شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!
كيف تبني الحرب مخيّلة اللعب عند أطفال فلسطين؟

كيف تبني الحرب مخيّلة اللعب عند أطفال فلسطين؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة نحن والحقوق الأساسية

الخميس 24 أبريل 202510:33 ص

"ماما العروسة تصاوبت. ماما العروسة انقطع رأسها من القصف"؛ هذا ما قالته الطفلة عبير (4 سنوات)، لأمّها، وهي تلعب بدميتها وتنتشلها من تحت ما تخيّلته أنقاضاً لبيت، برغم أن بيتها لم يتعرض لقصف، ولم تتضرر دميتها. "لكنها وجدت اللعب طريقةً تعبّر من خلالها عن أفكارها، في ما يبدو أنه انعكاس للمشاهد المؤلمة التي تتعرض لها، مثل مشاهد الشهداء ومبتوري الأطراف"، تقول الأم إسراء عبد الله، من خان يونس، لرصيف22.

"عبير ليست الطفلة الوحيدة التي أسقطت الحرب في لعبها. الأطفال جميعهم في بيئتنا المحيطة، ونتيجةً للحروب التي عايشوها، يلعبون ألعاباً جماعيةً تحاكي تفاصيلها، مستخدمين المسدسات والبنادق البلاستيكية. نجدهم يمثّلون الاشتباكات بين المقاتلين والجنود الإسرائيليين"، تؤكد إسراء التي فقدت زوجها خلال حرب الإبادة المستمرّة على قطاع غزّة. 

يحصنون مواقعهم بالمكعبات والليغو كمعاقل أو متاريس، ويفضلون ارتداء ملابس تبيّنهم كمقاتلين. يشعرون معها بأنهم يؤدون دوراً بطولياً

"هذا اللعب ليس مجرد نشاط ترفيهي. إنه وسيلة لاستيعاب التجارب الصادمة وتحويلها إلى أشكال يمكن للطفل أن يسيطر عليها. إنه وسيلة لتفريغ التوترات العاطفية ولتنظيمها. هذا اللعب، الذي يغدو شكلاً من أشكال التواصل الرمزي، يساعدهم في استعادة التوازن النفسي بعد الصدمات، لأنه يسمح لهم بإعادة تشكيل الواقع"، يعلّق مراد عمرو، الاختصاصي النفسي في المركز الفلسطيني، في حديثه إلى رصيف22.

طفل من الضفة الغربية

يمثّلون دور المقاتل والشهيد والأسير

تسرد كفاح عبد الواحد (34 عاماً)، من محافظة قلقيلية في الضفة الغربية المحتلة، وهي أمّ لأربعة أطفال، جميعهم دون سن التاسعة، لرصيف22، كيف تشاهد أطفالها الذكور وهم يلعبون ألعابهم الجماعية. "ألعابهم المفضلة، بلا منازع، هي الألعاب الحربية البلاستيكية، لارتباطها بالبطولة والشجاعة في أذهانهم"، تقول.

وتردف: "يستخدمون هذه الألعاب؛ البنادق والمجنزرات والطائرات الحربية الصغيرة، ليحاكوا هجمات ومعارك؛ يحصنون مواقعهم بالمكعبات والليغو كمعاقل أو متاريس، ويفضلون ارتداء ملابس تبيّنهم كمقاتلين. يشعرون معها بأنهم يؤدون دوراً بطولياً". 

وتلاحظ كفاح، أنّ اشتعال الحروب في فلسطين يوقظ عندهم الرغبة في هذه الألعاب من جديد. "ولا تقتصر الألعاب على ألعاب البطولة، فأجدهم يمثّلون دور الشهيد أو الأسير. هذا ما يرونه في الأخبار وما يسمعون عنه من الأهل"، تقول مضيفةً. 

أطفال مريد البرغوثي (47 عاماً)، من رام الله، يميلون إلى هذه الألعاب أيضاً. "ابني البالغ 12 عاماً يحبّ شراء الأسلحة البلاستيكية. أما بناتي فيعلّقن صور الشهداء في غرفهنّ، ويرتدين الأساور والإكسسوارات التي تحمل رموزاً وطنية"، يقول لرصيف22.

ويلفت الدكتور إدريس جرادات، مدير مركز السنابل للدراسات والتراث الشعبي، إلى أنّ بعض هذه الألعاب الجماعية التي يمارسها الأطفال، مستلهم من الألعاب الشعبية التي كانت دارجةً في فلسطين. "هناك لعبة اسمها 'عسكر وحرامية'، يفضّل الأولاد أن يقوموا بدور العسكر، ويرفضون القيام بدور الحرامية. هذه لعبة كانت شائعةً أيضاً في البلاد العربية"، يقول.

ويضيف في حديثه إلى رصيف22: "وفي سياق الواقع الفلسطيني، تحولت اللعبة إلى 'يهود وعرب'، وقد وثّقناها في التسعينيات في كتاب حمل عنوان 'الألعاب الشعبية الفلكلورية في فلسطين'. ينقسم فيها الأطفال إلى قسمين، على الرغم من أنّ أطفالاً كثراً لا يقبلون بتقمص دور اليهود، ثم يحاول أعضاء الفريق الذي يمثّل دور اليهود إلقاء القبض على أعضاء الفريق الآخر، مستخدمين كلمات وعبارات كانوا يسمعونها في الحقيقة من الجنود الإسرائيليين في أثناء مداهمة البيوت والمناطق التي يسكنونها". 

طفل يلعب في أحد الأعياد في الضفة الغربية

الطفل يحاكي بيئته

تلفت الدكتورة زهرة خدرج، الكاتبة والمستشارة الأسرية الخبيرة في لغة الجسد والمتخصصة في التنمية البشرية، إلى أنّ الأطفال لا يعيشون في معزل عن محيطهم، فألعابهم تتأثر بشكل مباشر بما يجري من أحداث سياسية في محيطهم وأمام أعينهم، سواء في فلسطين أو أي مكان في العالم.

وتتابع في حديثها إلى رصيف22: "الطفل الذي ينشأ في بيئة زراعية في إحدى قرى الصين، على سبيل المثال، تتمحور ألعابه حول أدوات الزراعة والنباتات. بينما في البؤر المشتعلة بالأحداث، نرى أطفالها يحاكون ما يجري. فمن الطبيعي أن نرى كيف تتجسد الاقتحامات والملاحقات وإطلاق النار والاعتقالات في ألعاب الأطفال الذين ينشأون في مخيم جنين، أو في أماكن أخرى تشهد مثل هذه الأحداث". 

ركزت ألعاب الأطفال الجماعية في الانتفاضة الأولى على تقليد رمي الحجارة والمظاهرات، بينما حاكى الأطفال خلال الانتفاضة الثانية العمليات المسلحة والاشتباكات، وشاهدناهم يبتكرون الطائرات المسيّرة والأنفاق خلال الحروب على غزّة

وتضيف الدكتورة خدرج: "يستخدم الأطفال أيضاً هتافات يسمعونها في الشوارع، خلال تشييع الشهداء مثلاً، نذكر منها: 'يا شهيد ارتاح ارتاح، وإحنا منواصل كفاح'، أو 'يا أم الشهيد نيّالك، يا ريت أمّي بدالك'. نشاهد أيضاً كيف يلعب الأطفال في مسافر يطا في الخليل، ويمثلون ملاحقة قوات الجيش الإسرائيلي والمستوطنين لأهاليهم".

يتفق مع هذا الطرح الدكتور غسان ذوقان، المحاضر في كلية العلوم الإنسانية في جامعة النجاح، قائلاً: "يحدث أن تتأصل الألعاب العسكرية في الألعاب الجماعية لدى الأطفال في مجتمعات أخرى، وليس لدى الأطفال الفلسطينيين فحسب. مجتمعات خضعت شعوبها للاحتلال والاضطهاد والاستغلال. ينطبق الأمر على الأطفال اللبنانيين، الذين عاشوا الحروب الإسرائيلية، وكذلك أطفال إفريقيا وأمريكا اللاتينية"، مؤكداً على العلاقة الطردية بين هذه الألعاب وبين الواقع السياسي والميداني. فعندما تتراجع الأخيرة، يتراجع اللعب التمثيلي الذي يحاكي هذا الواقع، والعكس صحيح". 


أطفال يلعبون في الضفة الغربية

كيف يصنع الأطفال ألعابهم؟

"عدم امتلاك المال الكافي لشراء الألعاب لا يعني غياب اللعب. بل يعني دفع الطفل إلى ابتكار ما يلبّي رغباته في اللعب"، تؤكد الدكتورة خدرج، مضيفةً: "نرى الأطفال يختلقون الألعاب من الخشب والبلاستيك والقماش والورق والكرتون والحجارة وأي مادة قد تتوفر لديهم، كما يختلقون الحكايات والأحداث التي تجعلهم يعيشون التجربة كما تمليها عليهم تصوراتهم، حتى وإن كانت هذه الألعاب مصبوغةً بنكهة الواقع القاسي الذي يعيشونه".

وحول طبيعة الأدوات المستخدمة في هذه الألعاب التمثيلية، يقول الدكتور جرادات، إنّ من الأطفال من يستخدم مواد أوليةً بسيطةً، في حال لم تتوافر الألعاب العسكرية المقتناة، كقطع الخشب التي تتحول إلى بندقية، أو الأنابيب الزجاجية التي توضع داخلها بودرة، فتخرج عند ضربها بالأرض على شكل غبار، في محاكاة للقنابل. ويلفت إلى استخدام الحصى كرصاص، والقطع الخشبية كقذائف أو طائرات "درون".

هذا اللعب ليس مجرد نشاط ترفيهي. إنه وسيلة لاستيعاب التجارب الصادمة وتحويلها إلى أشكال يمكن للطفل أن يسيطر عليها

ويضيف الاختصاصي النفسي مراد عمرو، أن الأطفال يحاكون مسألة التفتيش على الحواجز أيضاً. لذا ينصبون الحجارة أو الأجسام التي تعيق الطريق ويقومون بتفتيش بعضهم البعض، كما يفعل الجنود الإسرائيليون على الحواجز العسكرية في الضفة الغربية. كذلك، يستخدمون العصي كصواريخ أو الأوراق لصناعة الطائرات الحربية. 

ويؤكد على أنّ الأطفال في الأحياء الفقيرة الفلسطينية، أو خلال الحروب والحصار، لا يتمكنون من شراء الألعاب، بل يقومون بصناعتها. إلا أنها في مناطق كثيرة متوافرة بكثرة وبأسعار مقبولة.  

تختلف الحروب وتختلف معها الألعاب

وحول ما إذا كانت هناك اختلافات بين الألعاب "الحربية" المستخدمة بين الأطفال خلال حرب الإبادة الحالية، وبين الألعاب السابقة التي استخدمت في الانتفاضتين، يقول جرادات: "اللعبة هي لعبة، لكن يتم تجيير الألعاب وتطويعها بما يخدم المرحلة التي يعيشها الطفل. فمثلاً في الانتفاضتين الأولى والثانية، كان يتم استخدام الطائرات الورقية، حتى بين الكبار. فتُصنّع من قماش بألوان العلم الفلسطيني، كإشارة إلى دخول الجيش الإسرائيلي منطقة معينة. أما اليوم، فيتم استخدامها للتعبير عن المناطق التي تُقصف".

من جانبه، يرى عمرو، أن ألعاب الأطفال الجماعية في الانتفاضة الأولى، ركزت على تقليد رمي الحجارة والمظاهرات، بينما حاكى الأطفال خلال الانتفاضة الثانية العمليات المسلحة والاشتباكات، وشاهدناهم يبتكرون الطائرات المسيّرة والأنفاق خلال الحروب على غزّة". 

تضيف الدكتورة خدرج، إلى ذلك: "في كل مرة، تتبدل الألعاب بما يتماشى مع مجريات الأحداث، فتدخل المصطلحات والتعابير والأسماء المرافقة للمرحلة. يلقّب الأطفال أنفسهم خلال اللعب بأسماء قادة عسكريين مثل أبي عبيدة وأبي حمزة والضيف. يتقمصون شخصياتهم ويستخدمون خطابهم ولغة جسدهم". 

وفي دراسة أجراها الدكتور ذوقان، عام 1995، في موضوع "سيكولوجية اللعب"، بعنوان "أثر الانتفاضة على لعب الأطفال الفلسطينيين"، خلص إلى أنّ 58% من الأطفال يميلون إلى الألعاب ذات الطابع العسكري بشكل عام، و77% من الأطفال الذكور يميلون إلى تقمص شخصية القائد أو الفدائي، فيما كانت قلة تتقمص شخصية المعتدي المتمثل في الجندي، و68% منهم يميلون إلى صناعة الألعاب ذات الطابع الحربي بأنفسهم. 


أطفال يلعبون في الضفة الغربية

إسرائيل تلاحق الألعاب

تتعامل إسرائيل بحساسية عبثية مع ألعاب الأطفال. "لقد تكررت مشاهد مصادرة بنادق بلاستيكية وألعاب خلال اقتحام الجنود الإسرائيليين بيوت المواطنين في الضفة الغربية المحتلة وخلال تنفيذهم عمليات الاعتقال. وقد شاهدنا في فيديوهات موثّقة كيف أجبر الجنود طفلاً على تحطيم لعبته عند أحد الحواجز، أو كيف ضربوا طفلاً لمجرد ارتدائه سترةً تحمل صورة بندقية"، تقول الدكتورة خدرج.

ويضيف الدكتور جرادات: "رصدنا أكثر من حالة قام فيها الجنود بضرب أطفال يرتدون ملابس تحمل إشارات لأسلحة، أو بإجبارهم على خلع ملابسهم. وكثيراً ما وجد الجيش ألعاباً بلاستيكيةً بيد أطفال وصادرها". 

وسبق أن أشار مركز المعلومات الإسرائيلي لحقوق الإنسان في الأراضي المحتلة "بيتسيلم"، في بيان كان قد نشره بعد انتهاء الانتفاضة الثانية، إلى أنّ الجيش الإسرائيلي قتل خلال السنوات الاخيرة (أي قبل عام 2006)، ما لا يقلّ عن خمسة أولاد وفتية فلسطينيين كانوا يلعبون بألعاب تشبه الأسلحة، أو لعبوا بالمفرقعات النارية.

التكنولوجيا والرسم… مساحتان للتعبير

"إنّ الأطفال الذين لا يتاح لهم المجال للّعب في الحارات والمساحات الخارجية، ويعيشون في الشقق، يتجهون نحو الألعاب الإلكترونية، ويميلون إلى اختيار الألعاب ذات الطابع العسكري، إلى درجة الإدمان عليها"، يقول الدكتور ذوقان.

ويوضح عمرو، أن الأطفال يلجأون إلى أشكال أخرى من التعبير عن تجربتهم مع الحروب، كالتعبير الفنّي والرسم، فنجدهم يرسمون الدمار والصواريخ والشهداء، ويزداد اهتمامهم بالأغاني الوطنية والرموز التي توضع فوق الملابس. 

ويختم الدكتور ذوقان، حديثه بدعوة المدارس الفلسطينية إلى استغلال طاقة الأطفال من أجل الاهتمام بأنشطة رياضية قد تلعب دوراً في تفريغ صدماتهم وتجاربهم، وإلى تربيتهم بصورة إيجابية تجاه مفهوم القيادة، منتقداً المناهج التدريسية التي لا تلبّي أسئلة الطفل واحتياجاته في هذا المجال". 


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

بالوصول إلى الذين لا يتفقون/ ن معنا، تكمن قوّتنا الفعليّة

مبدأ التحرر من الأفكار التقليدية، يرتكز على إشراك الجميع في عملية صنع التغيير. وما من طريقةٍ أفضل لنشر هذه القيم غير أن نُظهر للناس كيف بإمكان الاحترام والتسامح والحرية والانفتاح، تحسين حياتهم/ نّ.

من هنا ينبثق رصيف22، من منبع المهمّات الصعبة وعدم المساومة على قيمنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image