شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
أنا مريضة اكتئاب… أنصتوا إليّ

أنا مريضة اكتئاب… أنصتوا إليّ

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة

السبت 26 أبريل 202511:04 ص

لا أعلم إن كنت سأرسل هذه التدوينة للنشر أم لا، فأنا أخاف الأحكام التي قد تصدر في حقّي من قبل "شرطة المجتمع". لقد أصبحنا سليطين حدّ الأذى. 

أنا مريضة بالاكتئاب. أقولها دون خجل، لكن بثقلٍ يشبه ثقل هذا المرض.

لست بحاجة إلى شفقة.

أنا بحاجة إلى دعم.

لست بحاجة إلى محاضرة، أنا بحاجة إلى حضن.

أصعب ما في الاكتئاب؟ شرحه.

لست بحاجة إلى من يبرر لي الواقع أو يفسره لي بمنطق بارد، أنا بحاجة إلى من يسمعني دون أحكام، من يحتويني دون أن يحاول إصلاحي. في أحسن الأحوال؟ أنا بحاجة إلى أن أُترك بحالي. 

نحن مرضى الاكتئاب نعرف المنطق. نعرف أنّ "الحياة جميلة"، وأنّ "كل شيء سيصبح على ما يرام"، وأنّ "هناك من يعاني أكثر منّا"، لكننا لا نملك القدرة الآن على التعامل مع هذه العبارات، لأنّ وقعها علينا لا يطاق. إنها جمل باردة تزيد شعورنا بالعجز.

أنا مريضة بالاكتئاب، فلا تقل لي: "وأنا كمان"، لأنني لا أحتمل المنافسة الغريبة التي يتسابق إليها الناس. الاكتئاب ليس حزناً عابراً، وليس "يوماً سيئاً".

الاكتئاب ليس كلمةً نرميها عرضاً حين نشعر بالملل أو الضيق.

الاكتئاب "غول" أسود، يتربّع على الكتفين، يثقل الروح، ويخنق النفس.

هو انفصال تام بين الجسد، والمشاعر، والعقل.

هو أن تعيش في جسدك كأنك خارجه. أن تنظر إلى حياتك وكأنك غريب عنها.

هو أن تستيقظ صباحاً، وتشعر بأنّ النهوض من السرير معركة. أنّ الاستحمام أو تبديل الملابس يحتاجان إلى قوة خارقة. أنّ الردّ على رسالة مهمة مستحيل. لم أعد أستطيع إحصاء كم الرسائل التي فاتني الردّ عليها. أكاد أجزم أن الناس صارت لا تطيق مراسلتي، لعلمهم بحتمية تأخّر الرد. 

أصعب ما في الاكتئاب؟ شرحه.

لست بحاجة إلى محاضرة، أنا بحاجة إلى حضن.

أرى في عيون من حولي فراغاً. أعلم تماماً أنهم لا يفهمون ما أقول، وغالباً ما يعتقدون أنني أبالغ. لكن حقيقة الأمر أنني عاجزة عن الشرح. أنت مريض اكتئاب، يعني أن تطوق شوقاً إلى البوح بما يؤلمك، لكنك دائماً ما تختار أن تصمت، لأنك لا تملك طاقة الكلام، ولأنك حين تشرح لا تجد آذاناً تسمع، بل تجد أحكاماً جاهزةً، ونصائح غير مطلوبة، ومواعظ تحمّلك فوق طاقتك. 

أنا مريضة اكتئاب وأحتاج إلى الإنصات، لا تفعيل حاسة السمع وحسب. من أكثر الأمور إيلاماً خلال هذه المرحلة الضبابية، وضوح الرؤية. أعي تماماً أن هذا يبدو جنوناً، لكنني انتبهت فجأةً إلى أمور كانت خافتةً مقابل ضوضاء الحياة؛ الناس الذين لا يصغون جيداً مثلاً. اكتشفت فجأةً أنني محاطة بدائرة لا تنصت، بل تسمع بهدف تمرير الوقت، واستلام "الهواء" من بعده. كم من حديث أردت أن أنهيه لأنه أنهكني! أنهكني أن أتزاحم معهم على الشكوى، أنهكني أن أضطر إلى حجز مكان في المحادثة، لكن... دون جدوى. 

أنا مريضة اكتئاب، وما أحتاجه منكم بسيط.

نحن لا نحتاج إلى من يخبرنا عمّا يجب أن نفعله، بل نحتاج إلى من يقف بجانبنا، يصغي إلينا، يحترم ضعفنا، ويمنحنا مساحةً آمنةً لنتنفس دون خوف أو خجل.

والأهم؟ الشفقة. أرجوكم، بلاها.

هناك شعرة رفيعة جداً بين الشفقة والتعاطف. قالت لي صديقتي البارحة: "زعلانة عليكِ كتير كيف وصلتِ لهون". آلمني ذلك كثيراً. أعلم أنها لم تقصد الإساءة، لكنها فعلت.

الشفقة تؤذي. تحمل في طياتها نظرةً دونيةً، إحساساً بالتفوق، ومسافةً فاصلة. هذا ما نشعر به وإن كان غير مقصود من قبل الناس.

أما التعاطف، فهو مشاركة صادقة. هو أن تشعر بما يشعر به الآخر دون أن تنظر إليه من فوق. هو أن تقول له: "أنا هنا، ولن أتركك".

أنا مريضة اكتئاب ويغضبني استخدام عبارة "مدبرس"، أو "اليوم حاسس إنّي مكتئب"، بشكل عابر وعشوائي. 

أرجوكم، لا تستخدموا كلمة "اكتئاب" في غير مكانها.

حين تقولون: "أنا مكتئب اليوم" لأنّ الطقس لم يعجبكم، أو لأنكم شعرتم بالملل، فإنكم تظلمون من يعاني فعلاً من الاكتئاب. قد يبدو الأمر مبالغاً فيه، لكن هذا هو الحال.

الاكتئاب مرض. ثقيل. مرهق. قاتل في بعض الأحيان.

حين تقولون: "أنا مكتئب اليوم" لأنّ الطقس لم يعجبكم، أو لأنكم شعرتم بالملل، فإنكم تظلمون من يعاني فعلاً من الاكتئاب. قد يبدو الأمر مبالغاً فيه، لكن هذا هو الحال.


رجاءً، إن لم يكن ما تعيشونه اكتئاباً حقيقياً، لا تطلقوا عليه هذه الكلمة. لا تساهموا في تقليل شأن الألم الحقيقي الذي نعيشه يومياً.

أنا أكتب اليوم محاولةً أن أشفى بالكلمة. أن أجد طريقاً صغيراً في هذا الظلام. أن أقول لمن يمرّ بما أمرّ به: "أنت لست وحدك".

وأقول لمن يحبّ شخصاً يعاني: لا تتركه، لا تشرح له، لا تعظه… فقط كن متواجداً، بحبّ، بصمت، بدفء.

كونوا للمكتئبين نوراً لا وعظاً، وحضناً لا محاكمة.. كونوا لنا بشراً، هذا كل ما نحتاجه. 


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image