فور دخول وقف إطلاق النار في قطاع غزة حيّز التنفيذ، سيطرت على المشهد العام حالة من الفوضى الأمنية والسياسية، في ظلّ مرحلة دقيقة ومعقدة، فعملت حركة حماس على إعادة فرض قبضتها الأمنية وسلطتها وسيطرتها مباشرةً من خلال نشر عناصر الشرطة والأمن الداخلي التابعة لها في التجمعات السكانية التي انسحب منها الاحتلال.
تزامن مع ذلك انتشار مقاطع فيديو عبر مواقع التواصل الاجتماعي لعمليات إعدام وقتل لمواطنين مكتوفي الأيدي ومعصوبي الأعين في الميادين والساحات العامة من قبل ملثّمين يرتدون عصابات رأس خضراء كالتي يرتديها عناصر حماس، وظهروا وهم يطلقون النار من بنادق رشاشة على ما لا يقلّ عن سبعة رجال بعد إجبارهم على الركوع في الشارع.
المشاهد أثارت تساؤلات كثيرةً وحادّةً حول مدى شرعية هذه الإجراءات قانونياً وسياسياً، ومدى انسجامها مع مبادئ العدالة الانتقالية لمرحلة ما بعد الحرب، حيث أفادت مصادر محلية في قطاع غزة بأنه تم إعدام نحو 30 فلسطينياً في تلك الأحداث.
مشاهدَ تشوّه صورة الضحية ونضالها المشروع
أوردت صحيفة القدس الفلسطينية في افتتاحيتها، مقالاً لرئيس تحريرها إبراهيم ملحم، يصف فيه المشهد المأساوي في قطاع غزة بقوله: "صادمة ومرعبة تلك المشاهد المتدفقة بالصور الثابتة والمتحركة، الطالعة من إحدى الساحات وسط مدينة غزة، يظهر فيها عددٌ من الفتية لا تتجاوز أعمارهم الثامنة عشرة يجثون على ركبهم مطأطئي الرؤوس، معصوبي العيون، وقد كُبّلت أيديهم خلف ظهورهم، وهم يتعرضون لوابلٍ من الرصاص، بين جمعٍ من الناس الخارجين للتوّ من حرب إبادةٍ فقدوا خلالها أحباءهم، وخسروا أموالهم وشقاء أعمارهم، مشاهد صادمة تشوّه صورة الضحية ونضالها المشروع نحو الاستقلال والحرية، تيجعل المتعاطفين معها ينفَضّون من حولها".
يرى محافظ شمال غزة السابق، أنّه كان على حركة حماس احترام العائلات وتطبيق القانون لا الإعدامات الميدانية فور إعلان وقف إطلاق النار. ويصف اعتقال وتعذيب وإطلاق النار على أشخاص مكبلين بأنه عمل مرفوض وظالم لعائلات قاومت الاحتلال وقدمت الشهداء
عن هذا الأمر، يقول صلاح أبو وردة، أحد وجهاء عائلة أبو وردة ومحافظ شمال غزة سابقاً في حديثه إلى رصيف22: "كان على حماس أن تتصرف بمنطق المسؤولية الوطنية وألا تعادي العائلات، سواء كانت عائلة أبو وردة أو عائلة دغمش أو عائلة أبو سمرة أو عائلة المجايدة، وحتى لو كان هناك أشخاص مخالفون، يمكن تقديمهم للقانون وللقضاء وتوقيفهم والتحقيق معهم، ومن تثبت عليه أي مخالفات مهما كانت، ويصدر بحقه قرار قضائي، فنحن مع حكم القانون والقضاء. أما توقيف الناس بهذه الطريقة واعتقالهم وتعذيبهم وإطلاق النار عليهم وهم مكبّلو الأيدي وإعدامهم فهذا أمر غير مقبول، بالإضافة إلى مهاجمة العائلات ووصفها بصفات سيئة. هذا لا يجوز. عائلات غزة هذه قدّمت الشهداء والجرحى وقاومت الاحتلال وتاريخها يشهد على النضال والكفاح، ولا يمكن اتهامها بتلك الاتهامات".
رسالة سياسية لأطراف إقليمية
فقد شهدت العديد من المناطق في قطاع غزة توترات ميدانيةً متصاعدةً وحملات اعتقالات ومداهمات، وأكدت حركة حماس أنّ تلك الحملات تهدف إلى فرض الأمن والنظام وملاحقة الخارجين عن القانون وسارقي المساعدات والمتعاونين مع الاحتلال، فيما رأت جهات محلية في قطاع غزة أنّ ما تقوم به الحركة هو عبارة عن تصفية حسابات ومحاولة لاستعراض القوة أمام المواطن الفلسطيني، وكذلك إرسال رسالة للأطراف الإقليمية بأنّ حماس ما زالت تمسك بزمام المبادرة ولديها القدرة على السيطرة الأمنية في قطاع غزة.
وفي تصريح لمحمود المرداوي، وهو أحد قيادات حركة حماس، يقول: "من يظنّ أن موافقة المقاومة على تشكيل لجنة فلسطينية مستقلة من التكنوقراط والخبراء تعني ترك الفلتان يعمّ في قطاع غزة أو إفلات المجرم من العقاب، فهو مخطئ"، مشدداً على أن "المقاومة لم تفرّق بين سدّ الذرائع والتخلّي عن المسؤولية"، في إشارة إلى تمسكها بدور حفظ الأمن والنظام داخل القطاع.
القيادي في حركة حماس محمود المرداوي صرّح أن تشكيل لجنة فلسطينية مستقلة لا يعني التخلي عن ضبط الأمن، وأنهم سيواصلون محاسبة من أسماهم بـ "المجرمين".
فعقب وقف إطلاق النار، شهد كل من حيّ الصبر وحي تل الهوى جنوبي مدينة غزة اشتباكات عنيفةً بين عائلة دغمش وعناصر حركة حماس أسفرت عن مقتل ما بين 20 إلى 40 فرداً من عائلة دغمش بحسب الأخبار المحلية المتداولة، وتقول حركة حماس إنّهم بغالبيتهم قاموا بقتل عدد من عناصر الحركة خلال الحرب، وتدخّل عدد من وجهاء ومخاتير العائلة للتوسط لحلّ الخلاف ولكن لم ينجحوا في وساطتهم، ما أدى إلى تجدد الاشتباكات بين الجانبين.
"محاربة العصابات التي جنّدتها إسرائيل"؟
يقول منذر الحايك، الناطق باسم حركة فتح في قطاع غزة، في حديثه إلى رصيف22: "بسبب العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، حصل عدد من التجاوزات من بعض المجموعات، خاصةً عصابات السرقة، وعصابات مسلّحة جنّدتها إسرائيل في مناطق محددة، وارتكبت تلك العصابات بعض الأعمال التي تتناقض مع أخلاقيات شعبنا الوطنية، ولكن الآن بعد أن سمح الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لحماس كما صرّح بالانتشار وضبط الأمن وحل بعض المشكلات، رأينا تلك المشاهد من القتل والاعدامات، فالجميع مع محاسبة كل من اعتدوا على شعبنا ومقدراته وسرقوا المساعدات في ظل حصار وتجويع وتعطيش الشعب الفلسطيني، ولكن ليس بهذه الطريقة التي تستخدمها الحركة".
ويضيف: "نحن نريد أن تكون الصورة التي تقدّم للعالم عن الشعب الفلسطيني هي صورة عبر القانون والقضاء حتى لا يرى العالم مشاهد تدلل على أننا شعب متأخر ولا نستحق دولة، وفي الواقع الوضع حساس جداً في قطاع غزة وهذا له تبعات في ما بعد، وكنا نتوقع من حركة حماس أن تدار الأمور بشكل له علاقة بالاعتقال والتحقيق ومن ثم العرض على القضاء ومحاكمة كل من تجاوز خلال الحرب من خلال القضاء الفلسطيني، لكن المشكلة لدى حماس بأنها لا تؤمن بالآخر ولا بالشراكة السياسية، وهي تعتقد أنها صاحبة الولاية الحصرية على قطاع غزة وأنّ عقدة اليوم التالي لحماس في قطاع غزة هي البقاء في الحكم".
ويؤكد الحايك، أنّ حركة فتح لن تسمح بالفوضى والاقتتال الداخلي والحرب الأهلية، وأنّ ما يحدث الآن يخدم رواية الاحتلال في تشويه صورة الفلسطينيين أمام العالم ليرى أنّ هناك إرهاباً من نوع آخر هو الإرهاب الفلسطيني، الذي هو بمثابة جائزة لإسرائيل وروايتها التي نشرتها خلال الحرب، بحسب ما يقول.
انهيار السلم الأهلي وتفكك المجتمع
ولعل الإعدامات التي نفذتها حركة حماس تشكل دليلاً واضحاً على انهيار السلم الأهلي، أو تعكس التفكك الاجتماعي وتغيّر توازنات القوى في المجتمع الغزي كما يرى البعض، فعائلة دغمش هي من أقوى العائلات الفلسطينية في قطاع غزة، وفي اللحظة التي شعرت فيها بأن النظام الحاكم في القطاع بدأ يضعف، تحركت مستخدمةً ما لديها من قوة، أما حركة حماس، فتحركت في اللحظة التي توقفت فيها الحرب لتعيد بسط سيطرتها في المناطق التي غادرها الجيش الإسرائيلي، بـ"قسوة ووحشية"، وبطشت بالعائلة، بحسب كثير من الآراء.
فما يحرّك المجتمع الآن في غزة هو ميزان القوة، وهذا يقترب إلى حدّ ما من "شريعة الغاب"، وفي لحظة شعور عائلات مثل دغمش والمجايدة وأبو سمرة وأبو وردة أو حتى حماس بأنها قوية، تتقدم ومن ثم تتراجع ما يشير إلى أنّ القوي هو الذي يسيطر وهذا يعكس تفكك المجتمع الفلسطيني، بحسب ما يؤكده الكاتب والمحلل السياسي أكرم عطا لله، في حديثه إلى رصيف22.
يقول: "هؤلاء الذين تم قتلهم لم يُقتلوا لأنهم من عائلة دغمش أو عملاء، ولكنهم قُتلوا لسببين: أولاً لأنهم تحدّوا سلطة حماس، وثانياً لأنهم اعتدوا على المساعدات".
برأيه، وبغض النظر عن الأسباب، تشكّل الإعدامات انتهاكاً فادحاً للقانون الفلسطيني ولحياة الإنسان، خاصةً أنّ الحرب انتهت، وليس هناك مبرر لحركة حماس لكي تقوم بإعدامات، كما أنّ من حق أي مواطن فلسطيني أن يحظى بمحاكمة عادلة وأن يدافع عن نفسه.
ويضيف: "هذا الاستعجال بالإعدامات يعكس قلق حماس الكبير من تمرد العائلات الفلسطينية، لذا فالحركة معنية بأن ترسل رسالةً إلى من يهمه الأمر بأنّ أيّ عائلة تتحرك ستواجه بهذا الردّ، وقد وصلت الرسالة إلى عائلة المجايدة التي كانت تريد أن تتحرك كعائلة دغمش، وهي رسالة أيضاً لأيّ قوى أخرى كانت تفكر في تحدّي الحركة في القطاع، فحماس تدرك تماماً الهدف الذي تريد تحقيقه من تلك الإعدامات واستهداف العائلات".
تعكس الإعدامات الميدانية حالة انهيار السلم الأهلي وتفكك البنية الاجتماعية في غزة، حيث بات ميزان القوة هو الحاكم. فالحركة، بحسب محللين، استخدمت القسوة لإعادة فرض سيطرتها بعد الحرب، ما زاد من الخوف وعمّق الانقسام وأضعف الثقة بالمؤسسات، الأمر الذي يجعل إعادة بناء السلم الأهلي مهمة شاقة في مجتمع مثقل بالجراح
من جانب آخر، يقول محمد علوش، عضو المكتب السياسي لجبهة النضال الشعبي الفلسطيني، في حديثه إلى رصيف22: "الإعدامات الميدانية التي تنفذها حماس في قطاع غزة تترك آثاراً مدمرةً قصيرة وطويلة المدى على نسيج المجتمع الفلسطيني، فهي تزرع الخوف والارتباك، وتعزز منطق الانتقام بين العائلات والمناطق والمجموعات السياسية، وتكسر ثقة المواطنين بأي جهة قادرة على حماية الحقوق أو تحقيق العدالة، وعلى المدى المتوسط، تضعف هذه الممارسات آليات التسوية المحلية وتحوّل النزاعات السياسية أو القبلية إلى صراعات متواصلة قد تمتد لأجيال، ما يجعل إعادة بناء السلم الأهلي والتعافي المجتمعي أمراً بالغ الصعوبة، ويزيد هشاشة المجتمع أمام أي أزمات مستقبلية، وهي مدانة وغير مقبولة مهما حاولوا تبريرها".
تبرير القمع والقتل خارج القانون
ويضيف علوش: "تسمية الخصم السياسي بالخائن أو العميل، أسلوب مألوف في السياقات المسلحة والسياسية لتبرير القمع، لكنه مرفوض دستورياً وأخلاقياً وقانونياً، والأسباب العملية لهذه الممارسات قد تشمل الحفاظ على السيطرة، والخوف من انشقاقات مسلحة، أو محاولة إبعاد منافسين سياسيين، لكن مهما كانت المبررات، فإن تحويل الخلاف السياسي إلى حكم إعدام خارج محكمة عادلة يغذّي العنف، ويعزز منطق الثأر، ويجعل البيئة السياسية أكثر توتراً، وتقليل الخلاف السياسي إلى مسألة خيانة أصبح ذريعةً خطيرةً للتطرف ويجب رفضه قطعياً".
ويرى علوش، أنّ تلك الإعدامات ّتُعدّ "قتلاً خارج إطار القانون"، وتنتهك الحق في الحياة والمحاكمة العادلة بموجب القانون الدولي لحقوق الإنسان والقانون الإنساني الدولي، كما تخالف نصوص القانون الأساسي الفلسطيني التي تضمن الحق في الحياة، وحق المحاكمة العادلة، ومناهضة التعذيب والمعاملة القاسية، ويشير إلى أنّ المنظمات الحقوقية والأمم المتحدة تصنّف هذه الممارسات كجرائم تستلزم مساءلةً فرديةً وجماعيةً، ما يجعل التحقيق المستقل والمساءلة عبر محاكم عادلة ضرورة وطنية ودولية عاجلة.
بالإضافة إلى رفض منطق الإعدامات الميدانية، وَجهت كثير من الشخصيات الفلسطينية انتقاداً حاداً لاتهام عائلات فلسطينية كاملة بالعمالة، الأمر الذي انتُقد بشدة حتى من مؤيدي الحركة.
اللافت أنّ هذه الأعمال الإجرامية التي تُبثّ عبر الشاشات ومواقع التواصل الاجتماعي والفضاء الرقمي، تعزز وتؤكد رواية الحكومة الإسرائيلية بأنّ "الفلسطينيين هم قتلة ومجرمون وعديمو الإنسانية"، وتمنحه صكّ براءة من جرائمه بعد عرض المشاهد المروعة للجرائم التي تنفّذها حماس بحق المدنيين في قطاع غزة من قتل وتمثيل بالجثث وترويع وإرهاب، بحسب ما يرى الكاتب والمحلل السياسي الدكتور رمضان أبو جزر، في حديثه إلى رصيف22.
ويضيف: "بحزن شديد نشاهد ما تقوم به حركة حماس من أعمال وقتل بطريقة داعشية وإعدامات خارج نطاق القانون بحق عائلات غزية عريقة في الساحات العامة على مرأى من أطفال وقاصرين، وهذا يشكل عملاً إرهابياً إجرامياً يعاقب عليه القانون الدولي الإنساني، فالتهم التي ألصقتها الحركة بالعائلات الفلسطينية، مثل العمالة، هي تهم خطيرة وغير مقبولة، إذ لا توجد عشائر وعائلات خائنة على الإطلاق، بل على العكس يمكن أن تكون هناك توجهات سياسية لدى البعض مثل أن حماس باتت ترتهن للخارج وترتبط بمن يدفع لها المال مثل الإخوان المسلمين وإيران، فما حدث جريمة كبرى بحق تضحيات الشعب الفلسطيني ويشكّل تمهيداً للهجرة الطوعية أو القسرية تحت تهديد إرهاب مباشر، أي أنّ الحركة تقوم بتنفيذ ما عجزت آلة الحرب الإسرائيلية عن تنفيذه خلال الحرب".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.