عاشت سوريا حدثاً تاريخياً في الثامن من كانون الأول/ ديسمبر 2024، بتحرّرها من سلالة الأسد التي حكمت البلاد بالدم والنار لأكثر من نصف قرن. لم يقتصر تأثير ذلك الحدث على سوريا والمنطقة فحسب، بل امتد ليترك بصماته على الحركات الجهادية من باكستان إلى دول الساحل الإفريقي.
أولت الحركات الجهادية قدراً كبيراً من الاهتمام والتفاعل مع تحرير دمشق في رسائلها وخطاباتها الإعلامية، واندلع نقاش حادّ في عالم الجهاديين حول الأحداث السورية.
في هذا التقرير، يرصد رصيف22، بالتفصيل النقاشات التي حدثت في عالم الجهاديين ونقاط خلافهم واتفاقهم حول حكم الشرع، فقد سبّب تحرير دمشق وما تلاه من أحداث، حالةً من تصاعد المشاعر والارتباك بين الجهاديين، فضلاً عن تطوّر مواقف جديدة.
إنّ هذا التباين في وجهات نظر الجهاديين، من الاحتفال إلى الإدانة فالحذر وصولاً إلى الإلهام، يعكس الحالة التي تعيشها الحركات الجهادية الراهنة، والتي انقسمت بين العديد من الأقطاب: تنظيم الدولة، القاعدة، الجهاديون السوريون، الجهاديون الواقعيون، والجهاديون العقائديون، فضلاً عن طبقات أخرى أضافت المزيد من التعقيد إلى الصورة.
حين يتفاءل الجهاديون
بشكل سريع للغاية، كانت حركة طالبان أفغانستان، أول من بارك فتح دمشق، مهنئةً الشعب السوري ومشيدةً بهيئة تحرير الشام بالاسم، وأعربت في بيانها عن أملها في إقامة نظام إسلامي مستقلّ يلبّي تطلعات الجميع، داعيةً الهيئة إلى الانفتاح على دول العالم.
ولا تزال الحركة متمسكةً بموقفها الداعم حتى الآن، برغم انتقادات بعض رموزها الإعلاميين لتصريحات أحمد الشرع، التي قال فيها إنّ سوريا ليست أفغانستان، وهي تصريحات فُسّرت على أنها تحمل ازدراءً لطالبان بشكل أو بآخر.
حركة طالبان هنّأت بهيئة تحرير الشام، لكنها استاءت من تصريحات الشرع التي قال فيها: "سوريا ليست أفغانستان"، ما فُهم كازدراء لتجربة طالبان، رغم استمرار الحركة بدعم المشروع السوري الإسلامي المستقل. هذا التوتر يعكس تناقض المشاعر الجهادية بين الفخر والانزعاج
أما حركة طالبان باكستان، فقد جاء بيانها لافتاً بشكل كبير، إذ لم تكتفِ بالابتهاج بتحرير دمشق، بل أعربت عن أملها في تحقيق نموذج مماثل في باكستان. وأكد المتحدث باسم الحركة، محمد خرساني، أنّ تحرير دمشق يمثل نموذجاً يُحتذى لجميع الشعوب المظلومة، خاصةً الشعب الباكستاني، متمنياً أن يتحلى الباكستانيون بالتضحية والصبر كما فعل إخوانهم في الشام.
كذلك أصدرت جماعة جيش العدل الجهادية في بلوشستان، بياناً وفيديو احتفلت فيهما بسقوط نظام الأسد، وهنأت المقاتلين السوريين على انتصاراتهم، ودعت إلى دعمهم والوقوف بجانبهم، كما أعربت عن أملها في سقوط النظام الإيراني.
… وحين يقلقون
وفي تصرف غير معتاد، التزمت القيادة المركزية لتنظيم القاعدة الصمت حيال تحرير دمشق، ولم تُصدر أي تعليق رسمي حتى الآن. المثير للدهشة أنّ نشاطها الإعلامي كان مكثفاً في الأسابيع الأخيرة، وبرغم ذلك لم يتطرق التنظيم إلى التطورات الأخيرة في سوريا.
إنّ ردود الأفعال التي شوهدت حتى الآن كانت من الأفرع، كتنظيم القاعدة في شبه القارة الهندية الذي أشاد بتحرير الشام، وهنّأ الجهاديين السوريين. أما تنظيم القاعدة في اليمن، فقد ناقش التطورات الجارية في سوريا وحرص في تفاعلاته الإعلامية على التستر قدر المستطاع على اختلافاته مع الجهاديين السوريين، بجانب عدم التطرق بشكل مباشر إلى "هيئة تحرير الشام" برغم انتقاداته المبطنة لها.
في الواقع، سعى تنظيم القاعدة في اليمن إلى تجنّب أي تنازلات من شأنها المساس بمواقفه الأيديولوجية الراسخة، عادّاً أنّ "سيادة الشريعة" هي الهدف النهائي للجهاد والسبيل الوحيد للردّ على ضغوط القوى الدولية.
ففي إصدار نشرته "مؤسسة الملاحم" التابعة لتنظيم القاعدة في اليمن، ألقى القيادي في التنظيم، إبراهيم القوصي، المُلقّب بـ"خبيب السوداني"، مجموعةً من الوقفات التأملية والنصائح للمجاهدين السوريين.
ورأى السوداني، أنّ "الانتصار على النظام ليس سوى بداية معركة طويلة ضد الهيمنة الصهيونية الصليبية"، مختتماً سلسلة تعليماته بتحذير المقاتلين السوريين من الرضوخ للإملاءات الأمريكية، كما دعاهم إلى "دعم إخوانهم الفلسطينيين"، و"ألا يجعلوا الحدود التي حددتها اتفاقية سايكس بيكو هدفهم".
في خطوة غير مألوفة، صمتت القيادة المركزية لتنظيم القاعدة عن "فتح دمشق"، بينما علّقت فروعها بحذر، خصوصاً في اليمن والهند. ورأى القيادي "خبيب السوداني" أن النصر بداية معركة طويلة، رافضًا "الديمقراطية كإجراء".
في الحقيقة، هناك شعور داخل تنظيم القاعدة في اليمن بأنّ هيئة تحرير الشام تذعن للمصالح الغربية، ويعتقدون أنّ هذا التذلل ليس انتهاكاً لمبادئ الشريعة فحسب، بل تهديد للمشروع الجهادي. وفي إصدار "سوريا وكشف الحقائق"، حذّر التنظيم من الحلول السياسية والصفقات الإقليمية واللجوء إلى الديمقراطية والعلمانية. والمثير للاهتمام، مقابلة "نقاط على حروف"، حيث وجّه السوداني تحذيراً إلى المجاهدين السوريين من مغبّة الرضوخ للضغوط الأمريكية، مضيفاً: "إيّاكم أن تثنيكم الآلام والجراحات والمآسي ودموع اليتامى والثكالى عن أن تعطوا الدنية في دينكم، وترضوا بالذل والصغار أمام أمريكا وضغوطها. دونكم أروع وأقرب مثال لحالة أشدّ من حالتكم، فاعتبروا بالمعركة التي خاضها إخوانكم طالبان في أفغانستان".
أما تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي وجماعة نصرة الإسلام والمسلمين، فقد نشرتا بياناً مشتركاً بتاريخ 9 كانون الأول/ ديسمبر 2024، بعنوان "وعزّ الشرق أوله دمشق"، هنّأت فيه الحركتان المجاهدين في سوريا على "النصر الإلهي"، ودعتا إلى "نبذ الخلافات والوحدة والوقوف صفاً واحداً لبناء كيان جديد يستند إلى الشريعة ونشر العدل بين جميع طوائف المجتمع السوري". وجدير بالذكر أنّ هاتين الجماعتين أصدرتا بيانات تأييد منذ انطلاقة عملية "ردع العدوان".
لكن في الواقع، كانت جماعة نصرة الإسلام والمسلمين في مالي، أكثر حركة جهادية اتّبعت نهجاً سياسياً في التعامل مع الأحداث السورية، ولم تتطرق إلى المخاوف العقائدية أو التعامل مع الخارج، كتلك التي أبدتها الجماعات الأخرى.
الاحتفال بـ"تحرير دمشق"
أيضاً حظي "تحرير دمشق" بتغطية إعلامية كبيرة مع الفرع الأقوى في تنظيم القاعدة، حركة الشباب في الصومال، والتي أشادت بالتحرير وهنّأت مجاهدي سوريا، واحتفت بـ"تحرير السجون، خاصة صيدنايا"، كما أظهرت إعجابها بالمهارات التكنولوجية لهيئة تحرير الشام، خصوصاً طائرات "شاهين" المسيّرة، ولكن دون ذكر اسم الهيئة.
ومن الجدير بالملاحظة أنّ الجناح الإعلامي لحركة الشباب اختار تسليط الضوء على شخصية أبي مصعب السوري، بعد الإطاحة بالنظام، حيث نشرت الحركة في كانون الثاني/ يناير 2025، مقالاً حوله، قُدّمت فيه حياته كمثال يُحتذى لمجاهدي الصومال، مع تسليط الضوء على أفكاره وارتباطها بالواقع الراهن.
أما تنظيم "حراس الدين" المرتبط بالقاعدة في سوريا، والذي قمعته هيئة تحرير الشام، فقد بارك فتح دمشق برغم أنه لم يشارك في معركة التحرير، لاعتقاده بأنّ القتال لا يكون في سبيل الله إلا إذا كان من أجل تحكيم الشريعة. وقد أعلن حلّ نفسه امتثالاً لتوجيهات القيادة العامة للتنظيم، مؤكداً التزامه بثوابت الشريعة، واستعداده لخوض أي معركة مستقبلية دفاعاً عن المسلمين في الشام.
وقد عزا سامي العريدي، القيادي في جماعة "حراس الدين"، الإطاحة الأخيرة بنظام الأسد إلى عقود من الجهود الجهادية الدؤوبة. وفي بيانه "كلمة في سقوط نظام الطاغية بشار الأسد"، في أواخر كانون الأول/ ديسمبر 2024، أكد أنّ هذا النصر "تتويج لتفاني وتضحيات المجاهدين على مرّ السنين"، كما حثّ جميع المقاتلين السوريين على إقامة الشريعة.
حرب المرويات... تجدد التوترات
فرح أغلب الجهاديين بما سمي "فتح دمشق"، وبعضهم تبنّى نظرية الحذر والترقب حتى تصبح النتائج واضحة، لكن سرعان ما أعربوا أيضًا عن قلقهم ونقدهم الصريح إزاء تصرفات هيئة تحرير الشام الأخيرة. فعلى سبيل المثال، يقول أبو محمد المقدسي:
"نفرح باندحار النصيرية والروافض كائنًا من كان من دحرهم، فالله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر وبمن لا خلاق لهم، لكن هذا الفرح يتعكر ويتنغص حين نعرف أنه سيقطف ثمرات الجهاد أقوامٌ ممن لا خلاق لهم وممن لا يؤتمنون على تضحيات الشهداء، فتمثل أمامنا تجارب محبطة مع سياف وحكمتيار والمحاكم الصومالية... نفرح ونتفاءل بسقوط بشار ونستشرف أن يخرج من المجاهدين الصادقين الذين في صفوفهم، ولو بعد حين، من يحقق ما نتمناه".
كان أبو محمد المقدسي من أشد المنتقدين لرئيس المرحلة الانتقالية الشرع بعد "فتح دمشق"، ورأى أن ما يجري "انتصار بنكهة علمانية". متهماً إياه بالتراجع عن أسس التوحيد، واستغلال دماء المجاهدين للوصول إلى السلطة، مندداً بـ"التدرج" و"واجبات المرحلة" كتبريرات تُعطّل الشريعة وتُرضي الغرب
انقسمت الآراء بشدّة حول سياسة أحمد الشرع، حيث يدعمها تيار أبي قتادة الفلسطيني الأكثر انفتاحاً، بينما يعارضها تيار المقدسي. وقد جدد الفريقان وجهات نظرهما حول عدد من الأمور، وكانت محور الجدل والرسائل التي وجهها المفكرون الجهاديون حول الأحداث الأخيرة، المماطلة في تطبيق الشريعة، والتسامح مع المعارضين والأقليات، وإعطاء مساحة أكبر للمرأة، وتوسيع مساحة الحريات الشخصية، وعدم فرض نموذج حكم معيّن على السوريين في انتظار ما سيقررونه لاحقاً، بالإضافة إلى التراجع عن مبادئ الجهاد، ومناقشات حول المفاهيم السلفية المثيرة للانقسام مثل الولاء والبراء.
أدان المقدسي، تخفيف هيئة تحرير الشام لمبادئها الجهادية، وواصل في خطاباته التأكيد على فساد نهج أصحاب الديمقراطية الذين ضلّلوا وأضلّوا أتباعهم، مؤكداً على الولاء والبراء وإرساء أسس التوحيد فوق كل شيء، إذ يرى تطبيق الحكم الإسلامي أولويةً تتقدم على إعادة الإعمار.
ولم يستطع احتواء غضبه من تصرفات أحمد الشرع الأخيرة، فنشر في 20 كانون الأول/ ديسمبر 2024، على موقع "X"، مقطع فيديو لإجابة الشرع عن سؤال عما إذا كان ينوي أن تصبح سوريا دولةً ديمقراطيةً، متسائلاً: "أليس هذا هو حكم الديمقراطية الصريح؟ أن تكون الحاكمية للشعب يختارون وفقاً للأغلبية من يحكمهم ولو كان علمانياً يحكم بقوانين وضعية. هل هذا حقّهم في الشرع؟ أم في ديمقراطية أحمد الشرع؟".
ويسعى المقدسي، إلى تقويض ما يقوم به الشرع كشكل شرعي للحكم، ويرى أن المسار الذي يسلكه لا يمكن أن يؤدي إلى حكم الشريعة وبناء الدولة الإسلامية، بل يصل إلى أنّ ما يقوم به الشرع يضعف مفهوم الجهاد بشكل عام، إذ يرى أنه ارتكب خطايا لا تُغتفر في إقراره الضمني بقبول "الديمقراطية كإجراء"، وعدم استعداده حتى الآن لتطبيق الشريعة.
وتابع المقدسي، في منشورات أخرى اتهاماته للشرع بمجموعة من الأفعال الانتهازية، إلى درجة اتهامه باستغلال دماء المجاهدين للوصول إلى القصر الرئاسي بدلاً من أن تكون ثمناً لتطبيق الشريعة. وقد نقل العديد من الجهاديين حججاً مماثلةً، ورأوا انتصار دمشق منزوعاً من الولاء والبراء، وانتصاراً بنكهة علمانية، فضلاً عن الاتهامات بالترقيع العقدي.
فتح الخمّارات يثير غضب الجهاديين من الشرع
أيضاً في 14 كانون الأول/ ديسمبر 2024، أثارت تقارير إعلامية غضب الكثير من الجهاديين بعد الكشف عن إعادة فتح حانات دمشق. ووفقاً لهذه التقارير، ظلّت الحانات مغلقة لمدة أربعة أيام عقب دخول قوات المعارضة إلى العاصمة، لكن ذلك كان بدافع الخوف وليس نتيجة حظر رسمي. وبمجرد أن تلقّى أصحاب الحانات تطمينات من السلطات الجديدة تؤكد لهم حرية مواصلة أعمالهم كالمعتاد، استأنفوا نشاطهم.
كذلك، في مقابلته مع "بي بي سي"، في 19 كانون الأول/ ديسمبر 2024، سُئل الشرع عما إذا كان سيحظر بيع واستهلاك الكحول، فأجاب بأنّ هناك العديد من القضايا لا يحقّ له أن يتحدث عنها لأنها مسألة قانونية، وأضاف أنها من اختصاص لجنة الخبراء المكلفة بصياغة الدستور الجديد.
أثارت تصريحات الشرع هذه ما يمكن تسميته "حرباً أهليةً جهاديةً"، إذ كان ردّ المقدسي قاسياً فاعتبر أنّ لسان الشرع أصبح مقيّداً حتى في مسألة الخمر. وعلى نحو مماثل، أثار هذه النقطة هاني السباعي، الذي يُعدّ قريباً من المقدسي من الناحية الأيديولوجية، وتساءل في خطبة الجمعة في 20 كانون الأول/ ديسمبر 2024: "هل وصل الرعب من الغرب إلى درجة أننا سنشكّل لجنة من خبراء القانون؟".
ونشر طارق عبد الحليم، الباحث الجهادي المصري، على حسابه في منصة "X"، عن إعادة فتح الحانات في دمشق، قائلاً: "ماذا يحدث في سوريا؟! أهي دولة علمانية كفرية أم إسلامية شرعية؟".
كذلك، وُجّهت انتقادات للشرع بسبب شكره دولة قطر ودول أخرى، بحجة أنّ حكامها يعادون الإسلام ويشنّون حرباً عليه. وفي الأول من كانون الثاني/ يناير 2025، شنّت وسيلة إعلامية موالية للقاعدة هجوماً على الشرع بسبب تهنئته المسيحيين بالعام الجديد.
الحفاظ على المحبّة!
مع ذلك، أكّد رجال دين مرتبطون بهيئة تحرير الشام، أنّ الاحتفال بأعياد الميلاد وتقديم التهاني أو الهدايا محرّمان، ونشر المسؤول الديني الرئيسي في الهيئة، عبد الرحيم عطون، منشوراً على "تيليغرام"، حذّر فيه المسلمين من الاحتفال بعيد الميلاد أو تقديم التهاني.
في المقابل، حاول عبد الله المحيسني، المقرب من العديد من الجهاديين السوريين، الدفاع عن الشرع والتأكيد على واجبات المرحلة، وكرّر كلمات الشرع نفسها: "الحرص على الحفاظ على المحبة التي اكتسبناها حتى لا ننتج جيلاً منافقاً"، وأشار في أكثر من منشور على منصة "X"، إلى أنّ الإدارة الجديدة لديها قضايا أكبر للتعامل معها.
فجّرت عودة الحانات للعمل في دمشق بعد التحرير الغضب الجهادي، واعتُبرت دليلاً على تهاون السلطة الجديدة بالشريعة. وعلّق الجهادي طارق عبد الحليم: "أهي دولة علمانية كفرية أم إسلامية شرعية؟".
كذلك، كتب الشيخ مظهر الويس، أحد المقرّبين من الشرع، منشورات كثيرةً حذّر فيها من إثارة الخلافات والفتن الفكرية التي تهدد "وحدة الصف الثوري"، وتستنزف طاقات السوريين في معارك جانبية لا تخدم الصالح العام. ودعا إلى وحدة الصف ومراعاة واجبات المرحلة الحالية، وتقديم المصلحة العامة فوق كل اعتبار.
لكن الأمر لم يكن بهذه البساطة بالنسبة لأولئك الجهاديين الذين يدورون في فلك المقدسي. وردّاً على ما سبق، ألّف المقدسي الأكثر عناداً، مقالاً بعنوان "التنبيه على كلمة فاسدة مميعة للدين تبرر تعطيل أحكام الشرع وتحكيم القوانين"، وانتقد ما أسماه "الفذلكات الساقطة" التي يكررها قادة الثورة وشيوخهم في سوريا. وكانت حجته الرئيسية، كما يكشف عنوان المقال، أن مثل هذه الكلمات كـ"التدرج" و"واجبات المرحلة" تعطّل الشريعة.
في المقابل، كان أبو قتادة وتلميذه البار أبو محمود أكثر دبلوماسيةً في التعامل مع "فتح دمشق"، فقد أشاد أبو قتادة بأحمد الشرع وسلّط الضوء على العديد من الجوانب المثيرة للإعجاب في نهجه. وفي منشور له على منصة "X"، ألمح إلى أنّ التجربة السورية مثال مهم ويستحق الدراسة، إذ قال: "نحن أمام حالة جديدة وقد صارت دولة عظيمة بيد شباب الإسلام، فهلا تعاملنا معها بالعقل والحدب والصدق مع الله؟".
من الواضح أنّ الشرع يتبع نهجاً أكثر تدريجيةً في أسلمة الدولة والمجتمع السوري، ولا يتحرك وفق التوليفة التي وضعها الجهاديون التقليديون، بالإضافة إلى أنّ رؤيته لكيفية حكم سوريا ما بعد الأسد، والشكل الذي ينبغي أن تتخذه الدولة الجديدة، والعلاقات مع الخارج، لا يتقبلها عموم الجهاديين التقليديين بسهولة. وربما يقوم أيضاً بإعادة اختراع نهج جديد للإسلام السياسي.
لذا، إحدى النقاط المهمة الأخرى التي أثارها كثيرون، ومنهم السباعي، هي موضوع التدرج في الشريعة. قال الأخير: "هل البعث والعلمنة والشيوعية عرضوا على الشعوب التدرج أم حكموا بالقوّة؟".
وترددت آراء السباعي، بكثرة في الأوساط الجهادية في الشرق والغرب. ففي أوائل عام 2025، نشر رجل الدين المقيم في ميشيغان، أحمد جبريل، مقطع فيديو حثّ فيه المجاهدين السوريين على تطبيق الشريعة الإسلامية على الفور، وانتقد ما يُقال بشأن التدرج.
الخوف من الحاكم
ولتأكيد صحة موقف هذا التيار، استشهدوا بقول مأثور يُنسب إلى اثنين من الخلفاء الأوائل، يقول: "إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن"، ومعناه أن الناس يرتدعون عن ارتكاب المنكرات خوفاً من الحاكم أكثر من خوفهم من الله. وعلى هذا الأساس، وكما زعم المقدسي، كان من الملائم أن يفرض أحمد الشرع، تطبيق الشريعة على رعيّته.
مع ذلك، يُلاحظ أنّ تيار أبي قتادة الفلسطيني وتلميذه أبي محمود، بدأ يقدّم دعماً أيديولوجياً للمشروع السياسي لأحمد الشرع، الأمر الذي أفقد المقدسي وغيره من صغار المنظرين الكثير من التأثير، برغم أن آراء المقدسي في ما يتعلق بالولاء والبراء لا تزال تحظى بشعبية كبيرة بين الجهاديين. ومن المحتمل أن يكون أبو قتادة وآخرون قد فضّلوا نهج أحمد الشرع، وكما يتكهن أبو قتادة وتلميذه، فهذه مناورات وخطوات سياسية لتحقيق مصالح أكبر.
إن الفكرة التي يمثلها أبو قتادة وأتباعه، تنطلق من فرضية أن نموذج الجهاد الذي يدعو له المقدسي، والذي يرتكز على الهوس بالنقاء الخالص للتوحيد، قد فشل إلى حدّ كبير. بل إن أبا قتادة أعرب عن أسفه لأن "بعض الجهاديين الذين اتّبعوا المقدسي عزلوا أنفسهم عن المجتمع الإسلامي الأوسع".
وفي إطار تطوير هذه الفكرة، كتب أبو قتادة مؤخراً عن ضرورة فتح قلوبنا لكل مسلم، وأكد أيضاً على أهمية قبول الواقع والتعامل معه. بل إنّ أبا قتادة أبدى استعداداً للتغاضي عن أخطاء المجاهدين في الشام، وقد أظهر رباطة جأش وأقصى درجات الاتزان مع استفزازات مخالفيه. مع ذلك، امتنع المقدسي عن دحض شخص أبي قتادة بشكل مباشر، لكنه انتقد أفكاره الجديدة في مناسبات متعددة.
قد يبدو المقدسي مكتئباً في بعض الأحيان، وقد ندب حاله ورأى أنّ الأيام دائماً ما تثبت صحة آرائه بعد كل شيء، ويقول: "تاجر البندقية ليست روايةً خياليةً... هي حقيقة كل من يرهن بندقيته للداعم، ويختمها بصناديق الاقتراع وتحكيم القوانين. تجار البندقية في زماننا كُثُر: سياف، رباني، حكمتيار، شيخ شريف، وغيرهم كثير... وهؤلاء أدبرت فتنتهم فانكشفوا، فلا تنخدع بفتنة مثلهم في إقبالها".
الاغتراب المتزامن... نظرية المؤامرة
على غرار انتقاداته السابقة، اتخذ تنظيم الدولة، إلى جانب فروعه في إفريقيا والساحل وأفغانستان، موقفاً معادياً للغاية تجاه تحرير دمشق. إنّ تنظيم الدولة على الأرجح غير مسرور بتحرير دمشق، لذا لم يُبدِ أي فرح على الإطلاق، حتى بتحرير المعتقلين من سجون نظام الأسد.
الشرع حظي ببعض المدافعين عنه، مثل تيار أبي قتادة وتلميذه أبو محمود، واعتبر هذا التيار أن التجربة السورية "صارت دولة عظيمة بيد شباب الإسلام"، داعياً إلى فهم الواقع ومناورته، على عكس تيار المقدسي الذي تمسك بالنقاء العقدي. وهي خلافات تعكس الانقسام العميق بين الواقعية البراغماتية والصرامة الأيديولوجية داخل الجهادية المعاصرة
كانت استجابة تنظيم الدولة للأحداث السورية مبكرةً ومكثفةً للغاية، إذ سلّط الضوء في كل أسبوع على زاوية جديدة. وفي افتتاحية صحيفته الأسبوعية "النبأ"، في عددها 473، طرح رؤيةً مثيرةً حول تحرير سوريا، إذ اتّهم الجهاديين السوريين بالتدجين والانصياع لمصالح القوى الدولية، عادّاً أنّ تحرير دمشق نتيجة تفاهم دولي.
لقد هاجم هيئة تحرير الشام والجهاديين السوريين، وزعم أنّ من يتواجدون في سجني "غويران" و"الهول"، هم من أسقطوا نظام الأسد. في الواقع، لم يُخفِ تنظيم الدولة صدمته النفسية واستعاضته عن تحرير سوريا، ومع ذلك لم يستطع إدراك عجزه، فلجأ إلى نظرية المؤامرة، كما يتضح من كلمته التالية: "إن ما حدث عملية إبدال مدروسة للنظام النصيري بنظام جديد يحارب الشرع بالشرع".
يعتقد تنظيم الدولة أنّ هدف تحرير دمشق هو احتواء المجاهدين الحقيقيين، ويرى أن الفصائل السورية حوّلت الجهاد إلى أداة لخدمة مصالح القوى الدولية. كما تصوّر وسائل إعلام التنظيم، بشكل روتيني، الفصائل السورية باعتبارها جماعات قوميةً ومنحرفةً عقائدياً. ونشرت العديد من القنوات الإعلامية غير الرسمية المؤيدة لتنظيم الدولة رسائل على منصات مختلفة تذكر وتكرّر المعلومات التي نشرها التنظيم سابقاً على قنواته الرسمية.
وفي محاولته لتبرير ما فشل في تحقيقه، عزل تنظيم الدولة نفسه عن الآخرين، وحاول التأكيد على أنه الحصن الأخير للعقيدة في مواجهة المؤامرات الدولية، وبأنه لا يقاتل بناءً على أهواء دول أخرى. وبالنسبة إلى تنظيم الدولة، فإنّ الصراع في سوريا يدخل في إطار حرب أوسع بين الإسلام والنظام الدولي، وتابع التنظيم أنه سيقف في طريق "سوريا الحرة" حتى يتم تأسيس الحكم الإسلامي الحقيقي في جميع أنحاء البلاد.
الجهاديون الصاعدون... إعادة تموضع
كانت الثورة السورية منذ بدايتها سبباً رئيساً في انقسام الجهاديين، واليوم تبهر عيون الجهاديين حول العالم. فكما يتبيّن مما سبق، هذا النصر السوري لم يخمد بريقه، ولا يزال يؤثر بعمق على الجهاديين، حتى الحركات التي تقع في آسيا كطالبان باكستان، لدرجة أن بعضهم يفكر في خوض التجربة استناداً إلى ما تم تحقيقه في سوريا.
وتدلّ النقاشات المستعرة الآن على أنّ التجربة الجهادية السورية ستصاحبها تغيّرات ومراجعات للعديد من الجهاديين، في ما يتعلق بالمنهجية، والفقه، والنظرية السياسية. وبينما يسعى بعض الجهاديين إلى الاستفادة من التجارب الأخرى، ومراجعة إستراتيجيتهم، وإعادة التكيف مع الواقع الجديد، والسعي إلى إعادة التموضع، كما في حالة تنظيم "حراس الدين" وبعض الحركات في القرن الإفريقي ومنطقة الساحل، يتمسّك آخرون بالنهج القديم ويبتعدون أكثر عن أي رؤية إستراتيجية.
من المحتمل أن تدفع التجربة السورية العديد من الحركات الجهادية إلى ترجيح البعد الوطني على الطابع الأممي، والتكيف مع التحولات الميدانية والسياسية في مناطقهم. ويبدو أن التنافس بين الجهاديين الواقعيين والعقائديين سيكون العامل الحاسم في تشكيل المشهد الجهادي خلال السنوات القادمة. فهل ستتغلب المصالح الإستراتيجية على الأيديولوجية الجهادية التقليدية؟
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومهذا ليس طبيعيا، وهو ينشئ في الحالات القصوى من اضطرابات ومشاكل نفسية. الإنسان العاقل عندما يواجه...
مستخدم مجهول -
منذ يومAnyone that studies human psychology and biological functioning of the body and it's interactions...
مستخدم مجهول -
منذ يوم'لا يسخر قوم من قوم', لا أذكر هذه العنصرية عندما كنت في المدرسة في الجنوب.
للأسف أن المعتقد...
Mohammed Liswi -
منذ 3 أيامعجبني الموضوع والفكرة
Ahmed Alaa -
منذ 4 أياملا حول ولا قوة إلا بالله
Hossam Sami -
منذ أسبوعالدراما المصرية فـ السبعينات الثمانينات و التسعينات كانت كارثة بمعنى الكلمة، الأغلبية الساحقة م...