يُنشر هذا النص ضمن ملف "لنتخيّل"، وهو ملف مفتوح يضمّ نصوصاً، مدوّنات، قصصاً، مقابلات، وتقارير صحافية، يتيح مساحة للخيال ولضرورته، سواء في تخيّل ماضٍ بديل، أو واقعٍ مختلف، أو مستقبلٍ نودّ أن نعيش فيه، أو ذاك الذي قد يُفرض علينا.
هبّت رياح ربيعية خفيفة حاملةً رائحة الياسمين ممزوجةً برائحة الخبز الطازج من أمام فرن "أبو حنين" في حي باب توما. كان الجوّ في العاصمة السورية العريقة مشحوناً بقلقٍ مألوف. إنه يوم الخميس الموافق 26 آذار/ مارس 2029.
فجأةً، انساب صوتٌ لم تسمعه المدينة بكلّ أحيائها منذ زمن طويل؛ دقّة متواصلة، عميقة، مطمئنة لأجراس كنائس دمشق، وتكسر ضجر يوم عادي في آخر الأسبوع. لكن حيّ الصالحية كانت مغلقةً منافذه جميعها. الشرطة منعت مرور أحد من أمام مجلس الشعب. كانت هناك جلسة طارئة.
لم تدقّ أجراس الكنائس للصلاة فحسب، فعيد الفصح قد مرّ منذ أول شهر نيسان/ أبريل، بل لـ"خبرية" جديدة في سماء سوريا: "إيليا سليمان مرقص"، أول رئيس مسيحي يُنتخب في تاريخ الجمهورية السورية. خبر غير معتاد تصدّر بشكل عاجل أخبار وكالات الأنباء حول العالم.
إيليا مرقص!
لم يكن اختيار "إيليا مرقص" اعتباطياً. "ايليا" اسمٌ هو في القرآن الكريم "إلياس"، رمز لانفتاح السوريين على عالمهم الإسلامي والقديم، وإيليا هو أهم أحد الأنبياء الأربعة الكبار في الثقافتين المسيحية واليهودية. أما "مرقص" فهو القديس مرقس الإنجيلي، كاتب أحد الأناجيل الأربعة مبشراً بالمحبة، لكي تستيقظ ذاكرة العالم للجذور المسيحية التي تمتد في هذه الأرض لأكثر من ألفي عام، حين كانت دمشق محطةً لا يمكن تجاوزها على طريق الحرير والإيمان.
فجأةً، انساب صوتٌ لم تسمعه المدينة بكلّ أحيائها منذ زمن طويل؛ دقّة متواصلة، عميقة، مطمئنة لأجراس كنائس دمشق، وتكسر ضجر يوم عادي في آخر الأسبوع. لكن حيّ الصالحية كانت مغلقةً منافذه جميعها
رسم الشارع السوري لوحةً من المشاعر المتناقضة، والغريبة على حد سواء، فأمام مقهى "النوفرة" على كتف الجامع الأموي، جلست مجموعة من الرجال الذين يمرّرون السبحة بين أصابعهم. قال أحدهم بصوتٍ خفيض: "فليكن رئيسنا مسيحياً… المسيحيون إخوتنا، هم من هذه الأرض قبل الإسلام. قال تعالى: 'لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا'... "يا سيّدي المسيحيون ليسوا كذلك"، قاطعه صديقه على الجانب الآخر وقد وضع كأساً من الشاي الخمير على طاولة صغيرة تميز ذلك المقهى القديم. هزّ آخر رأسه: "لقد تعبنا. ما يهمني هو أن يكون رجلاً صالحاً، و'شبعان'، يجلب الأمن، 'الناس جاعت بدنا نرجع نشتغل'…" كانت الأسئلة كثيرةً في محاولة لفهم المشهد الجديد.
في حيّ القصّاع، علت أصوات بعض الشباب المتحمسين: "أخيراً! ربما يفتح إيليا الأبواب المغلقة علينا جميعاً!"، بينما تساءلت سيدة محجبة أمام جارتها وهي تشتري الخضروات: "هل سيكون عادلاً معنا؟". ردّت الجارة بثقة: سمعت أنه ذكر في خطابه: "إن كان يتبع المسيح حقاً، فسيكون عادلاً".
أمام كنيسة المريمية في آخر الشارع المستقيم، وقف رجال ونساء، مسيحيون ومسلمون، يتبادلون التهاني. دمعت عينا شيخ مسلم مسنّ، وهو يقول لصديقه المسيحي: "أنتم أصل البلد، وهمس ضاحكاً: المهم مايزعلو الشوام فالرئيس الجديد من حي الميدان الدمشقي".
"معاوية الخليفة الأموي كسر كل تقاليد الدولة الإسلامية الجديدة آنذاك ليولي ابن أثيل، طبيبه المسيحي، على حمص. التاريخ يعيد نفسه يا صديقي!"، يقول الإسلامي المعتدل محمد حبش، في تغطية عاجلة من قناة BBC لحدث لم يكن عادياً.
في هذا البلد العظيم!
لم تدقّ أجراس الكنائس للصلاة فحسب، بل لـ"خبرية" جديدة في سماء سوريا: "إيليا سليمان مرقص"، أول رئيس مسيحي يُنتخب في تاريخ الجمهورية السورية.
في خطاب القسم، وقف إيليا مرقص، الستيني، والمهندس الذي خدم في المحافظات الفقيرة في ريف دمشق ودرعا لسنوات طويلة، متواضعاً وقوياً، ويده على الإنجيل: "لن أكون رئيساً للمسيحيين، بل رئيساً لكل السوريين مسلمين ومسيحيين". يتابع مرقص: "في هذا البلد العظيم، حيث عاش المسيحيون والمسلمون والدروز والإسماعيليون والعلويون واليهود جنباً إلى جنب قروناً، نتذكر قول السيد المسيح: 'مَنْ لا يَجْمَعُ مَعِي فَهُوَ يُفَرِّقُ' كما جاء في أنجيل لوقا. لن نجمع إلا بالعدل والمساواة واحترام ذواتنا ونسيجنا الوطني الذي أهرقت على أطرافه دماء عزيزة لكل السوريين. يضيف مرقص: "نستذكر دور آبائنا المسيحيين في عهد الدولة الأموية، وكيف كانوا أعمدة الإدارة والعلم، وكيف أسهموا في بناء حضارة امتدت إلى الأندلس. هذا هو إرثنا المشترك".
أحد القوانين اللافتة التي سنّها الرئيس الجديد، تغيير اسم مجلس الشعب السوري إلى مجلس النواب ليعيد له اسمه المنهوب في عهد البعثيين. وبعد أسبوع على وصول مرقص إلى القصر الجمهوري، بدأ الاختبار الأول للرئيس لاختيار وزرائه الجدد. اختار مرقص أسماء وزرائه بعناية فائقة، ومعياره الكفاءة والنزاهة:
نائب الرئيس: د. ليلى أحمد (سنّية، أستاذة في القانون دولي من عائلة دمشقية مرموقة، في استعادة لافتة لإعادة دور المرأة وللطائفة السنّية الأكبر)، ورسالة صارخة بعنوان الشراكة الحقيقية.
رئيس مجلس الوزراء (د. عبد الرحمن الأتاسي، خبير في الاقتصاد الدولي ومستشار سابق لأحد أمراء دولة خليجية).
وزير الدفاع: اللواء الركن علي الحسين (علوي، عسكري محترف ومحايد، معروف بنزاهته).
وزير الخارجية: السفير رياض عطا الله (مسيحي، دبلوماسي مخضرم، عُرف بفكره المعتدل وعلاقاته الواسعة، اشتغل في السلك الديبلوماسي لفترة طويلة وفي الأمم المتحدة كمندوب دائم لسوريا في نيويورك).
وزير الداخلية: اللواء خالد الشوفي (درزي، خبير أمني من السويداء).
وزير المالية: د. سارة الحلبي (مسلمة سنّية، اقتصادية ناجحة من حلب، عملت مع المندوب الأممي).
وزيرة التربية والتعليم العالي: د. هدى عكو (كردية، أكاديمية مشهود لها بإصلاحها التعليمي في ظروف صعبة).
كانت المرأة حاضرةً بقوة في تشكيلة الرئيس؛ بالإضافة إلى نائب الرئيس ووزيرة التربية، تولّت نساء من مختلف الطوائف وزارات الصحة والتنمية الاجتماعية والاقتصاد.
النجاح الوحيد حتى الآن هو أنّ السفينة لم تغرق في بحر الشكوك العاتية. وجود امرأة سنّية قوية كنائب، ووزراء من جميع المكوّنات في مناصب سيادية، وأجراس تعلن فجراً مختلفاً في دمشق، بجانب تكبيرات الله أكبر، كلها إشارات على طريق طويل
تابع العالم بكثير من الحذر والأمل، وزعماء العالم أعلنوا "انتظاراً حذراً" لكنهم أرسلوا برقيات التهنئة. باريس دعت الرئيس السوري الجديد لزيارتها. كذلك أشاد الزعماء الأوروبيون بالخطوة الديمقراطية التاريخية وتمثيل المرأة، لكنهم في المقابل شددوا على ضرورة إجراءات ملموسة في ملفات حقوق الإنسان، والإصلاح. والمساعدات المشروطة لا تزال معلقة.
ردود الفعل العالمية
موسكو رحبت "باستقرار سوريا واختيار شعبها"، ورأت فيهما ضماناً لاستمرار نفوذها (مع رئيس أرثوذكسي).
البيت الأبيض الذي يسكنه رئيس ديمقراطي، عدّ هذه الخطوة المفاجئة تاريخيةً، لكن برقية التهنئة أخفت بعض القلق من أفول نفوذها في دمشق، التي يحكمها رئيس أرثوذكسي من الطبيعي أن يكون مقرباً إلى موسكو.
الملك السعودي محمد بن سلمان أرسل التهاني الرسمية، داعياً الرئيس الجديد لزيارة الرياض. الرئيس مرقص يسافر إلى السعودية ملبّياً الدعوة بعد أيام من انتخابه (وُصفت الزيارة بأنها "تاريخية واقتصادية")، وأسفرت زيارته عن وعود بتمويل مشاريع إعادة إعمار محدودة، مع التركيز على "الاستقرار".
مضت ثلاثة أشهر بين رياح التغيير وصخور الواقع الأمني المرير. لم تشهد الأشهر الثلاثة الأولى انفجارات داميةً أو اغتيالات، وهو ما عُدّ انتصاراً. لكن حوادث أمنيةً "صغيرةً" وقعت (تفجير عبوة ناسفة في حي الفحامة في دمشق دون سقوط قتلى، إلى جانب مناوشات بين فصائل في إدلب)، فالجمر ما زال تحت الرماد. وزير الداخلية أعلن عن حملة لإعادة هيكلة الأجهزة الأمنية، كاشفاً عن فساد مستشرٍ في قلب الأجهزة الأمنية.
في حقيقة الأمر على المستوى الاقتصادي لم يحدث "انتعاش سحري". استمرار العقوبات الغربية وشحّ العملة الصعبة كانا يقفان في وجه أي تحسن ملحوظ في الحالة الاقتصادية. لكن بعض الإجراءات أعطت بارقة أمل: تشديد على محاربة الفساد (اعتقالات لمسؤولين كبار في الحكومة السابقة)، إصلاحات جمركية بسيطة لتشجيع الاستيراد الضروري، ومشاريع صغيرة للبنية التحتية موّلتها دول خليجية. لكن غلاء الأسعار لا يزال كابوس المواطن اليومي، ووتيرة ارتفاعه تباطأت قليلاً.
على المستويين السياسي والاجتماعي، كان الجو العام أكثر انفتاحاً. عودة بعض الناشطين المعتدلين من المنفى، مناقشة علنية لقانون الأحوال الشخصية الجديد والذي يحاول التوفيق بين الشرائع، وإطلاق سراح عدد من المعتقلين السياسيين كـ"بادرة حسن نية". لكن الجروح عميقة، والثقة هشة.
طُوبى لِصَانِعِي السَّلاَمِ
في اختبار مهم ولافت لطبيعة النسيج السوري، وبعد عودته من السعودية مباشرةً، حلَّقت مروحية الرئيس في سماء السويداء. استقبله زعماء العشائر الدرزية بحفاوة بالغة، لكنها محسوبة. في خطابه في ساحة البلدة القديمة (ساحة الكرامة)، قال مرقص: "يا أبناء جبل العرب الأشمّ، جئتكم أخاً لا حاكماً. هذا الجبل شاهد على عراقة سوريا وتنوعها. الدرزية، كالمسيحية، جزء لا يتجزأ من روح هذه الأرض. لنسمع معاً صوت الحكمة: 'طُوبَى لِصَانِعِي السَّلاَمِ، فَإِنَّهُمْ أَبْنَاءَ اللهِ يُدْعَوْنَ' العيش بسلام هو درعنا الوحيد". الزيارة، برغم حساسيتها، مرت بسلاسة، وعكست براعةً سياسيةً لافتة.
في بيروت، أقيمت صلاة من أجل الجار الجديد، ففي كاتدرائية مار جرجس للروم الأرثوذكس وسط بيروت، امتلأت الكنيسة عن آخرها وحضر القداس رئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري، وكان رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي تيمور جنبلاط حاضراً. رنّت الأجراس ليس فقط لإيليا مرقص، بل "من أجل السلام في سوريا الجريحة، ومن أجل أن تتنفس بيروت، التي كادت القوات الإسرائيلية التي انسحبت حديثاً منها أن تخنقها". كان القداس صرخةً من قلب كلّ لبناني: "يا ربّ، احفظ سوريا، واحفظ جيراننا من رياح الفتنة القاتلة".
في رحلة الألف ميل، لم تتحول سوريا إلى جنة في ثلاثة أشهر بانتخاب رئيس مسيحي. مرقص أكد في أكثر من مناسبة أنه ليس ساحراً. التحديات الجسام -الاقتصاد المنهك، المجتمع الممزق، الفساد المتجذر، والأطراف الإقليمية المتصارعة وعلى رأسها إسرائيل التي لا تفكر أبداً في العودة إلى حدود اتفاق فض الاشتباك عام 1974- لا تُحلّ بإرادة فرد، مهما كانت نواياه حسنة. النجاح الوحيد حتى الآن هو أنّ السفينة لم تغرق في بحر الشكوك العاتية. وجود امرأة سنّية قوية كنائب، ووزراء من جميع المكوّنات في مناصب سيادية، وأجراس تعلن فجراً مختلفاً في دمشق، بجانب تكبيرات الله أكبر، كلها إشارات على طريق طويل. نجاح التجربة لا يقاس بطائفة الرئيس، بل بقدرته على أن يكون رئيساً "لجميع السوريين"، وعلى تحقيق العدالة المستحيلة، وعلى أن يترجم أقوال المسيح عن المحبة والسلام إلى سياسات ملموسة في أرض عانت كثيراً. الأجراس دقت، لكن صدى رنينها لا يزال ينتظر أن يملأ سهول، وسفوح جبال سوريا كلها. الرحلة طويلة، والطريق شائك، لكن خطوةً واحدةً على طريق الحق، قد تفتح درباً في نفق عتمة السوريين المظلم.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.