه. هذه صدمة لنا كذلك".


منذ اكتشاف المقابر الجماعية، تزعم "الوفاق" أنها تجري تحقيقات في الأمر لكن حنان صلاح، باحثة ليبيا في منظمة هيومن رايتس ووتش الحقوقية الدولية، أعربت عن تخوفها من أن تغض الحكومة الطرف عن "بعض المزاعم الخطيرة للغاية" كونها كانت متحالفة مع الميليشيا طوال سنوات "ما يعني أن القيادة العليا هي لحكومة الوفاق الوطني، أما الضباط العسكريون والمسؤولون فقد يكونون مسؤولين عن انتهاكات خطيرة".


وعقب فتح المحكمة الجنائية الدولية تحقيقاً في حوادث القتل بترهونة، وضع اسم محمد الكاني على قائمة العقوبات الأمريكية. لكن في ظل حماية حفتر، لا يتوقع أن يواجه لاحقاً هو أو أي من إخوته الأحياء العدالة.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard