في إحدى ليالي الشتاء الهولندية، وجدت نفسي فجأةً في مركز للشرطة قريب من مخيم اللجوء، أترجم لشاب وصديقه المتورط في مشكلة بسيطة. بعد أن أنهيت دوري، شكر الشاب الشرطي بعبارة: "شكراً، برو".
ردّ الشرطي بعصبية حادّة: "أنا لست صديقك… نادِني أوفيسر".
توقفت قليلاً هنا، وأمعنت النظر في ما قال باستغراب شديد.
هل شاهدت للتو أحد أكثر الرجال سلطةً يرفض أن يُختزل في مفردة فضفاضة؟
كأنّ هذا الرجل، بكل ما يملك من سلطة وموقع، كان يحمي شيئاً ما داخله؛ ربما مهنيته من أن تسلب بلقبٍ عابر.
ومن هناك بدأت قصتي مع "لا تنادِني برو".
منذ ذلك اليوم، أدركت أنني لست "برو" الجميع، ولا أريد أن أكون كذلك. لا لأنني أرفض المودة والصداقات مع الشباب، بل لأنني سئمت من هذه الجماعة اللغوية التي تنادي الجميع بـ"أخي"، "خيي"، و"برو"، حتى في لحظات اللامعنى، بلا علاقة حقيقية، وبلا مسؤولية.
منذ ذلك اليوم، أدركت أنني لست "برو" الجميع، ولا أريد أن أكون كذلك. لا لأنني أرفض المودة والصداقات مع الشباب، بل لأنني سئمت من هذه الجماعة اللغوية التي تنادي الجميع بـ"أخي"، "خيي"، و"برو"، حتى في لحظات اللامعنى، بلا علاقة حقيقية، وبلا مسؤولية
كلمة "برو" تحولت من تعبير عن القرب، إلى علامة على ثقافة ذكورية سطحية، تُظهر القرب وتخفي البُعد، وتتحدث عن الأخوّة ولا تمارسها.
نوع من "الكولكة" (النفاق والتملق)؛ يُخفي خلفه انعدام التواصل، ويُقصي الأسئلة الحقيقية: "هل أنت بخير؟"، "هل تحبّها فعلاً؟"، "محتاج شي؟"، "حابب تحكي شي؟"، و"هل تعرف من أنت أصلاً خلف كل هذه الأقنعة؟"... أسئلة ربما لم يطرحها "البرو" على نفسه حتى.
في كل مكان تسمع الكلمة: في المقاهي، على إنستغرام، في الغروبات، وفي جلسات الشباب. أصبحت كأنها "بروش" انتماء غير مرئي. لكن… هل نعرف حقاً من نخاطب؟
حين تُنادي الغريب بـ"أخي"، وتساوي بين الحبيب والزميل والعابر، هل تبقى للّغة أي دقّة؟ هل يبقي للحب أي معنى؟
هل نعرف من نحبّ؟ وبمن نثق؟ ولمن نبتسم ونقول نكتةً؟
كلمة "برو" تحولت من تعبير عن القرب، إلى علامة على ثقافة ذكورية سطحية، تُظهر القرب وتخفي البُعد، وتتحدث عن الأخوّة ولا تمارسها
رجولة بلا عمق
"برو" ليست مجرد كلمة، بل نافذة على عقلية تتهرّب من العمق. ثقافة تُربّي رجالاً يخافون من الحديث عن مشاعرهم، ويخجلون من كلمة "ضعف"، ويتوارون خلف استعراض القوة والفكاهة الزائفة.
كم مرةً جلست في "قعدة شباب" وسألت أحدهم عن قلبه؟
عن وحدته؟
عن علاقته؟
نادراً، لأنّ الحديث الحقيقي يحتاج إلى ثقة، لا إلى "برو" مزعومة.
المرأة… في أحاديث "البروز"
في تلك الدوائر، لا مكان للمرأة إلا كـ"موضوع" للنقاش، لا كطرف يُحترم.
تُختزل في شكلها، مزاجها، مدى صعوبتها، وتُطرح كمعركة يجب كسبها، ولا تعامّل كشخص يستحق الإصغاء له.
حتى العبارات الفارغة مثل "البنات بيحبّوا الزلمي العنيف"، تُقال وكأنّها قانون فيزيائي، لا كنتاج لصورة مشوّهة عن الرجولة والأنوثة.
لكن متى نتحدث عن المرأة كإنسانة؟
عن مشاعرها، حريتها، ذوقها، وتعقيداتها؟
لا مكان لها في ثقافة الـ"برو"، لأنها ببساطة لا تحتمل الآخر، ولا تفهم التعدد، ولا تعترف بالهشاشة.
كم مرةً جلست في "قعدة شباب" وسألت أحدهم عن قلبه؟ عن وحدته؟ عن علاقته؟ نادراً، لأنّ الحديث الحقيقي يحتاج إلى ثقة، لا إلى "برو" مزعومة
والمفارقة أنّ هذه الذكورية لا تؤذي النساء فحسب، بل تضرب في صميم من يدّعيها.
لأنها تحرم الرجل من أن يكون إنساناً كاملاً، مليئاً بالتساؤل، والضعف، والحاجة إلى الصدق.
لهذا، اسمح لي أن أقولها بوضوح: "أنا مش أخوك، ولا أريد أن أكون كذلك".
لست جزءاً من هذه الـcult، ولا أستخدم “الأخوّة” كواجهة للهروب من المواجهة والغوص في كيان الآخر.
نعم يا سادة أعرف بأنّكم ستقولون هذا نتاج النسوية.
تحليلكم صائب. أنا نسويّ.
لا لأنني ضد الرجال، بل لأني أؤمن برجالٍ أفضل. رجال يرون المرأة ندّاً، والضعف قيمةً، والمحبّة قوةً، والرجولة بناءً لا مبارزة.
أما عن "برواتي" الحقيقيين، فهم الذين يشبهونني في الرؤية والموقف. أليست الطيور على أشكالها تقع؟
أتمنى ذكر أسمائكم وسط هذا النقد فرداً فرداً، فلا يمكنني أن أنسى من غيّروا نظرتي المشوّهة إلى الأب والصديق والزوج والحبيب والزميل والرجال عموماً، بجميع أطيافهم على الـspectrum. أصدقاء، إخوة، زملاء… أثبتوا لي أنّ الرجولة لا تعني القسوة، ولا الصمت، ولا التواطؤ مع الخطأ.
رجال بقلوب صادقة، فتحوا مساحات للحوار، دعموني، سألوا عنّي، وشاركوا ضعفهم قبل قوّتهم.
وأنا بدوري أحاول تكريم هذا، بأن أكون صديقاً حقيقياً، رجلاً واضحاً، شريكاً صادقاً… لا "برو".
وإن بدوت قاسياً في طرحي، فـ"يا برو، امسحها بدقني"، لأننا أحياناً لا نصل إلى الحقيقة إلا بخدش الواجهة.
وإذا أزعجك هذا المقال، انزعج… "تنفلق".
وإن بدوت قاسياً في طرحي، فـ"يا برو، امسحها بدقني"، لأننا أحياناً لا نصل إلى الحقيقة إلا بخدش الواجهة. وإذا أزعجك هذا المقال، انزعج… "تنفلق".
لن يُهينني ذلك بل يُؤكّد إنسانيتي، ونسويّتي، وعمق محبتي لنفسي و لغيري… ولكوني رجلاً أحبّ كونه رجلاً بلا قيود موهومة، بمشاعر وقلب، لست بحاجة إلى إثبات، ولا إلى لقب زائف.
أما عن الشرطي الذي أغضبته كلمة "برو"، فلم يكن في نظري مغروراً أو عنصرياً. بل كان واضحاً في حدوده: نادِني بلقبي، لا بشعورك.
استخدم اللغة لترتيب العلاقة، لحماية موقعه وهويته.
فهيّا بنا نضع حدوداً، لا واجهات، ولنُعِد لكلمات الرجال معانيها.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
diala alghadhban -
منذ يومينو انتي احلى سمرة
حاولت صور مثلك بس كان هدفي مو توثيق الاشياء يمكن كان هدفي كون جزء من حدث .....
ssznotes -
منذ يومينشكرًا لمشاركتك هذا المحتوى القيم. Sarfegp هو منصة رائعة للحصول...
saeed nahhas -
منذ يومينجميل وعميق
Mohamed Adel -
منذ أسبوعلدي ملاحظة في الدراما الحالية انها لا تعبر عن المستوى الاقتصادي للغالبية العظمى من المصريين وهي...
sergio sergio -
منذ أسبوعاذا كان امراءه قوية اكثر من رجل لكان للواقع رأي آخر
أمين شعباني -
منذ أسبوعهذا تذكيرٌ، فلا ننسى: في فلسطين، جثثٌ تحلق بلا أجنحة، وأرواحٌ دون وداعٍ ترتقي، بلا أمٍ يتعلم...