شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!

"زهرة البستان" في وسط القاهرة...مقهى للإلهام والأحداث الكبرى

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رود تريب

الأحد 2 فبراير 202005:48 م

يأتي هذا المقال ضمن الملفّ الذي أُطلق منذ شهر مارس/أذار 2020, في قسم "رود تريب" بـرصيف22، والمعنوَن: "داوِ الهمومَ بقهوةٍ سوداءِ... المقاهي العربية".


قريباً من ميدان التحرير الشهير في وسط القاهرة، حيث تزدحم الطرق بمارّتها، وسياراتها الكثيرة التي تشكّل في ساعات طويلة من اليوم اختناقاً مرورياً مرهقاً، لا يمكنكم الهرب منه إلا بالتسلّل إلى الشوارع الفرعية للمنطقة، حيث شارع "هدى شعراوي" الذي يستلقي على كتفه الأيسر عند أول المداخل وتحديداً في شارع البستان السعيدي الموازي لشارع طلعت حرب، مقهى شعبي صغير يعبق بالسّكينة والهدوء، بعيداً عن ضجيج المدينة. وهنا تكونون قد وصلتم إلى وجهتكم حيث مقهى "زهرة البستان" الشهير.

أكثر من ثمانين عاماً، هو عمر هذا المقهى القابع بين عمارات وسط البلد القديمة، والذي يُعدّ أحد أشهر الأماكن التي يقصدها المثقفون والفنانون في مصر؛ فهو الملجأ لهم بعيداً عن صخب الحياة؛ الأمر الذي دفع صاحبه الأول الحاج عبد اللطيف أحمد لأن يكتب على جدار المقهى من الخارج أن مقهاه "ملتقى الأدباء والفنانين". وهو ما تطوّر في السنوات الأخيرة، ليصبح المقهى مع ثورة يناير 2011 ملتقى الثوار وطالبي الحرية، وأصحاب الأفكار الحالمة بأوطان أكثر ديمقراطية.

جدران خالدة

تحكي جدران مقهى زهرة البستان جزءاً مختصراً من رحلته مع الثقافة والفن والحياة؛ فما إن تمرّون بشارعه الضيق حتى تلفت أنظاركم تلك الصور (الغرافيتي) التي اكتست بها الحيطان المحيطة بالمقهى؛ تلك الفكرة التي نفذها القائمون عليه عقب رحيل الكاتب المصري الشهير مكاوي سعيد، سعياً منهم لتخليد أبرز المثقفين والعظماء الذين مرّوا من هذا المقهى، وجلسوا يوماً فيه. ومنهم بالإضافة إلى مكاوي، الفاجومي (أحمد فؤاد نجم)، شاعر العامية الأبزر في مصر، والروائي الكبير نجيب محفوظ، الذي كان يجلس لساعات طويلة في المقهى ويعقد ندوته الثقافية فيه كلّ يوم ثلاثاء.

كتب صاحب المقهى على جداره من الخارج أن مقهاه "ملتقى الأدباء والفنانين". وهو ما تطوّر في السنوات الأخيرة، ليصبح المقهى مع ثورة يناير 2011 ملتقى الثوار وطالبي الحرية، وأصحاب الأفكار الحالمة بأوطان أكثر ديمقراطية

وكذلك الشاعر المصري الشهير أمل دنقل الذي وصف زهرة البستان بأنه العمق الإستراتيجي لمقهى "ريش" الثقافي الأشهر، الواقع خلفه، والذي كانت تختلف أجواؤه الخاصة تماماً عن شعبية زهرة البستان وبساطته. وكذلك فإن جدران المقهى تحمل صورة كبيرة لرمز مصر القديم، أم كلثوم، التي يقول أحد العاملين في المقهى ردًّا على وجود صورتها، إنها كانت في زمان مضى أحد رواد المقهى مع أصدقائها من كتاب وشعراء مثل أحمد رامي والقصبجي وغيرهم من أصدقاء "السِّت"، فضلاً عن غرافيتي كبير للاعب الكرة المصري محمد صلاح، الذي يمثل اليوم أحد رموز النّجاح والاحترافية والعمل للشباب المصري.

من مقتنيات وسط البلد

يضع الكاتب المصري الراحل مكاوي سعيد، مقهى زهرة البستان ضمن مجموعة مقتنيات وسط البلد، التي جمعها بكتابه الذي يحمل نفس الاسم، موضحاً تاريخ المقهى الذي كان حتى ستينيات وسبعينيات القرن الماضي مجرّد مكان صغير لا يحتمل إلا بضع طاولات، إلا أنه تطور بعد ذلك حين بدأ بعض مثقّفي مقهى ريش القديم يرتادونه بحثاً عن تدخين الشيشة ولعب الطاولة، ليصبح مقصداً لهم مع تتالي السنوات.

ويذكر مكاوي سعيد أن وفود المثقفين بدأت تتالى عليه مثل نجيب سرور، ويحيى الطاهر عبد الله، وجمال الغيطاني، وشوقي فهيم. ثمّ تبعهم مثقفو السبعينيات الذين اتخذوه مقرّاً جديداً لهم بعد تردّي الخدمة في مقهى ريش، كما يشير مكاوي سعيد في كتابه بأنه كان من بينهم إبراهيم عبد المجيد، وعبد المنعم رمضان، وأحمد طه موافي، وغيرهم، مؤكّداً أنه على طاولات هذا المقهى نبغ الكثير من المثقفين والأدباء الشعراء والروائيين الذين وجدوا فيه مكاناً رحباً لإخراج إبداعهم.

أجيال جديدة تزهر في البستان

"كنا نجتمع هنا لنخرج هاتفين للحرية"؛ بهذه الكلمات يؤكد أحمد صابر (32 عاماً)، أحد روّاد المقهى والذي يعمل مهندساً، كيف تحول مقهى زهرة البستان الشهير خلال أيام ثورة يناير إلى مقرّ يتجمع فيه شباب الثورة في أيامها الأولى، حيث كانت التظاهرات القريبة في ميدان التحرير تدفعهم إلى المجيء للمقهى، ليتحول لاحقاً إلى مقرّ جديد لشباب الثورة التي نجحت في التغيير، وهكذا أصبح المقهى المقرَّ الذي يمكن أن تنطلق منه الأحداث الكبرى.

يمكن هنا أن تكتفوا بـ"كوباية شاي" لتجلسوا طويلاً دون أن تتجه إليكم النظرات المطالبة بأن تطلبوا المزيد أو تتركوا المكان. زهرة البستان كان مكان الأحلام الكبيرة التي مازالت في نفوس الكثير من الشباب المصريين الحالمين بأن تكون بلادهم أفضل حالاً

ويشير أحمد إلى أن تلك الأيام كانت الأجمل في حياته، حيث أصبح زهرة البستان كالبيت بالنسبة له وللكثير من الشباب الراغبين بالتغيير، معتقدا أن ما يسجّل لهذا المقهى أنه كان فعلاً منزلاً لروّاده ومازال كذلك، حيث بإمكانكم الجلوس فيه لساعات طويلة دون أن يقول لكم أحدٌ من عامليه شيئا.

يمكن هنا أن تكتفوا بـ"كوباية شاي" لتجلسوا طويلاً دون أن تتجه إليكم النظرات المطالبة بأن تطلبوا المزيد أو تتركوا المكان. ويؤكد أحمد أن زهرة البستان كان مكان الأحلام الكبيرة التي مازالت في نفوس الكثير من الشباب المصريين الحالمين بأن تكون بلادهم أفضل حالاً.

قِبلة الأدباء رغم التحديات

طالما تعرّض زهرة البستان للكثير من العواصف التي كادت أن تؤدي إلى اندثاره؛ بداية من التغيرات التي طرأت على المنطقة المحيطة به، الأمر الذي غير معالمه، إلى انطلاق العديد من الأماكن المشابهة المحيطة به، فضلاً عن محاولات إغلاقه لعدة مرّات، كان آخرها في مارس 2019.

رغم كلّ هذه المطبّات صمد زهرةُ البستان في وجه كلّ ذلك، متحديّاً الظروف بفضل الاحتفاظ برونقها الخاص وتزايد عدد روّادها بشكل دائم وبتنوّع مشاربهم، والشرائح التي ينتمون إليها، فضلاً عن استمرار المثقفين والأدباء بارتياده بشكل مستمر. ولا يتخلى الروائي المصري "وحيد طويلة" عن عادته مع بعض المثقفين والكتاب المصريين عن "قعدة" يوم الجمعة التي يحييها كلّ أسبوع معهم، مصوّراً أحداثها بشكل دائم.

ويؤكد المثقف أحمد أسامة، مسؤول النشر في دار "مسعى" للنشر، أن مقهى زهرة البستان نشأ كردّ فعل شعبيّ ثقافيّ على البرجوازية الثقافية التي نشأت في مقهى ريش القريب منه، مشيراً إلى أن معركة الثقافة والبساطة هذه مستمرة منذ نشوء المقهى قبل ثمانين عاماً تقريباً، يؤكدها يومياً تواجد عشرات المثقفين والكتّاب المصريين والعرب على رصيف مقهى زهرة البستان، بعيداً عن طاولات المقاهي الفارهة، مايُعدّ حالة ثقافية واجتماعية واقتصادية مميزة.

توفي حمادة عبد اللطيف صاحب مقهى زهرة البستان قبل أسابيع من الآن إلا أن مقهى عائلته مازال قائماً، يستقبل روّاده من المثقفين وغيرهم من المرتادين الذين أحبّوا المكان، وكأن هذا المكان اسماً على مسمّى، فهو زهرة لا تأفل في وجه طالبيها الذين يجدون فيه الراحة والسكينة رغم ضجيج حياة القاهرة.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image