المسافة بين موقف الباص الأخير قبل أن يلتف عائداً إلى منطقة الزراعة، وجامع العجلان، في مركز ساحة الشيخ ضاهر تقريباً، ملأى بالصور والضجيج. باعة يفترشون الأرصفة، سائقو التاكسي يترقبون الزبائن المستعجلين، كشة حمام هنا، صوت بائع جوال على عربة فاكهة هناك، وتمثال الرئيس السابق حافظ الأسد في الوسط، والكثير من المقاهي.
أول ما يخطر في بال ساكن جديد لمدينة اللاذقية، أنها مدينة المقاهي. مدينة ساحلية صغيرة غرب سوريا، تعرف بقدمها وتاريخها، تزدحم بمقاهيها، التي بدورها تزدحم بالناس، في جميع الأوقات، ما لا يترك للمرء خياراً إلا أن يفكر: "ألا يعمل هؤلاء الناس؟".
تختلف المقاهي بطابعها وروحها، بعضها للعب الورق وطاولة الزهر وتدخين النرجيلة، وبعضها للطلاب. منها للشيوعيين القدامى، أو السوريين القوميين، ومنها للفنانين والكتّاب، وإلى جانبها مقهى صغير يعرف باسم "قصيدة نثر".
يقع هذا المقهى بعد جامع العجلان، حيث الرصيف المزدحم، ثم زقاقٌ في انعطاف إلى اليمين. يتسع لنحو 10 طاولات، وفي الصيف طاولتان أو ثلاث على الرصيف المقابل، مطبخ صغير، عامل واحد إلى جانب المالك، إلا أن قصيدة نثر يتسع للكثير من القصص والذكريات.
القصة كما هي
بدأ مشروع قصيدة نثر حين فكر الصديقان رامي غدير وبريء خليل عام 2008 بمشروع يجمع بين ثقافة المقهى الشعبية، والمكتبة الصغيرة للقراءة، والأفكار المكتوبة على الحيطان. لم يعرفا أن الحميمية التي سيصل لها المقهى في بيئته، ستخلق علاقة استثنائية بينه وبين رواده مع الوقت. لكنه احتضن الناس بحب فأصبح البقعة المفضلة في المدينة للكثير من الشباب، خصوصاً بعد الحرب، وبعد أن تغير شكل المدينة وأهلها. يجلس رامي غدير إلى الطاولة المواجهة للباب، يلف سيجارة من التبغ العربي، وينشغل بالكومبيوتر الصغير. يتحدث إلى الجالسين إلى طاولة في الوسط قربه، ثم يجلس إلى طاولة ثالثة مع آخرين، فهو يعرف الجميع بشكل عام. في الوسط مكتبة قديمة مليئة بالكتب، أكثرها بعناوين رديئة، إنما لطيفة، وعليها عبارة: "لأن القراءة للجميع، نعتذر عن الإعارة". يمكنكم القراءة داخل المقهى فقط. وعلى الحائط الأيسر مجموعة من اللوائح المعلقة، تحتوي على أوراق بيضاء كتبت عليها عبارات تنتمي لموضوع موحد، لفلاسفة عظماء أو من ابتكار رامي، وقد اعتاد تغيير الموضوع الموحد كل شهر. على الحائط الأيمن والحائط المواجه للزقاق، علقت صور كثيرة لجميع رواد القصيدة، اعتاد رامي التقاط لحظاتهم وتعليقها متراصة على الحيطان، ليحفظ المقهى ذكرياتهم ووجوههم. كثير منهم رحلوا عن سوريا منذ عام 2011، لكنهم ما زالوا معلقين في القصيدة. ثمة مميزات أخرى يتّسم بها المقهى، فعام 2013، ارتفع سعر الدولار كثيراً فارتفعت أسعار كل شيء، إلا أن فنجان القهوة في قصيدة نثر حافظ على سعره: 125 ليرة سورية. حينها كان تقدم في مقاه أخرى بـ300 ليرة. أيضاً كأس الفودكا مساءً، رغم إمكانية رداءته، إلا أن مشاركته مع بعض الأصدقاء، ودفع ثمن رخيص في النهاية، قد يكونان من أفضل اللحظات التي حظي بها شباب اللاذقية في فترة الحرب. أما كلمة السر لاشتراك الانترنت، فبقيت لأربع سنوات نفسها، كان يخشى رامي تغييرها، لأنه لا يريد للأصدقاء الذين يعودون إلى القصيدة، ألا يعرفوا كلمة السر، وكانت Smile for me ابتسم لي.قصص جميلة
شهد "قصيدة نثر" ولادة قصص كثيرة، منها قصص حب انتهت بالزواج. إذ التقى فيه شاب وفتاة للمرة الأولى، وتواعدا فيه مدة طويلة، وخاضا الكثير من المعارك، وتشاركا الكثير من لحظات الحب، وفي النهاية تزوجا وأقاما عرسهما في المقهى. وفي إحدى المرات، قالت صبية من رواد المقهى إنها تحب الماعز، فسمعها شاب معجب بها، وفي اليوم التالي، جاءت إلى المقهى، لتجد عنزة في انتظارها. سمح المالك للشاب بإدخال العنزة إلى المقهى، وكانت بداية قصة حب بينهما. مجموعة من الشباب، قدموا إلى اللاذقية لليلة واحدة، ولم يجدوا مكاناً ليسهروا فيه، سمح لهم رامي بإحضار العود، وقدّم لهم الفودكا، وتشاركها معهم، وغنوا وشربوا ونسيوا قليلاً ما يحدث في البلاد. أما العم جورج، الرجل المسنّ الذي يملك منشرة صغيرة قرب المقهى، فاعتاد أن ينهي عمله في المساء ويتجه إلى المقهى ليشعر ببعض الألفة. ذات يوم وجد المقهى مغلقاً، فجلس على بابه، وانتظر طويلاً، ثم أحضر زجاجة بيرة واستأنف الانتظار حتى تعب. لا يوجد مساحة لحمامين في المقهى نظراً لصغره، لذا هناك حمّام واحد يشترك في استعماله الرجال والنساء. يقول رامي إن الحمام المشترك شكل من أشكال المساواة بين الرجال والنساء. هذا الحمام، يحوي كماً هائلاً من الملصقات والكتابات على الحائط، إحدى الكتابات تقول: "أليس تخصيص مكان للتدخين في مقهى، كتخصيص منطقة للتبول في بركة سباحة؟". لسنة كاملة تقريباً، توقف المقهى عن تقديم الثلج مع المشروبات، وكلما سئل النادل أو المالك، يجيبان: آلة الثلج معطلة. ولطالما كانت الاقتراحات الواردة للإدارة، أن يُخصص صندوق لجمع التبرعات لشراء آلة ثلج جديدة من الزبائن. منذ أن سافر صديق القصيدة الأول، بدأت الحلقات تتلاشى، تغيرت بعض الأشياء في العام الأخير أيضاً، اللوحات البيضاء التي يكتب عليها موضوع موحد، أصبحت مجموعة من الرسوم على الحائط الأيسر، تغيرت كلمة المرور إلى مجموعة كبيرة من الكلمات المتبدلة يومياً. ومع كل مغادر، يفقد المكان جزءاً من روحه، لكن ما لم يتغير هو صور الناس، ملاحظاتهم الصغيرة المكتوبة بملصقات صغيرة هنا وهناك، المزروعات التي تركها بعض الشباب في إناء التربة الصغير على باب المقهى، والكثير من الوجوه الشابة الجديدة المأخوذة بسحر القصيدة. تقول واحدة من رواد القصيدة: "اللاذقية بالنسبة إلي هي قصيدة نثر". على صفحته على موقع Facebook يكتب رامي غدير: عازفو البيانو واللصوص يملكون جمالاً وخفّةً في أصابعهم، أصدقائي الذين هاجروا يملكون تلك الأصابع، ذات ليلةٍ وبالرغم من أنني أوصدت باب غرفتي جيّداً، سيتمكّن أصدقائي من فتحها من دون أن أشعر، هاتفين بصوتٍ واحد: "هييييه لقد عدنا أيّها الوغد"، ويوقّعها باسم "قصيدة نثر".رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ 3 ساعات??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 23 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون