صحن مكشوف تحيط به أربعة إيوانات (قاعات)، له بابان أحدهما في الجهة الغربية ناحية الشارع، وفي هذه الجهة مئذنة وسبيل المسجد يعلوه كُتّاب. يتجاوز عمره الـ600 عام، ويقع في شارع بورسعيد في باب الخلق في منطقة الدرب الأحمر بالقرب من شارع الأزهر، وفي المدخل ألواح خشبية تحيط بشيء مجهول لا يقترب منه أحد.
"بئر جامع البنات يحقق المعجزات"
سألت عامل المسجد عن مكان البئر المعروفة بين الناس بأنها السبب في زواج الفتيات، لكنه تردد حتى أعطيته خمسين جنيهاً، فأحضر المفتاح واصطحبني إلى بئر مياه محاطة بجدران من الخشب ويكسوها التراب، وطلب منّا النظر إلى البئر والدعوة بالزوج الصالح عاجلاً وليس آجلاً.
يروي عامل "جامع البنات"، أن هناك حكايات عدة ترتبط بالمسجد وعلاقته بتزويج الفتيات وبركاتهن منه، بحيث أنّ البنت التي لم تتزوج كانت تأتي إلى المسجد يوم الجمعة في أثناء الصلاة، فإذا كان المصلّون في السجدة الأولى، تمرّ بسرعة بين الصفّين وتمضي إلى خارج المسجد، وكان يقال إنه بعدها يتم زواجها، وذلك بعدما زعم أحد السحرة أيام المماليك ذلك. لكن انتهت تلك الخرافة منذ زمن بعيد ونسيها الناس، وبقيت التسمية ملازمةً للمسجد حتى الآن. ولكن العامل يقول إنه خلال عمله لمدة 20 عاماً، شهد العديد من الحكايات عن فتيات قمن بزيارة المسجد، وتحققت أمنياتهنّ بالزواج في يوم الزيارة نفسه، أو بعده في أقرب وقت.
وفقاً لكتاب "عجائب الآثار في التراجم والأخبار"، لعبد الرحمن الجبرتي، هناك أسطورة أخرى تقول إنّ الأمير شيّد المسجد لدفن بناته السبع العذراوات في ركن من أركانه، واللواتي توفين جميعهنّ بسبب مرض "الطاعون"، ويعتقد البعض أن بنات الأمير يسمعن نداء الفتيات وأدعيتهنّ ويلبّين طلباتهنّ بالزواج، وتقوم الفتيات بإشعال البخور والشموع من أجل أن يحصل الزواج بسرعة.
لم يكن "جامع البنات"، صاحب الكرامات الوحيد في مصر لتزويج الفتيات. اشتهر أيضاً "مقام الحنّاوي"، بكراماته في التزويج وإنجاب الأولاد.
حنّاء الحناوي تحقق الأحلام
رائحة "الحنّاء" تفوح بمجرد الاقتراب من مقام السيدة نفيسة، حيث تتجمع النساء ويضعن الحنّاء على أيديهنّ، ويضئن الشموع حول قبة صغيرة تبعد عن الأرض أمتاراً قليلة.
تجلس سيدة خمسينية بجوار مقام ملطخ بالحنّاء بالكامل وتردد الكلمات التالية: "اتحنّي وادعي وربنا يقبل من عباده". وبعدها يُعجن الحنّاء وتضعه على يد الفتيات مقابل 10 جنيهات، ثم تعطيهنّ الشمعة لإشعالها ووضعها في صفيحة بجوار المقام الذي تعلوه يافطة تحمل اسم "أحمد الحنّاوي".
ظل "جامع البنات" في القاهرة ملاذاً لفتيات يبحثن عن الزواج، حيث تروي الحكايات أن الوالي دفن بناته السبع العذراوات هناك أيام الطاعون، ويُعتقد أن المرور السريع بين المصلين أو النظر في بئر مهجورة يحقق هذا النوع من الأمنيات. ورغم انتهاء الخرافة تاريخياً، بقيت القصص متواترة ومصدقة في كثير من الأحيان
عشرات الزائرات من النساء يتّبعن الخطوات نفسها: يضعن الحنّاء ويشعلن الشموع ويلطّخن مقام الحنّاوي، ثم يغادرن بصمت لإتاحة الفرصة لغيرهنّ، وهناك من تتوجه إلى الحائط المجاور للمقام لتكتب اسم حبيبها الذي تريد الزواج به، وهناك من تغسل يدها في جردل مياه مشبع بالحنّاء لتمضي في طريقها.
تؤكد العاملة التي تقوم بعجن الحنّاء وتحضيره للفتيات، أنّ مئات الفتيات يأتين يومياً إلى المقام لوضع الحنّاء للدعاء بالزواج وإنجاب الولد، ولكنها تُنبّه الفتيات إلى أن الدعاء ليس حصرياً على الطلبات، فالدعاء لله يكون بأي شيء، ولا يقتصر على العريس والولد فحسب.
بحسب كتاب "نزهة الألباء في مطارحات القراء"، للكاتب محمد فتحى عبد العال، الحنّاء من ضمن العادات المصرية التي تُستخدم في الشتاء لرطوبة الجلد، كما تساعد على التئام الجروح، ومن الكتاب: "ومن ولع النساء بالحنّاء تجده أيضاً صاحب كرامات، وإذا مررت ذات يوم بمحاذاة مسجد السيدة نفيسة من ناحية مدخل النساء، ستجد مقاماً صغيراً تعلوه قبّة وملطّخ بالحنّاء للشيخ أحمد الحنّاوي، وحوله زحام شديد من النسوة القادمات إليه التماساً للبركة وسعياً وراء مآرب أخرى كالإنجاب وفكّ السحر والزواج، ويقال إنّ صاحب المقام قدم مع السيدة نفيسة من منطقة بالقليوبية، ولما مات أقيم له المقام".
بدأت حكاية زيارة مقام الحنّاوي، قبل قرابة 1200 عام، حيث انتشرت أسطورة الحنّاوي لتزويج الفتيات، وهناك روايات مختلفة ولكن الأكثر تداولاً هي التي رواها أحد عمّال المقابر في السيدة نفيسة، لرصيف22.
يروي عادل، أن إحدى الفتيات المتأخرات في الزواج ذهبت إلى الضريح، وأحضرت الحنّاء وقامت بعجنه، ووضعته فوقه، ودعت أن تتزوج، وتزوجت الفتاة بعدها بالفعل بمدة قصيرة، فربط المحيطون بها بين قصة زواجها والحنّاء الذي وضعته على المقام، واتّبعتها فتيات أخريات من منطقتها نفسها وصادفت التجربة زواجهنّ، ومن بعدها أصبحت الفتيات يذهبن إلى هناك وهنّ يحملن الحنّاء والشموع والورود، ومن هنا أصبح الحنّاء لا يجفّ فوق الضريح أبداً، وعلى مدار أكثر من 1000 عام.
تعددت الروايات التي لطالما وُصفت بالـ"مزيّفة"، ونُشرت عن قصة "أحمد الحنّاوي"، صاحب كرامات جلب العريس وإنجاب الولد، فهناك أقاويل بأنه هو من خدم السيدة نفيسة في محافظة القليوبية، ولازمها حتى مماته ودُفن في مكانه، وأقيم له مقام في ذلك الموضع.
وهناك أقاويل أخرى بأنه كان خادماً لمسجد الإمام الحسين، وحينما توفي تم دفنه في بلده في الصعيد في محافظة أسيوط، لكن جثمانه طار إلى جوار مقام السيدة نفيسة لحبّه وتعلّقه بها -بحسب روايات متواترة قيل إنّ خُدّام مقام السيدة نفيسة رووها- ووجدوه ملفوفاً بكفنه، وتم دفنه في مكانه، الذي تحول إلى مقام يزوره الناس.
خلاص المولود
بجانب كرامات المساجد، نجد عادات مصريةً قديمةً يتم اتّباعها حتى اليوم.
في حديثها إلى رصيف22، تكشف سُمية صلاح، وهي سيدة سبعينية من محافظة بني سويف، عن العادات المتّبعة في أغلب قرى الصعيد من أجل الإنجاب: "بنستنى أي جارة أو قريبة تولد وناخد الست اللي مخلفتش تقعد على 'خلاص المولود'، أي مشيمة الطفل، اعتقاداً بأنها تساهم في زيادة فرص الإنجاب للزوجة".
تحوّل مقام الشيخ أحمد الحنّاوي قرب مسجد السيدة نفيسة إلى محجّ للفتيات الباحثات عن الزواج والإنجاب. الحنّاء، البخور، والشموع تُستخدم كطقوس، مع روايات شعبية عن معجزات تحققت بسببه.
وتؤكد نجلاء، وهي ممرضة في أحد المستشفيات الحكومية، أنّ هناك سيدات يطلبن من قسم النساء والتوليد بالفعل أن يتم بيعهنّ "مشيمة الطفل" لاستخدامها في مساعدة المرأة التي لا تنجب.
"خضّة" القبور و"تخطية" الذبيحة للإنجاب
تذكر سُمية، عادةً أخرى يقال إنها لاستعجال الإنجاب، وهي زيارة المقابر للسيدة التي لم تنجب، ثم قيام أحدهم بإثارة رعب الزائرة، اعتقاداً منهم بأنّ "الخضّة"، أي التخويف، تساهم في حلّ مشكلة تأخر الإنجاب.
كما أن هناك عادةً أخرى، وهي أن تقوم المرأة التي لم تنجب بـ"التخطية"، أي العبور فوق الأضحية التي يقوم الجزّار بذبحها على الفور، فتذهب النساء إلى مكان ذبح الحيوانات وينتظرن لحظة الذبح لتمرّ المرأة التي لا تنجب فوق الأضحية كنوع من التبرك بالدماء لتنجب طفلاً.
"الدحرجة" و"التحويطة" أبرز أشكال الحماية من المشاهرة
من جانبه، يؤكد دكتور الأنثروبولوجيا الثقافية، محمد أمين، أنّ الإنجاب من الأمور المهمة جداً في المجتمع المصري، لذلك إذا تأخر بعد الزواج، يعدّ البعض أن الزوجة "معمولها عمل"، أي سحراً أسود أو سفلياً، أما السبب الآخر الشائع في الاعتقاد بين الناس بحسب أمين، فهي "المشاهرة"، أي العقم المرحلي، ومن ضمن الممارسات الشائعة جداً من قبل حديثي الزواج، أن يقوموا بعمل ما يسمّى بـ"التحويطة" لحمايتهم من "الأعمال السفلية".
ولا يخلو الأمر من عادات يتّبعها بعض المصريين لحماية الزوجة من "المشاهرة"، كعدم دخول سيدة لتهنئة العروسين خلال فترة دورتها الشهرية، وألا تدخل على الزوجة الجديدة أي امرأة ترتدي عدداً كبيراً من الحلي الذهبية، حتى لا يحدث لها ما يسمّى بـ"الكبسة" أو "المشاهرة".
ويضيف الدكتور أمين، أنه من الممنوعات أيضاً بحسب الاعتقادات الشائعة، أن يدخل عليها طفل مختون حديثاً، حتى لا تتعرض لعدم الإنجاب المؤقت. وكانت هناك اعتقادات بأن تتم "تخطية" شيء من الشخص المتسبب في المشاهرة، أو يتم أخذ تراب مرّ من فوقه سبب المشاهرة، وصنع "عروسه طينيه" منه حتى تستحمّ فوقه الزوجة المتأخرة في الإنجاب.
في صعيد مصر، تجلس النساء العقيمات على مشيمة المولود أو يتعرضن لـ"خضّة" مفاجئة في المقابر، أملاً في الحمل. ولمنع العقم المؤقت أو "المشاهرة"، يلجأ المصريون إلى ممارسات شعبية مثل "التحويطة"، ودحرجة الزوجة داخل بطانية قرب مقام وليّ
ويشير إلى أنّ زيارة الأولياء، وخصوصاً الحنّاوي، من أشكال علاج مشكلات مثل عدم الإنجاب أو المشاهرة، ويتم حينها أخذ ورقة من شجر المكان المحيط بالوالي والاستحمام بمياه تم فيها نقع ورقة الشجر، أو وضع حفنة من التراب المحيط بالمقام على جسد المرأة للتبرك بها.
وبحسب ما يقول، إثارة الرعب فعل شائع للاعتقاد بأنها تشفي من العقم، ومن بين الوسائل الشعبية التي تستخدمتها الداية لعلاج "المشاهرة" أو تأخر الإنجاب، أن تُخضع المرأة لتجارب صادمة "خضّات"، مثل الاستحمام بماء تغسيل الموتى، أو المرور سبع مرات تحت نعش الميت، اعتقاداً بأنّ هذه الأفعال تُحرّر الجسد من السحر أو العقم.
وقد ظهرت مثل هذه الممارسات في فيلم "الزوجة الثانية" 1967 لصلاح أبو سيف وبطولة شكري سرحان وسعاد حسني، عندما نُصحت البطلة بالنوم تحت قضيب القطار لتُصاب بالخضة وتُشفى.
ويضيف أمين، أنه إذا تم القيام بكل العادات السابقة ولم تنجح، يخضع الرجل لما يسمى "التحويطة"، أو "الخزم"، وهو وخز الرجل من الأذن ووضع فتلة فيها كشكل من أشكال العلاج، أما "الدحرجة" فهي عبارة عن وضع السيدة في "بطانية" يتم دفعها بجانب الوليّ حتى يتدحرج جسدها على الأرض.
ويختم خبير الأنثروبولوجيا الثقافية حديثه بالقول إنّ الرواسب الثقافية في عقل الإنسان لها تأثير كبير في اعتماد بعض المصريين على هذه الحلول لمعالجة مشكلة الإنجاب أو تسريع الزواج. يقول: "هي رواسب في عقول البعض منذ مصر القديمة، وهناك نماذج لآلهة كانت تتبارك بالمعابد واللفّ حول الأعمدة، فقد قامت "إيزيس" بالفعل نفسه، لذا فهي معتقدات قديمة راسخة، مهما حاول العقل إنكارها، أو ربطها بالدين، لأن لها رواسب ثقافيةً".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
رومان حداد -
منذ 20 ساعةالتحليل عميق، رغم بساطته، شفاف كروح وممتلء كعقل، سأشاهد الفيلم ولكن ما أخشاه أن يكون التحليل أعمق...
Georges -
منذ يوم12
مستخدم مجهول -
منذ يومينهذا ليس طبيعيا، وهو ينشئ في الحالات القصوى من اضطرابات ومشاكل نفسية. الإنسان العاقل عندما يواجه...
مستخدم مجهول -
منذ يومينAnyone that studies human psychology and biological functioning of the body and it's interactions...
مستخدم مجهول -
منذ يومين'لا يسخر قوم من قوم', لا أذكر هذه العنصرية عندما كنت في المدرسة في الجنوب.
للأسف أن المعتقد...
Mohammed Liswi -
منذ 5 أيامعجبني الموضوع والفكرة