دخلت برفقة أمّي إلى مكتب الأمن العام اللبناني، ونحن نشعر بالرهبة. كانت الممرّات تعجّ بالموظفين الساخطين ذوي الأجور المتدنّية، وتفوح منها رائحة العرق المنبعثة من الأشخاص القلقين الذين يتنقّلون من غرفة إلى أخرى. في هذا المكان، يلتقي انعدام القانون في لبنان بنظيره في أروقة البيروقراطية المحبطة.
بحثنا حولنا عن مكتب المدير الذي يمكنه مساعدتنا في عملية تجديد بطاقة هويتي اللبنانية. في لبنان، لا تستطيع المرأة أن تنقل جنسيتها لأبنائها؛ فالجنسية تُنقل من خلال الأب فحسب. ولهذا، كل ثلاث سنوات، أحتاج إلى تجديد وثائق توفيق وضعي القانوني في "بلدي"، لا لشيء سوى أن والدتي تزوّجت من رجل إثيوبي.
لا أستطيع أن أُحصي عدد المرات التي أنكر فيها شخص ما في بيروت أصلي اللبناني. بشرتي داكنة جداً "لأكون لبنانيةً"، ولهجتي العربية مكسّرة للغاية، وشعري كثيف ومتمرّد، ربما أكثر من اللازم
اقتربت منّا ضابطة حذرة، وقد لاحظت كم نبدو تائهتَين، وعرضت علينا المساعدة في معرفة الاتجاهات. ثم نظرت إلى بطاقة هويتي، وابتسمت لأمّي بسخرية، وسألتها: "من وين جبتيها؟".
لا أستطيع أن أُحصي عدد المرات التي أنكر فيها شخص ما في بيروت، سواء كانت مُزيّنة شعر أو جارتي، أصلي اللبناني. بشرتي داكنة جداً "لأكون لبنانيةً"، ولهجتي العربية مكسّرة للغاية، وشعري كثيف ومتمرّد، ربما أكثر من اللازم.
"آه… حسّيت إنّك مش لبنانية."
وحسب العرف الإثيوبي، فإنّ اسمي الأخير، لقب عائلتي، "تيودروس"، هو الاسم الأول لوالدي. وفي بلاد الشام، تُحدد ألقاب العائلة إلى أيّ جزء من البلد ننتمي، ومن هو والدنا ووالدتنا، وأحياناً ما هي الصناعة التي يعملان فيها أو الحرفة التي اشتهرا بها ذات يوم.
ويمكن للاسم العائلي حتّى أن يدلّ على القرية الريفية التي وُلد فيها أجدادك. وفي هذه الألقاب أيضاً موقعنا الاجتماعي، وما يُحدّد قيمتنا في نظر المجتمع، ومكاننا في التسلسل الهرمي الاجتماعي والاقتصادي الطبقي. بل يمكن للاسم أن يؤثّر في الطريقة التي يتعامل بها الناس معك، أو في الافتراضات التي يكوّنونها عنك وعن هويتك قبل أن تُتاح لك الفرصة للتعبير عن نفسك.
في محاولة متسرّعة لتصنيفي، عادةً يسألني لبنانيون بارتباك، إن كنت أقصد "تادرس"، وهو اسم لبناني شائع. وغالباً ما يصابون بخيبة أمل، ولكن أيضاً يشعرون بشيء من الارتياح، عندما أقوم بتصحيح الاسم لهم إذ تحلّ إجابتي حيرتهم المؤقّتة بشأن هويتي ومظهري. ويتبيّن لهم أنّ حدسهم كان صحيحاً: أنا لست واحدةً منهم.
عندما انتقلت إلى لبنان مع والدتي عام 2005، التحقتُ بالصف الثالث في مدرسة "سيتي الدولية" (CIS) في بيروت. كنت آتيةً من سومرفيل، ماساتشوستس في الولايات المتحدة الأمريكية، حيث كان معظم زملائي في الصف من أبناء الجيل الأول لعائلات مهاجرة. أما في بيروت، فكان زملائي في الصف يقضون رحلة الباص من المدرسة إلى المنزل وهم يسخرون مني. لقد تعرّضت للمضايقة بسبب شعري الإفريقي الكثيف والمجعّد، وأخبروني بأنني أشبه "خادماتهم" الإثيوبيات.
كنت أقف أمام المرآة كل صباح، وأنا أستعدّ للذهاب إلى المدرسة، أُحدّق في وجهي وأتمنى لو أمكنني أن أنزع ملامحي الإثيوبية البارزة؛ شفتَيّ الممتلئتين جداً، وبشرتي ذات اللون الكراميل الغني. لم يكن الناس يرونني جميلةً، وتالياً لم أكن أرى نفسي جميلةً. ومع كل تعليق مهين عن الإثيوبيين سمعته، أو في كل مرّة سمعت فيها أحدهم ينتقد ذوي البشرة السمراء، كنت أغوص أكثر فأكثر في دوامة الخجل.
لن أنسى أبداً شعور العار الذي طغى عليّ، وكم تمنيت بشدّة لو لم أكن سمراء. شعرت وكأنّ دمي نفسه ملوّث، وأنني غير مقبولة.
عندما انتقلت إلى لبنان مع والدتي عام 2005، آتيةً من الولايات المتحدة الأمريكية، كان معظم زملائي في الصف في بيروت يقضون رحلة الباص إلى المنزل وهم يسخرون مني. لقد تعرّضت للمضايقة بسبب شعري الإفريقي الكثيف والمجعّد، وأخبروني بأنني أشبه "خادماتهم" الإثيوبيات
معايير الجمال في لبنان، كحال العديد من الأماكن، تتمحور حول الشكل الأوروبي. أردت أن أبدو مثل الفتيات الشقراوات اللواتي كنّ من حولي، وأن أتحدث بلغة فرنسية ساحرة أو باللغة الإنكليزية المقبولة لديهنّ. كانت لكنتي الأمريكية الدقيقة، التي تكاد تكون دارجةً، ثقيلةً جدّاً على ألسنتهنّ.
كنت أشعر وكأنني الخروف الأسود في كل غرفة أدخلها، حرفياً ومجازياً. لم يكن يهمّ كم كانت والدتي أو أجدادي يحبونني: كنت أشعر أنني غريبة الأطوار. وسرعان ما تحوّل هذا الكره للذات إلى غضب.
نقلتني والدتي إلى مدرسة الجالية الأمريكية (ACS) القريبة، حيث يرسل الأثرياء اللبنانيون أبناءهم للحصول على تعليم دولي. لكنني فوجئت بأن حتى أولئك الأكثر تحضّراً وثقافة وسفراً كانوا عنصريين بالقدر نفسه، بل أكثر قسوةً من نظرائهم الذين يعتقدون أنهم أدنى منهم. استمرّت المضايقات، وأصبح زملائي أكثر "إبداعاً" في الطرق التي كانوا يقارنونني بها بـ"خادماتهم"، لكنني هذه المرة لم أسكت وقاومتُ. أصبح جلدي أكثر سماكةً، ولساني أكثر حدّةً.
بعد مرحلة التعليم الثانوي، التحقت بجامعة ماساتشوستس، وعدت إلى المكان الذي قضيت فيه طفولتي، متلهّفةً للابتعاد أخيراً عن ضغوط المجتمع اللبناني. خفّت حدّة استيائي عندما كنت في الخارج. وفي عالم تتزايد فيه العولمة جنباً إلى جنب مع شتات يتوسّع باستمرار، بدأ لبنان يتأقلم تدريجياً مع الاختلاف. وبرغم أنّ العنصريّة، سواء كانت ممنهجةً أو عابرةً، لا تزال متجذّرةً بعمق في نسيج الوعي اللبناني الجمعي، إلا أنّ الناس بدأوا يتعلّمون كيف يكونون أفضل تدريجياً.
لا أعلم بالضبط كيف أو لماذا حدث هذا التحوّل. لكن فجأةً، بدأت أجد نفسي في حوارات أكثر صحّيةً مع اللبنانيين حول أصولي.
"آه"، كانوا يقولون لي بإعجاب: "هاي خلطة حلوة. ما شاء الله".
كما أنه لم يغب عن بالي أنه مع صعود إمبراطورية كارداشيان، والإعجاب الجديد بالبشرة البرونزية والشفاه الممتلئة بشكل مصطنع، أصبحتُ فجأةً أكثر جاذبيةً في أعين اللبنانيين. لكن، بدلاً من أن أظلّ في انتظار الناس ليقرروا من أكون، أخذت هويتي بين يدي.
في النهاية، ما معنى أن تبدو لبنانياً، وأن تكون لبنانياً؟ لقد عشتُ في لبنان خلال أكثر فتراته اضطراباً، وسمعت قصفاً وعاصرت سقوط قنابل بقدر ما سمعت أجراس الكنائس تدقّ صباح الآحاد. جلستُ في شقّة أمي المظلمة لساعات طويلة عندما اشتدّ انقطاع الكهرباء، وكان الناس يستحمّون تحت الضوء الخافت لمصباح زيت. شاهدت المودعين وهم يفقدون كل أموالهم ومدّخرات حياتهم لصالح حكومة لم تُعِد لهم شيئاً أو تعوّضهم أبداً. أنا أيضاً احتججت، وغضبت، وثرت، وتجادلت مع الباعة حول ارتفاع أسعار الخضروات.
يعيش أكثر من 15 مليون لبناني في الخارج، مبعثرين كالرماد في جميع أنحاء العالم، خائفين من العودة إلى وطن خذلهم. كثيرون منهم لن يعرفوا بلدهم أبداً، حتّى لو كانوا يحملون جنسية الأرض التي لا يشعرون بأي انتماء حقيقي إليها.
برغم البؤس الذي يلحقه هذا البلد بشعبه، فأنا أختاره وطناً لي.
المهم هو أن أنتمي إلى نفسي وعائلتي وحيّنا، وإلى رؤية لبنان الذي يحتضن أبناءه بغضّ النظر عن هوية والدي ومن أين أتى. ومع ذلك، برغم البؤس الذي يلحقه هذا البلد بشعبه، فأنا أختاره وطناً لي.
على مرّ السنين، كنت أعود إلى بيروت باستمرار. أشتاق دائماً إلى أجواء شوارعها المألوفة وإيقاعها. وعندما بدأت الحرب الإسرائيلية على غزة في 8 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، مع اندلاع توتّرات موازية بين إسرائيل ولبنان، شعرت بالنداء الأخير للعودة إلى "الوطن". لم أستطع أن أشاهد العدوان من بعيد.
نقلتني والدتي إلى مدرسة يُرسل الأثرياء اللبنانيون أبناءهم إليها للحصول على تعليم دولي. لكنني فوجئت بأن حتّى أولئك الأكثر ثراءً وتعليماً وسفراً كانوا عنصريين بالقدر نفسه، بل أحياناً يكونون أكثر قسوةً من نظرائهم الذين يعتقدون أنهم أدنى منهم
مع تغيّر مسار الحرب وتصاعد حدّتها، أصبحت مهووسةً بتصوير مدينتي وسكّانها، وهي عادة عصبية لاإرادية لاحظتها لديّ بعد انفجار مرفأ بيروت في 4 آب/ أغسطس 2020، الذي أسفر عن مقتل 218 شخصاً، وإصابة 7،000 آخرين، منهم ما لا يقلّ عن 150 أصيبوا بإعاقات جسدية، وألحق أضراراً بـ77،000 شقة، وشرّد أكثر من 300 ألف شخص، بحسب تقرير صادر عن "هيومن رايتس ووتش". كانت الصورة والتصوير الفوتوغرافي وسيلتَيّ إلى التمسّك بذكريات قد تصبح أنقاضاً في أي لحظة.
كنت أصوّر وأوثّق اللحظات الرقيقة التي غالباً ما كانت تمرّ دون أن يلاحظها أحد؛ القطط التي تتسكّع برفقة من كان يعتني بها في الشارع الذي أعيش فيه، والزوجين المسنّين اللذين يتجوّلان في شارع الحمرا في حرّ تموز/ يوليو الحارق، وكرسيّاً بلاستيكيّاً مهملاً عليه كلمات متقطّعة غير مكتملة، أسلاك الكهرباء الخارجة من الجدران الإسمنتية، والزهور الذابلة التي خرجت من الإسمنت نفسه. وعندما تلاشى الغضب والاستياء اللذان تراكما على مرّ السنين، حلّ مكانهما التسامح.
لكنني لن أنسى أبداً تلك المواجهة القصيرة في الأمن العام. فالضابطة افترضت أنني عاملة منزليّة مهاجرة جئت من إفريقيا لتسجيل أوراقي مع "كفيلتي" -التي هي بالأساس أمّي- ضمن نظام الكفالة. لكن والدتي، التي لم تكن يوماً صبورةً مع العنصرية المستشرية في المجتمعات العربية، ردّت ببرود: "إجت من بطني!".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Mohamed Adel -
منذ 4 أياملدي ملاحظة في الدراما الحالية انها لا تعبر عن المستوى الاقتصادي للغالبية العظمى من المصريين وهي...
sergio sergio -
منذ 5 أياماذا كان امراءه قوية اكثر من رجل لكان للواقع رأي آخر
أمين شعباني -
منذ أسبوعهذا تذكيرٌ، فلا ننسى: في فلسطين، جثثٌ تحلق بلا أجنحة، وأرواحٌ دون وداعٍ ترتقي، بلا أمٍ يتعلم...
Rebecca Douglas -
منذ أسبوعنحن أنصار الإمام المهدي عبد الله هاشم أبا الصادق(ع) ناس سلميين ندعو للسلام والمحبة وليس لنا علاقة...
Baneen Baneen -
منذ أسبوعنقول لكم نحن لا نؤذيكم بشيء وان كنا مزعجين لهذه الدرجة، قوموا باعطائنا ارض لنعيش فيهاا وعيشوا...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا اتفق بتاااتا مع المقال لعدم انصافه اتجاه ا المراه العربية و تم اظهارها بصورة ظلم لها...