تبدو غزة حالياً أشبه ما تكون بشخص يخضع لعملية جراحية دون تخدير، وبينما هو ممدد على طاولة الجرّاح وتحت السكين، يستمع إلى كل النقاشات التي يجريها الأطباء عن خطورة أي قرار، وعن احتمالات البتر، وعن ضرورة العملية للمستقبل.
لقد أعادت إسرائيل والولايات المتحدة توجيه بوصلتهما نحو غزة ليس فقط كمعقل يجب نزعه من قبضة حماس، بل أيضاً كخزان غاز واعد يمكن أن يخدم خطط التنمية الإقليمية إذا أُحسن توظيفه. وكأهم موقع استراتيجي على المتوسط. بهذا المعنى، يمكن القول إنّ غاز غزة أضحى محوراً أساسياً ضمن إستراتيجيات ما بعد الحرب.
في هذا السياق تحديداً، يمكن فهم تصريحات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب -المستعجلة- حين تحدّث عن تحويل غزة إلى منطقة حرّة بينما هي تعاني من الإبادة والدمار والتجويع.
فبحسب تصريحاته، سوف تُصاغ غزّة كمنطقة حرّة تُدار بمرجعيّة أمنية–مدنية مشتركة تُخفَّف فيها قيود الجمارك والحركة وتُفتح للاستثمار السريع، على أن تُربَط وظيفياً بجناح الطاقة في الممر الهندي-الشرق أوسطي-الأوروبي.
يبدأ ذلك بتطوير حقل غزة مارينا ومدّ وصلة بحرية قصيرة إلى العريش، حيث تُعالَج الإمدادات وتُسيَّل في إدكو/ دمياط لإعادة تصديرها نحو أوروبا ضمن سلاسل الممر الهندو-أوروبي، فيما يُخصَّص جزء من الغاز لتشغيل محطة كهرباء وتحلية داخل القطاع ومجمّعات صناعية خفيفة تخلق فرص عمل وتُثبّت الاستقرار الاقتصادي.
هكذا تتحوّل إلى "المنطقة الحرّة" التي تحدث عنها ترامب. وتنتقل من منطقة مدمرة تطوف فيها أشباح الموتى وآلام الأحياء إلى واحة رفاهية كما قال! وإلى عقدة طاقة ولوجستيات تعتمد على مصر كمركز تسييل وتصدير، وتستند إلى ترتيبات عبورٍ وتعهّدات أمن (وقف إطلاق نار طويل، إدارة تكنوقراطية/ دولية انتقالية، ومراقبة للمعابر)، تجعل تدفّق الطاقة والسلع ممكناً، وتوفّر حوافز مادية للأطراف المتنازعة كي تُبقي خطوط الغاز والميناء التجاري قيد العمل، وتستأنف لاحقاً الالتحام بشبكات النقل الأوسع للممر الهندو-أوروبي.
في ضوء ما سبق، تبرز تساؤلات الـ"كيف" وليس الـ"ماذا" التي يجهزها المجتمع الدولي لغزة، عن كيفية إدماجها مستقبلاً، وغسل ذاكرتها، بحيث تتحول من "منطقة صراع" إلى عقدة اقتصادية/ طاقية مهمة. فهل سيتمكن العالم من تسمية غزة كقربان للسلام؟ وتجاوز مقتلة العصر وحرب الإبادة التي بُثّت على الهواء مباشرة إذا كانت ثمناً للرفاه الاقتصادي الإقليمي وحتى العالمي؟
كيف بدأت القصة؟
شهدت منطقة الشرق الأوسط تطوراً جيوسياسياً بارزاً في أيلول/ سبتمبر 2023، أي قبل شهر واحد من أحداث السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، بإعلان مشروع الممر الاقتصادي الهندي-الشرق أوسطي-الأوروبي (IMEC)، الذي صار يسمى اختصاراً بـ"الهندو-أوروبي"، وذلك على هامش قمة العشرين G20 في نيودلهي.
المشروع الطموح يهدف إلى ربط الهند بأوروبا عبر الشرق الأوسط، من خلال شبكات سكك حديدية وموانئ وخطوط طاقة رقمية وخضراء، بما في ذلك خط أنابيب للهيدروجين وممرات نقل سريعة.
لكن المشروع تطلّب كمرحلة استباقية تكثيف جهود تطبيع العلاقات بين إسرائيل ودول عربية عدة، خاصةً المملكة العربية السعودية، باعتباره شرطاً مسبقاً لإنجاح مسار الممر عبر الأراضي الإسرائيلية والخليجية. في هذا السياق الهادئ، تفاجأ العالم بالسابع من أكتوبر، عندما شنّت حركة حماس هجوماً مفاجئاً على إسرائيل، ما أدى إلى قلب موازين المنطقة وتعطيل مسارات التطبيع والمشاريع الإقليمية الناشئة، وهو ما صبّ بشكل غير مباشر في مصلحة الثالوث الداعم لحركة حماس: إيران، قطر، وتركيا.
جمّد السابع من أكتوبر مسار التطبيع الإسرائيلي العربي، الذي كان شرطاً موثّقاً قبل البدء بمشروع الممر الهندو-أوروبي، الأمر الذي صبّ لصالح الممر المنافس القطري التركي، والذي يُعرف باسم "طريق التنمية" ويمرّ عبر العراق وتركيا بمشاركة قطرية
لقد أثارت الورقة الأولى للمشروع، واقتصار الشراكة الإقليمية على الهند، الولايات المتحدة، السعودية، الإمارات، فرنسا، ألمانيا، إيطاليا والاتحاد الأوروبي، تحفظات قويةً لدى بعض القوى الإقليمية التي استُبعدت من المشاركة فيه. تشير التحليلات إلى أنّ تركيا وإيران وقطر أبرز الدول التي شعرت بالاستبعاد أو التهديد من هذا الممر الجديد. وقد عبّرت كل دولة من هذه الدول عن أسباب إستراتيجية لمعارضتها المشروع، على النحو التالي:
تركيا: "لا ممرّ من دون تركيا"
رأت تركيا في المشروع التفافاً على دورها التاريخي كجسر يربط آسيا بأوروبا. أعلن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، صراحةً، رفضه المسار بصيغته المعلنة، مؤكداً موقفه بعبارة: "لا ممرّ دون تركيا".
هذا التصريح يكشف شعور أنقرة بأنّ استبعادها من المشروع يقوّض أهميتها الإستراتيجية كمركز لوجستي ومحور نقل عالمي بين الشرق والغرب، حيث تعدّ تركيا أنّ أيّ ممر اقتصادي إقليمي لن يُكتب له النجاح دون مشاركتها، وقد عدّت إغفال دورها إهانةً لمكانتها ومصالحها. كذلك ترى أنقرة أنّ موقعها الجغرافي وخبرتها في مشاريع البنية التحتية تؤهلانها لتكون شريكاً مؤسساً في أي خطة ربط بين آسيا وأوروبا.
إيران… محاولة لعزلنا
تنظر إيران إلى مشروع IMEC بعين الريبة، إذ تعدّه محاولةً لعزلها عن طرق التجارة الدولية وتعزيز تحالفات مناوئة لنفوذها الإقليمي، فعبر تجاوز إيران وحلفائها جغرافياً، سيؤدي الممر إلى تهميش المحور البرّي الذي روّجت له طهران مع موسكو (مشروع ممر الشمال-الجنوب عبر إيران وروسيا).
وقد صرّح المرشد الأعلى محذّراً منه، وأسماه بـ"المخطط الغربي–العبري" لتحويل إسرائيل إلى بوابة لتصدير الطاقة من المنطقة إلى الغرب واستيراد السلع والتكنولوجيا منها، كما ربط سلوك إسرائيل في حرب الإبادة بالمشروع، بوصفه "أداةً لتمكين إسرائيل كعقدة طاقة وتجارة".
قطر… الاعتراض الصامت
هي أيضاً مستبعدة كإيران وتركيا من "مذكرة التفاهم الأصلية"، والتي تحدد الشركاء المؤسسين. ناهيك أن لديها اعتبارات خاصة؛ فقطر وتركيا كانتا بالفعل قد بدأتا بشراكة ضخمة -بمشاركة إماراتية أيضاً- في ممر آخر بالتوازي، يُعرف باسم "طريق التنمية" (Iraq Development Road)، ويمرّ عبر العراق وتركيا بمشاركة قطرية، وهذا الطريق يُنظر إليه كخيار إقليمي من داخل المنطقة بعيداً عن الهيمنة الإسرائيلية، ويعزّز شراكة أنقرة-الدوحة.
بالفعل، حضر وزير المواصلات القطري اجتماع بغداد 2023، لتوقيع اتفاق طريق التنمية مع الرئيس أردوغان، ما يدلّ على انخراط قطر في دعم ممر منافس. فالمعارضة القطرية تأتي من كون الهندو-أوروبي يخدم محوراً إقليمياً مناوئاً لها، أو منافساً على أقل تقدير (يضم السعودية والإمارات وإسرائيل)، ما يهدّد بتقليل دورها كلاعب لوجستي ومالي مهم.
ومع هذا، فقد ظهرت دراسات تحذّر من أنّ استبعاد قطر ومصر وتركيا وإيران يثير شكوكاً حول قابلية المشروع للاستمرار على المدى الطويل، إذ إن نجاح مشاريع الربط الكبرى يتطلب بيئة تعاون إقليمي شامل، وهو ما يغدو صعباً في ظل انقسام المحاور الحالي.
السابع من أكتوبر وتعطيل الممر
تحليلات سياسية كثيرة ربطت السابع من أكتوبر بالممر، كالتي نشرتها صحيفة "هندوتايم"، بأنّ "هجوم حماس واسع النطاق يبدو موجهاً إلى تعقيد عملية التطبيع التاريخية بين إسرائيل والسعودية"، لتعطيل المشروع. كون الممر المزمع يتطلب تعاوناً غير مسبوق بين إسرائيل ودول الخليج لنقل البضائع والطاقة عبرها.
تقول نظرية "الاستثمار في الكارثة"، بأنّ الكوارث تتحول في النظام الرأسمالي المعولم إلى فرص استثمارية ضخمة للشركات العابرة للقوميات وللقوى الكبرى، فهل هذا ما ينتظر غزة؟
بالفعل، نصّت التفاهمات المبدئية (الموقعة في أيلول/ سبتمبر 2023)، على أنّ الربط بين الهند وأوروبا سيكون عبر خطّ يمرّ بالسعودية والأردن ثم إسرائيل (ميناء حيفا)، وهذا الافتراض يستلزم وجود علاقات طبيعية واتفاقات عبور بين الرياض وتل أبيب.
ويشير تقرير موسّع نُشر على "ناتوفاونديشن"، إلى أنّ الحرب وضعت مشروع IMEC برمته على الرف إلى أجل غير مسمّى، أي أنّ حركة حماس، من خلال حربها، نجحت فعلياً في إيقاف المسار السياسي (التطبيع) الذي يحتاجه الممر للمضي قدماً، وتمكنت من تجميد أكبر مشروع اقتصادي إقليمي في القرن كما وصفته قمة العشرين.
كما خلص تقرير لمجلس الشرق الأوسط، نُشر في شباط/ مارس 2025، إلى أنّ "غياب التهدئة المستدامة بين إسرائيل وحماس يهدد وجود مشروع الممر الهندو-أوروبي ذاته". بكلمات أخرى، أثبتت الحرب هشاشة أيّ خطة اقتصادية في غياب حلّ سياسي للقضية الفلسطينية وتحقيق العدالة التاريخية لهم.
فهل فعلاً انتهى مشروع الممر مع بداية الحرب؟ أم أنها بكل دمويتها وتوحشها خلقت تصوراً جديداً؟
إعادة تصدير غزة المدمرة كـ"فرصة ذهبية"
الاقتصاد أذكى من السياسة، وأكثر تسامحاً وأقدر على إيجاد حلول وإعادة "الاستثمار في الكارثة"، وهي نظرية المفكّرة الكندية ناعومي كلاين، التي وضّحتها في كتابها "The Shock Doctrine: The Rise of Disaster Capitalism".
ترى كلاين أنّ الكوارث (طبيعية، اقتصادية، أو حروب)، تتحول في النظام الرأسمالي المعولم إلى فرص استثمارية ضخمة للشركات العابرة للقوميات وللقوى الكبرى. فحين تكون الشعوب في حالة صدمة أو انهيار، وتحديداً بعد الحروب، تُفرض عليهم سياسات اقتصادية قاسية مثل الخصخصة الواسعة، تحرير الأسواق، وتقليص دور الدولة، وهي السياسات النيوليبرالية التي يصعب فرضها في الظروف الطبيعية بسبب المقاومة الشعبية.
حرب غزة فتحت شهية رأس المال هذا. بقعة لا تصلح للحياة، ثرية جداً بالغاز، تقع على ملتقى ثلاث قارات في البحر المتوسط، وهنا ظهر تحوّل في الأولويات لدى صانعي القرار في إسرائيل والولايات المتحدة نحو استغلال الموارد الطبيعية في غزة، وعلى رأسها حقل الغاز البحري قبالة سواحل القطاع (حقل غزة مارين)، لصالح إعادة إنعاش اقتصاد المنطقة، وتحديداً مشروع الممر، وجعله أكثر إغراء من ذي قبل.
هذا الحقل المكتشف منذ عام 1999، يحوي احتياطيات تُقدّر بنحو 1 تريليون قدم مكعب من الغاز، وظلّ غير مطوّر بسبب التعقيدات السياسية والأمنية طوال العقود الماضية. لكن الحرب غيّرت الحسابات على ما يبدو، وأصبحت مسألة الانتفاع بغاز غزة موضع اهتمام متزايد في خطط ما بعد الحرب لكل من إسرائيل وحلفائها.
تل أبيب لم تنتظر انتهاء المعارك تماماً، قبل أن تتحرك في هذا الملف. ما يترك علامة استفهام مريبة حول سرعة اتخاذ القرار وتنفيذه في بلد كإسرائيل، لا تمرّ القرارات الكبرى فيها بسرعة ومن دون معارضة ومراجعة وتنقيح.
الاستعجال الإسرائيلي يكشف الخطط غير المعلنة
فبعد أسبوعين فقط من بدء الحرب، وتحديداً في أواخر تشرين الأول/ أكتوبر 2023، منحت حكومة بنيامين نتنياهو بهدوء 12 ترخيصاً لست شركات طاقة إسرائيلية ودولية للتنقيب عن الغاز واستخراجه في البحر المتوسط، بما يشمل مناطق بحريةً محاذيةً لغزة، من بين هذه الشركات شركتا BP البريطانية وEni الإيطالية العملاقتان في قطاع الطاقة، إلى جانب شركات إسرائيلية.
غزة المدمّرة فتحت شهية رأس المال العالمي: بقعة لا تصلح للحياة، ثرية جداً بالغاز، تقع على ملتقى ثلاث قارات في البحر المتوسط، وقرب الممر المزمع. وإسرائيل لم تنتظر انتهاء حرب الإبادة فمنحت 12 ترخيصاً للتنقيب عن الغاز في شواطئ القطاع فوراً، ما يترك علامة استفهام مريبة حول سرعة اتخاذ القرار
منظمات حقوقية فلسطينية وإسرائيلية (مثل مركز عدالة)، اعترضت فوراً، وعدّت منح التراخيص استغلالاً إسرائيلياً واستعمارياً غير قانوني لموارد تقع ضمن مياه الفلسطينيين وقد وجّهت هذه المنظمات رسائل رسميةً للشركات الدولية محذرةً إياها من العمل في المناطق الواقعة ضمن حدود فلسطين البحرية بحسب قانون البحار، أي أنّ إسرائيل استغلّت أجواء الحرب ليس فقط لإضعاف حكم حماس، بل أيضاً للتحرك نحو السيطرة الفعلية على ثروات غزة الطبيعية.
بموازاة ذلك، برز دور الولايات المتحدة التي سعت إلى توظيف ملف الغاز في ترتيبات ما بعد الحرب، فكشفت تقارير إعلامية أنّ واشنطن خلال فترة بايدن تضغط على إسرائيل للسماح للفلسطينيين بالاستفادة من جزء من غازهم وتطوير منظومة طاقة مستقلة بعد انتهاء القتال، كما نشر موقع "آتموس إيرث"، تقريراً استقصائياً في نهاية 2023، نبّه فيه إلى أنّه على الرغم من أن الهدف الأمريكي المعلن هو تحسين اقتصاد غزة وخلق حوافز تنموية تحول دون عودة العنف، إلا أن الهدف الحقيقي هو تأمين مصدر طاقة إقليمي يمكن أن تخفف من اعتماد أوروبا على الغاز الروسي، وخلق عقدة طاقة قرب الممر.
هذا الموقف الذي يبدو منحازاً للفلسطينيين، ليس في الحقيقة إلا تضحية صغيرة تصبّ في نهاية المطاف في مصلحة إستراتيجية أمريكية أوسع: ضمان عدم ترك هذه الثروة لتكون ورقة بيد المحور المناوئ، أو سبباً لصراع مستقبلي.
كما أن هذه القناعة لدى واشنطن -المعلنة أو غير المعلنة- على اختلاف الإدارات لم تمنع من تصدير السلاح المستخدم في حرب الإبادة. فهل كان هذا الدعم العسكري جزءاً من مخطط تسريع تفريغ القطاع والبدء بالمشاريع العملاقة؟
انكشاف أهمية الغاز في الصراع ظهرت أيضاً من خلال تطورات الحرب ذاتها. فمع اندلاع القتال، أغلقت إسرائيل حقل "تامار" للغاز، وهو ثاني أكبر حقولها لدواعٍ أمنية، وتأثر إنتاجها مؤقتاً. كما تعرضت خلال الحرب ناقلات نفط وسفن تجارية لهجمات حوثية في البحر الأحمر. هذه الأحداث سلطت الضوء على تشابك أمن الطاقة مع النزاعات في المنطقة.
وبالنسبة لصنّاع السياسة في تل أبيب وواشنطن، عزز ذلك القناعة بضرورة تنويع مصادر الطاقة وتأمينها بعيداً عن نقاط الاختناق كهرمز وسواحل اليمن، ومن هنا يمكن فهم إعادة التركيز على غاز شرق المتوسط (بما فيه غزة): فشرق المتوسط بات مرشحاً بقوة ليكون بديلاً جزئياً لتعويض النقص في سوق الغاز الأوروبي بعد أزمة أوكرانيا، وإسرائيل تطمح منذ سنوات إلى أن تكون مصدّراً للغاز إلى أوروبا عبر خط الأنابيب البحري.
لذا فإنّ تطوير حقل غزة مارين وشمول غزة في مشاريع التصدير يتوافقان مع تطلعات إسرائيل الاقتصادية ويجدان دعماً أميركياً أوسع ضمن إستراتيجية "ممرات الطاقة البديلة" لأوروبا، ويسلبان حصةً كبيرةً من المال الأوروبي الذي يذهب للغاز الروسي لصالح الحليفتين تل أبيب وواشنطن، ولا مانع من مشاركة القليل من الأرباح مع الفلسطينيين إذا رضخوا للشروط الدولية كالتي وردت في مبادرة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب.
الاستثمار في غزة كعقدة طاقة يفسر أيضاً الاهتمام الفرنسي والإيطالي والأوروبي عموماً بالبدء بإعادة الإعمار. ليس البناء والخدمات فحسب، بل استخراج الغاز، وبناء المرافق الكبرى.
الاستثمار في غزة كعقدة طاقة مرتبطة بشكل مباشر في الممر الهندو-أوروبي يفسر أيضاً الاهتمام الفرنسي والإيطالي والأوروبي عموماً بوضع حدّ للحرب وتبني إعلان نيويورك، والإصرار على البدء بإعادة الإعمار. والمقصود بإعادة الإعمار ليس البناء والخدمات فحسب، بل بدء تنقيب واستخراج الغاز وتصديره، وبناء المرافق الكبرى.
غزة إذاً قادرة على إعادة إعمار نفسها بإيراداتها الفلسطينية فقط، من دون مؤتمر مانحين وقروض خارجية، فهل هذا ما سيحدث؟
غزة التي تملك مفاتيح الحرب والسلام
كانت إسرائيل قد أعطت "موافقةً مبدئيةً" قبل الحرب في حزيران/ يونيو 2023، لشركة مصرية (EGAS)، لتولّي تطوير حقل غزة مارينا، لكن الحرب جمّدتها. والآن، في حال انتهت الحرب، تطرح الرؤى المشتركة أن يتولى ائتلاف دولي يضمّ مصر والسلطة -بدعم مالي خليجي ربما- تنفيذ المشروع، على أن يتم تصدير جزء من الغاز عبر مصر (منشآت تسييل دمياط وإدكو) إلى أوروبا، وهنا يتم ضرب عصفورين بحجر، وتحقيق "إشراك مصر" بدلاً من استثنائها، وتركها معاديةً للمشروع نتيجة تخوفها من تراجع إيرادات قناة السويس.
وبحسب الاقتراح الأول، سيتم تخصيص جزء آخر لتوليد الكهرباء وتحلية المياه لغزة والضفة. مثل هذه الترتيبات لا تزال مجمدة أو قيد البحث، لكنها تؤكد أنّ غاز غزة أصبح على طاولة الحلول المطروحة لإعادة إعمار القطاع وتوفير مورد مالي للفلسطينيين، لكنه بالأساس تعظيم لفائدة إسرائيل وحلفائها من هذه الثروة المجمدة.
لذا فالتحوّل الأكبر بعد السابع من أكتوبر، هو في أنّ الأولوية كانت منصبةً قبل الحرب على مشاريع التطبيع والربط الإقليمي، وصارت بعد الحرب تأمين موارد الطاقة واستغلالها.
سيناريوهات إدماج "غزّة الجديدة"
في الأشهر الأخيرة، ظهرت مقترحات من مراكز أبحاث ومبادرات إقليمية ودولية تتصور دوراً محورياً لغزة في إطار الممر الهندو-أوروبي، وما شابهه من المشاريع التي يطلَق عليها "السلام الاقتصادي".
هذه المقترحات تستند إلى تحويل التحديات إلى فرص، عبر توظيف موقع غزة ومواردها لربطها بالمنظومة الإقليمية كحلقة وصل بدلاً من بقائها معزولة. في ما يلي أبرز المسارات العملية المقترحة لجعل غزة عقدة طاقة ولوجستيات متكاملة، وهي جميعها مطروحة بقوة وقيد الدراسة.
مشروع مثلث السلام
ربط غزة بشبكة الطاقة الإقليمية (كابل كهرباء وهيدروجين أخضر): يقترح مشروع "مثلث السلام" الذي طرحته منظمة EcoPeace Middle East، أن يتم إدماج غزة كنقطة تصدير للطاقة المتجددة ضمن الممر الهندو-أوروبي. الفكرة تقوم على إنشاء شبكة كهرباء إقليمية تربط بين مصادر الطاقة الشمسية والرياح الهائلة في صحراء السعودية والأردن، أي منطقة الشروق بالقرب من نيوم وبين أسواق الاستهلاك في أوروبا.
فقد أظهرت دراسة حديثة لـ"إيكو-بيس-مي"، أنّ هذه المنطقة قادرة على توليد ما يصل إلى 170 جيجاوات من الكهرباء النظيفة، تكفي لإمداد الأردن وفلسطين وإسرائيل بالكامل وتصدير الفائض لأوروبا، وذلك عبر كوابل كهرباء عالية الجهد وأنابيب للهيدروجين الأخضر من هذه المحطات عبر عُقد تصدير ثلاث: مصر وإسرائيل وغزة.
تتبنى أوروبا حالياً مبادرة "مثلث السلام"، والتي تقول بإدماج غزة كنقطة تصدير للطاقة المتجددة ضمن الممر الهندو-أوروبي. وإنشاء شبكة كهرباء إقليمية تربط بين مصادر الطاقة الشمسية والرياح الهائلة في صحراء السعودية-نيوم والأردن، وبين أسواق الاستهلاك الأوروبية
أي أنّ غزة بحكم ساحلها على المتوسط يمكن أن تكون ميناء لتصدير الكهرباء والهيدروجين إلى قبرص واليونان وإيطاليا ضمن شبكة IMEC للطاقة الخضراء، وقد أكدت الدراسة الاقتصادية والبيئية جدوى هذا التصور، مبينةً أنّ إضافة غزة كنقطة تصدير إلى جانب إسرائيل ومصر من شأنه "تحويل الاعتبارات الجيوسياسية والأمنية في المنطقة عبر خلق اعتماد متبادل إيجابي".
النظرية التي بُنيت عليها الدراسة تقول بأنّ هذا التكامل في الطاقة سيصبّ في تمكين دولة فلسطينية مستقبلاً من موارد مستدامة، وفي الوقت ذاته يساهم في تطبيع العلاقات الإسرائيلية-السعودية من خلال مشروع تنموي يشمل الجميع، وبكلمات أخرى، ربط غزة كهربائيًا بخطط IMEC ليس مستحيلاً بل خيار عملي مدروس يحقق مكاسب للجميع: تصدير الفائض الأوروبي، وتأمين الطاقة للإسرائيليين والفلسطينيين، وتعزيز السلام عبر الاعتماد الاقتصادي المتبادل.
ففي النسخة الأصلية من مذكرة التفاهم الخاصة بالممر كان المخطط أن تنتقل البضائع بحراً من الهند إلى موانئ الإمارات، ثم برّاً بقطارات عبر السعودية والأردن إلى ميناء حيفا الإسرائيلي، ومنه بحراً إلى أوروبا.
أما الرؤية الجديدة التي طرحها خبراء "مثلث السلام" وتبنتها مراكز دراسات أخرى، فتقترح توسيع الشبكة لتشمل غزة كمحطة نهائية/ إضافية على البحر المتوسط، أي بدل الاقتصار على ميناء حيفا الإسرائيلي، يُبنى ميناء حديث في غزة ويُربط بشبكة سكة حديد إقليمية تمتد من الخليج إلى الساحل الفلسطيني.
وبحسب الدراسة، فهذا المقترح ليس منطقياً فحسب، بل مطلوب بقوة، فقد قدّرت دراسات لوجستية أنّ حجم الشحن المتوقع عبر الممر عند نضوج المشروع سيتجاوز 10 ملايين حاوية سنوياً، وربما يصل إلى 25 مليون، وهذا يستدعي وجود موانئ شرق متوسطية عدة لتوزيع الحمولة. بناءً عليه، فإنّ إضافة ميناء غزة إلى جانب حيفا (بل حتى موانئ بيروت وطرطوس مستقبلاً)، المطروحة في الدراسة نفسها، ستكون خطوةً إستراتيجيةً لاستيعاب هذا الحجم.
بالإضافة إلى جعلها منطقةً حرةً، ومركزاً للغاز، هناك خطة مطروحة تربط مصر والسلطة الفلسطينية بتمويل خليجي لتخصيص جزء من الطاقة للكهرباء وتحلية المياه داخل القطاع والضفة.
مثل هذا الربط سيتطلب مدّ خط سكة حديد من الشبكة القائمة في إسرائيل إلى قطاع غزة، وكذلك تطوير المعابر بين الأردن وإسرائيل وبين إسرائيل والأراضي الفلسطينية لضمان انتقال سهل للبضائع، وتتوقع الدراسة في حال تم تطبيق الشروط المذكورة تحويل غزة إلى مركز تجاري عالمي يستقبل البضائع من آسيا ويعيد تصديرها.
معهد دراسات اقتصادية آخر تبنّى الفكرة ذاتها، وهو "بالسيلي" الكندي، المتخصص في اقتصاديات ما بعد الحروب، إذ يوصي بقوّة في تقرير له بأنّ تطوير ميناء غزة الجديد وربطه بالممر الدولي سيؤديان إلى "إعادة بناء البنية التحتية وخلق عشرات آلاف الوظائف وإنعاش اقتصاد غزة"، ما يساعد في معالجة جذور عدم الاستقرار كالبطالة والفقر، وجاء فيه: "بهذا، تتحول غزة من عبء إنساني إلى رافعة تنموية تربط الشرق بالغرب، ويصبح انخراط سكانها في الاقتصاد العالمي عاملاً لتقليص الاعتماد على المساعدات أو التشدد المسلح".
في موازاة ذلك، ظهرت صيغة تشغيلية قيد النقاش تُشرك مصر والسلطة الفلسطينية، بتمويل خليجي ربما بتخصيص جزءٍ للتوليد الكهربائي المحلي وتحلية المياه لقطاع غزة والضفة. هذا المنطق يرد في أوراق سياسات دولية، فمعهد الولايات المتحدة للسلام يرى أن تحويل توليد الكهرباء في غزة من الديزل إلى الغاز سيؤمن إمداداً أكثر موثوقية ويخفض التلوّث، ويمكّن بالتبعية محطات التحلية من العمل بإيقاع مستقر، فيما تطرح ورقة "بالسيلي" ربط هذا كله بالممر الهندو-أوروبي على هيئة شبكة طاقة–مياه إقليمية "تخلق اعتماداً متبادلاً محلياً.
جزء “التحلية” تحديداً يتقدّم كركيزة مكمّلة للغاز داخل نموذج الماء–الطاقة: فعملية التحلية تحتاج إلى طاقة ثابتة ونظيفة نسبياً، والغاز المورَّد لغزة يوفّرها، بينما تعزّز مشاريع الربط المائي–الكهربائي الإقليمي قابلية التشغيل المستدام. هذا الاتجاه تعززه مبادرات حديثة.
الخلاصة أن مسار "غزة–الغاز–التحلية" يتحرك على خطّين متوازيين: تقني تشغيلي، يقوم على تغذية كهرباء موثوقة لمحطات التحلية وربطها بنظام إقليمي للطاقة والماء، وسياسي قانوني، يسعى لتثبيت شراكة ثلاثية عبر مصر والسلطة مع ضمان حصة فلسطينية واضحة من العوائد.
من يمنع كل ما سبق؟
هكذا يرى العالم غزة بعد الحرب، أو يمكن القول بعد حماس، كفرصة ذهبية مؤجلة لربط الشرق بالغرب بدون مبالغة، بطبيعة الحال، هذه الرؤية تفترض شروطاً سياسيةً وأمنيةً لتحقيقها، مثل تثبيت وقف إطلاق نار طويل الأمد، وترتيبات حكم انتقالية في غزة (ربما بإشراف دولي)، وضمانات أمنية لجميع الأطراف، وتحقيق سلام عادل للفلسطينيين داخل دواتهم المستقلة.
هذه الخطط ليست مجرد أفكار، فقد باتت موجودةً ومطروحةً للنقاش في أروقة صنع القرار. فالاتحاد الأوروبي بدأ يتبنى مفهوم "مثلث السلام" في إستراتيجيته الجديدة للمتوسط، والولايات المتحدة تراه مكمّلاً لمبادراتها (منصة I2U2)، التي تجمعها مع الهند وإسرائيل والإمارات، وتحجّم من النفوذ الروسي الممتد بين آسيا وأوروبا.
استخدام مصطلحات السلام والاقتصاد والرفاه خلال الإبادة، يخفي تحته قبحاً شديداً عن قدرة العالم وصنّاع القرار على التغاضي عن المجازر اليومية مقابل تهيئة الأرض لمشاريع كبرى، وعن عجز الإنسان الفرد عن الوقوف في وجه حركة المال، والأسوأ أنّ المستقبل الأفضل -إن حدث- سيقوم فوق مقبرة مهولة اسمها "غزة"
حتى دول مثل إيطاليا وفرنسا وألمانيا أبدت اهتماماً بإدراج عنصر دمج غزة في الممر، أي أنّ الفكرة لم تعد نظريةً بحتةً، بل أضحت اتجاهاً ناشئاً في الدبلوماسية الدولية: تحويل مأساة غزة إلى فرصة لإعادة بنائها كمركز مزدهر ضمن مشروع الممر الاقتصادي العالمي.
لقد بات ترابط السياسة بالاقتصاد أوضح من أي وقت مضى في قضية غزة والممر الهندو-أوروبي؛ فالحروب والتحالفات لم تعد معزولةً عن خطوط الأنابيب ومسارات القطارات. وفي ظلّ عالم يبحث عن ممرات جديدة ومصادر طاقة بديلة، ربما تكون غزة بالتحديد هي القطعة المفقودة التي يمكن أن تتحول من نقطة انفجار إلى نقطة اتصال.
لكن كل ما سبق مرتبط بحلّ سياسي مستدام، واستكمال مشروع الدولة الفلسطينية القادرة على توقيع الاتفاقيات والالتزام بتعهدات قانونية دولية اقتصادية وسياسية، الأمر الذي بات مرهوناً لإرادات دول أخرى، وكذلك بقدرة الفلسطينيين على التحكم بمواردهم، أو في هذه الحالة بجزء منها، لذا يرى كثير من المحللين أنّ الخطط السابقة بعيدة عن الواقع حالياً، في ظل حرب الإبادة الإسرائيلية على غزة، ومحاولات ضم الضفة الغربية.
كل ما سبق يبدو منفصلاً عن الواقع، أو غير مراعٍ له، والاستعجال باستخدام مصطلحات السلام والاقتصاد والرفاه والأمن الإقليمي، تخفي تحتها قبحاً شديداً عن قدرة العالم وصنّاع القرار على التغاضي عن المجازر اليومية مقابل تهيئة الأرض لمشاريع كبرى، وعن عجز الإنسان الفرد عن الوقوف في وجه حركة المال، وعن التباهي بدعم وقف إطلاق النار من منطلق إنساني بينما الغايات اقتصادية سياسية، والأسوأ أنّ المستقبل الأفضل -إن حدث- سيقوم فوق مقبرة مهولة اسمها "غزة".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.