شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!
النجاة لا تكون إلا عبر البحر/الوحش… رحلة عاطفية في

النجاة لا تكون إلا عبر البحر/الوحش… رحلة عاطفية في "ما وراء الموج"

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة نحن والتنوّع

الاثنين 14 أبريل 202511:07 ص

في عرض حصري لنتفيلكس، صدر أول فيلم للمخرج الأمريكي ماتي براون، بعنوان "The Sand Castle" ("ما وراء الموج")، في 24 كانون الثاني/ يناير 2025، ليسرد قصة كل الحروب ومآسيها من وجهة نظر الأطفال، عبر الممثلَين السوريَّين زين الرفاعي وشقيقته ريمان، وكانا قد شاركا من قبل في فيلم "كفرناحوم" للمخرجة اللبنانية نادين لبكي، مسلّماً إياهما الدفّة ليأخذا المشاهدين في رحلة عاطفية عصيبة مركزها رمزية المجاز. الفيلم من كتابة براون وهند فخرو.

تداركاً لمقصلة الرقابة، وربما لاستمالة عدد أكبر من المشاهدين الذين قد يرفضون متابعة الفيلم بسبب أحكام مسبقة، أو ربما لخلق حالة عالمية، يتشخص الخطر في البحر ووجوهه الكثيرة. العدو الغاشم يتخفى عن أعيننا، وعن أعين العائلة العربية عن قصد، ويتربص بها، ويحتاط لها من كل صوب. كيف لا وهي سجينة جزيرة نائية؟!

لا يغفل الفيلم عن إيصال صورة الإحباط العميق الذي يتلبس كل أفراد العائلة؛ فمثلاً، الأمّ ياسمين (الممثلة نادين لبكي)، محبطة ظاهرياً وداخلياً، لذا تشتم وتركل وتغضب وتحاول برغم يأسها، وتبقى معاندةً للموت حتى الرمق الأخير. أما الوالد (الممثل الفلسطيني زياد بكري)، فهو أيضاً حاول عبر معارف له الخروج من قوقعة الجزيرة مع أسرته، ليتم استغلاله عبر خلق أمل واهم وسرقة أموال العائلة المحدودة. الخذلان شعور ووجه تلبسه شخصيات الفيلم. حتى آدم (زين الرفاعي)، يحاول الهروب من مواجهة الإحباط المستعر أبداً، وهو لا يزال طفلاً، عبر التدخين سرّاً وسماع الموسيقى والسخرية من الوضع، ومجابهة الأهل الذين يمثّلون قوى السلطة.

يمكننا اعتبار رمزية الفيلم وتصوير خطر العدو البشري وتشبيهه بالبحر، أسلوباً ناجحاً يتخطى عوائق كثيرةً قد تمنع هذا الفيلم من عرضه على منصة نتفليكس، أو إيصاله إلى المشاهد. كما يمكن اعتبار ذلك هروباً من الكتّاب ومخرجاً إلى الأمام

وحدها جنى، من تبقى طفلةً متمسكةً بقوة الخيال، على الرغم من حالة الحرب التي تعيشها الجزيرة وأهلها. ولأنها تجد نفسها مجبرةً على التكيف مع الحرب التي لا يسمّيها أحد بالحرب، تبتدع من واقعها الشاقّ مغامرةً خياليةً شيّقةً. هذا الموقف الخيالي التي ابتدعته الطفلة للتأقلم مع الخطر المحدق بها، يتداعى أمام أعينها وأعين المشاهد في لحظات معينة، لإرباكه وإخافته وهزّ الواقع الذي بدأ يعتاده، فنرى جثةً هامدةً مثلاً سحبتها موجة أمام ناظر جنى. في مشهد آخر، وفي أثناء لعبها البريء بالرمل، تجد جنى زورقاً بلاستيكياً كبيراً مدفوناً تحت الرمال. لا نرى من زورق النجاة إلا بعضاً من الأحرف اللاتينية المكتوبة عليه، والتي تقوم جنى بنسخها في دفترها.

فهل يكون هذا إشارةً وإدانةً للتواطؤ الغربي في حروب العرب؟ الزورق نفسه الذي تجده جنى صدفةً، ستستخدمه لاحقاً في محاولة للنجاة من الجزيرة (هل هي غزة، لبنان، سوريا أو السودان؟). لكن النجاة لا تكون إلا عبر البحر، الوحش الرئيس في الفيلم، وحامل رمزية الشرّ والخطر. فهل تهرب جنى من خطر لتجد آخر؟ وهل يمكننا اعتبار هذا الحلّ المفتوح على احتمالات كثيرة الصعوبة إشارةً أخرى إلى غياب الحلول أمام الطفولة المبتورة؟

يمكننا اعتبار رمزية الفيلم وتصوير خطر العدو البشري وتشبيهه بالبحر، أسلوباً ناجحاً يتخطى عوائق كثيرةً قد تمنع هذا الفيلم من عرضه على منصة نتفليكس، أو إيصاله إلى المشاهد. كما يمكن اعتبار ذلك هروباً من الكتّاب ومخرجاً إلى الأمام. حين يتشخص العدو الإسرائيلي أو نظام الظلم أو أي عدوّ آخر، في البحر بوصفه "قوةً طبيعيةً خارقةً"، تسقط اعتبارات السياسة ولا يصبح الأمر منوطاً بـ"من له الحق"، بل بـ"كيف ننجو الآن؟".

قد تكون هذه الرمزية أيضاً ناجحةً لربطها المخاطر البيئية المتأتية من الحروب بنجاة الإنسان، لكنني أرى في استخدام المخرج لهذا المجاز رسائل أخرى أكثر مباشرةً، مثل صعوبات التكيّف مع قوة لا مناقشة معها، ومع عدوّ لا تراه، ولكنك تتلقى أخطاره التي توثر فيك مباشرةً كالإصابة التي يتلقاها الوالد، والتي تودي بحياته في غياب أي مساعدة طبية طارئة أو غيرها. في المنحى نفسه، تتم استمالة ياسمين إلى ساحة المعركة (البحر)، بعد أن تكتشف أن جنى التي لا تعرف السباحة على وشك الغرق. في محاولة لإنقاذ الطفلة، تموت الأم. لكن ذلك لا يهمّ، لأنّ النجاة ستتحقق في جنى.

ياسمين نفسها قد تحمل معاني كثيرةً، فهي المعلمة والأم، والحاضنة، والحبيبة، والمنقذة. لهجتها في الفيلم متنوّعة فكأنّ المقصود من ذلك أن ياسمين تمثّل كل العرب. وحين تطّل في المشهد الأوّل، نجد مذياعاً بجانبها يعلن عن غرق سفن المهاجرين الباحثين عن الحرية. في هذا المشهد يرسم لنا ماتي، سوداوية الوضع وحتمية الانكسار اللذين نراهما في عيون ياسمين/ لبكي التي تتفوّه بكلمتها الأولى: "العمى"، معبّرةً عن لسان حال معظم العرب الآن.

في تصويره الإحباط المستشري بين أهل الجزيرة، يذكّرنا الفيلم بالمخرج الفلسطيني إيليا سليمان، خصوصاً في فيلمه " يد إلهية" (2001)، وفيه يظهر سليمان، مدى الإحباط الذي يعيشه الفلسطيني في حياته اليومية، نتيجة الركود والشلل الناجمين عن عيش الفلسطيني تحت نير الاحتلال الإسرائيلي، فنرى في أحد المشاهد والد الشخصية الرئيسية وهو يكيل الشتائم يميناً وشمالاً بسبب إحباطه المستمر واليومي. العبثية والتهكم والإحباط العالي تصبح شخصيات في الفيلم الذي يتحدّث فيه الصمت، تماماً كالعبثية والإحباط في شخصيات "ما وراء الموج".

الأطفال يرون ويسمعون ويفهمون ويدركون ويتألمون ويهربون مثلنا، وأنهم وإن قاموا بإلهاء أنفسهم بقصص وهمية تريحهم للحظات قصيرة، إلا أنهم ما زالوا الضحايا الأولى والأخيرة لكل الحروب، ولا يزال أملهم ولحمهم الطري هدفَي الوحوش الكاسرة مهما تنوعت

الفيلم يعود بنا أيضاً إلى أجواء فيلم "علي زاوا" (2000)، وهو من أشهر الأفلام السينمائية المغربية وأكثرها مشاهدةً، للمخرج المغربي نبيل عيوش، الذي تناول موضوع عمالة الأطفال، وتشرّدهم، وكيفية تعاطيهم مع عنف الشارع واستغلالهم. استخدم عيوش، أيضاً قدرة الخيال عند الأطفال وسمح للمشاهدين بالغوص في عالم الأطفال الموازي من خلال رسومات يحلمون بها، في محاولة هشّة لإنقاذ أنفسهم ولدفن صديقهم الطفل الذي توفاه الله في شوارع الدار البيضاء، المتمثلة أيضاً في العشوائية والهشاشة. خيال الأطفال ورغبتهم في العودة إلى الجنة ذات الشمسين التي تعرّفوا عليها من خلال صديقهم المتوفى، يصبحان الدافع لاستمراريتهم ولتحسين حياتهم الشاقّة.

حتى في "بيروت الغربية" (1998)، للمخرج اللبناني زياد دويري، تصوّر الحرب الأهلية اللبنانية من وجهة نظر الأولاد المراهقين وهم يحاولون إيجاد الحلول للمشكلات الوطنية والدولية حين يتقاعس الكبار عن إيجاد الحلول الناجعة وإنهاء الحرب الأهلية. في الفيلم، يزور الولدان طارق وعمر، الست "أم وليد" صاحبة بيت الهوى. لا تسلّم مفاتيح الحلول للولدين اللذين، وببراءة الأطفال وفهمهم السطحي للحروب، يريان أن جمع "عرفات والجميّل" في بيت الست أم وليد، كفيل بإنهاء الحرب. برغم براءتهما، يحاول طارق وعمر فهم الحرب والتأقلم معها بواسطة الأدوات المتاحة لهما، لكن في "ما وراء البحر" تعيد جنى، هيكلة وتنظيم العالم بما يتماشى مع أساسيات حياتها وأهدافها: الشعور بالأمان، الاستكشاف واللعب.

في النسخة الأصلية للفيلم الطويل الأول لماتي، يتغير العنوان من "ما وراء الموج" إلى "القصر الرملي"، في إشارة إلى تلك الهشاشة التي تحدّثنا عنها. يقول المخرج ماتي، المرشح لجائزة أيمي الأمريكية عن فيلمه "بيانو" (2013)، على صفحته الشخصية، إنه نشأ فقيراً وإنّ كونه من مجتمع المثليين ومن خلفية أمريكية أصلية (الهنود الحمر)، واستكشافه لـ41 دولة، سمحا له بالانغماس في الثقافات المتعددة لتلك البلدان، ما أثرى منظوره الفريد للعالم من حوله. يرى ماتي، الذي أخرج عدداً من الأفلام القصيرة، أنّ أسلوبه في الإخراج يأخذ المشاهدين في طوفان من الألوان والمشاهد المندفعة سريعاً، لكن بسلاسة، وهي معززة بتصميم صوتي قوي، ما جعل أفلامه تتصدر قائمة أفضل فيديوهات Vimeo.

هذا التصميم الصوتي يرافق المشاهد ويوّتره ويحاول أن يضعه في حالة عاطفية صعبة، كجزء من التماهي مع الشخصيات التي تعيش هذا الخوف والخطر، فنسمع أصوات صراخ وصيحات مستغيثة، فيها ألم وعوز وكرب، وكأنّها قد دفنت بعيداً عنّا. هذه الصور والأصوات ترافق المشاهد طوال الساعة والنصف تقريباً، وهي مدة عرض الفيلم، لوضعه في قلب الحدث. الهدف من هذا التصميم الصوتي الفريد هو تذكيرنا بأنّ الأطفال يرون ويسمعون ويفهمون ويدركون ويتألمون ويهربون مثلنا، وأنهم وإن قاموا بإلهاء أنفسهم بقصص وهمية تريحهم للحظات قصيرة، إلا أنهم ما زالوا الضحايا الأولى والأخيرة لكل الحروب، ولا يزال أملهم ولحمهم الطري هدفَي الوحوش الكاسرة مهما تنوعت.

 


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

بالوصول إلى الذين لا يتفقون/ ن معنا، تكمن قوّتنا الفعليّة

مبدأ التحرر من الأفكار التقليدية، يرتكز على إشراك الجميع في عملية صنع التغيير. وما من طريقةٍ أفضل لنشر هذه القيم غير أن نُظهر للناس كيف بإمكان الاحترام والتسامح والحرية والانفتاح، تحسين حياتهم/ نّ.

من هنا ينبثق رصيف22، من منبع المهمّات الصعبة وعدم المساومة على قيمنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image