قمة شرم الشيخ وإعادة الإعمار… مدخل للمقايضة على الحقوق الوطنيّة الفلسطينيّة؟

قمة شرم الشيخ وإعادة الإعمار… مدخل للمقايضة على الحقوق الوطنيّة الفلسطينيّة؟

سياسة نحن والحقوق الأساسية

الاثنين 13 أكتوبر 20259 دقائق للقراءة

قمة شرم الشيخ ليست بروتوكولاً عابراً، بل هي إشارة واضحة إلى أنّ مرحلة ما بعد الحرب بدأت بالفعل. فعندما يصل قادة العالم إلى مدينة واحدة في يوم واحد، يثقل الميزان السياسي فوراً: تثبيت وقف إطلاق النار، فتح مسارات الإعمار، وتدوير لغة البيانات من الوعيد إلى الإدارة. عمليّاً، هكذا تُوضَع الحرب في قفص زجاجي اسمه "الاتفاق"، وتحال قواعد السلم إلى القانون الدولي. 

وهنا لعبة الإحراج الدولي لأطراف الصراع، حضور هذا الثقل الدولي يجعل عودة إسرائيل إلى القتال قراراً مكلفاً جداً أمام حلفائها، فالرسالة بسيطة: العالم كلّه حضر ليراقب التنفيذ لا ليستأنف القصف. فوزن القمّة يثبّت الهدنة، ويرفع سقف المحاسبة الدبلوماسية/ الدولية والشعبية على أيّ ارتداد، ولا سيما أنها قمة مكلفة مالياً، تجمع الدول المانحة معاً، لوضع رؤية مشتركة لما ستكون عليه إعادة إعمار القطاع الذي تدمرت 90% من مبانيه. 

فور الإعلان عن التوصّل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار في قطاع غزة، اتّجهت أنظار العالم إلى نتائج هذه الحرب التي استمرّت لسنتَين، وما نتج عنها من خسائر اقتصاديّة فادحة شملت البنية التحتية والحياة الاقتصاديّة بتجلّياتها كافة في القطاع، والتي تحتاج إلى جهودٍ جبّارة لإعادة الإعمار. 

يحتاج قطاع غزة إلى سنوات طويلة للتعافي من تلك الأضرار والخسائر، وقد بدأت التصريحات تعلو حول إعادة الإعمار. ووفقاً لتقارير صادرة عن بعض المؤسّسات الدوليّة، فإنّ القطاع بحاجة إلى 52 مليار دولار لإعادة بناء ما دمّرته الحرب. 

لقد مثّل وقف إطلاق النار في غزة اختراقاً دبلوماسيّاً ناجزاً ومتعدّد الجوانب، وتضمّن العديد من القضايا الجوهريّة المهمّة: بدءاً بوقف العمليات العسكريّة، وانسحاب الجيش الإسرائيلي من مناطق التجمّعات السكانيّة، وعمليّةِ تبادل للأسرى من الجانبين، وإدخال المساعدات الإنسانيّة. وحدّد الاتفاق إطاراً عامّاً لإعادة الإعمار يشمل آليّات تنسيق بين المانحين الدوليين، وأولويّات إعمار تدريجيّة تركّز على البنى التحتيّة الأساسيّة، وتعالج عناصر الإنعاش الاقتصادي ومشكلة البطالة المنتشرة في القطاع. في هذه المعطيات، جاءت قمة شرم الشيخ، التي تُعقد اليوم 13 تشرين الأول/ أكتوبر 2025 في مصر. 

إعمار غزّة قضيّة إستراتيجيّة 

يقول البروفيسور نصر عبد الكريم، أستاذ الاقتصاد والدراسات العليا في الجامعة العربيّة الأمريكيّة-رام الله، في حديثه إلى رصيف22 إنّ إعمار غزة قضيّة إستراتيجيّة كما أنّ مصير غزة قضيّة سياسيّة، والسلطة سوف تؤول إليها إدارة الملف. 

قمة السلام في شرم الشيخ علامة قوية على الانتقال من الحرب إلى ما بعدها من الإدارة المدنية، فحضور قادة العالم في مكان واحد في يوم واحد يثقل الميزان السياسي فوراً، ويثبّت وقف إطلاق النار لفتح مسارات الإعمار

وبحسبه توجد جدّية واهتمام عربيّ وأوروبيّ وأمريكيّ بهذا الموضوع، وإمكان البدء بعمليّة الإعمار ضروريّ، ولكن يجب توافر ثلاثة شروط أساسيّة: 

أوّلاً، تهيئة الظروف الأمنيّة الميدانيّة في قطاع غزة وتوفير بيئة من الأمن والاستقرار عبر انسحاب الجيش الإسرائيلي إلى خارج القطاع. 

ثانياً، توفير البيئة اللوجستيّة والمؤسّساتيّة في قطاع غزة: فتح المعابر والسماح بإدخال الآلات والموادّ الإنشائيّة والمعدّات والأجهزة وموادّ البناء والإعمار بكلّ حريّة. 

ثالثاً، المرجعيّة الإداريّة، أيّ لجنة تكنوقراط مهنيّة ومستقلّين، ولمن ستكون مرجعيّتهم: لمجلس السلام العالمي أو للسلطة الفلسطينيّة؟

ويضيف: "الرؤية الأمريكيّة تتمثّل في مشروعٍ اقتصاديٍّ استثماريّ عبر شركات تتملّك وتستثمر في غزة، مثل مدن ذكيّة ومدنٍ سياحيّة و"ريفيرا" وغيرها، وتقفز فوق الحقوق الوطنيّة الفلسطينيّة، فهو منظور اقتصاديّ جاذب من دون مآلات سياسيّة. أمّا الرؤية العربيّة والأوروبيّة فتريد إعادة إعمار وتمكيناً للفلسطينيين للسير نحو مشروع حلّ الدولتين.  والموضوع سوف يُحسَم لاحقاً من خلال توفير التمويل، والتقديرات تشير إلى الحاجة إلى نحو 70 مليار دولار تُقدَّم على مدار خمسة عشر عاماً: تبدأ بالإغاثة والإنعاش الاقتصادي، ثمّ الترميم، ثمّ التحديث وبدء النشاط الاقتصادي الفعليّ. وهناك شركات سوف تستفيد من الإعمار سواء كانت مصريّةً أو تركيّةً أو فلسطينيّةً أو ربما إسرائيليّة".

الوضع الاقتصادي يفرض إغاثة لا استثماراً

وفقاً لتقريرٍ صادرٍ عن مركز الإعلام الحكومي في غزة بمناسبة مرور 700 يومٍ على الحرب، بلغ حجم الخسائر الاقتصاديّة نحو 70 مليار دولار، وتدمير نحو 90% من البنية التحتيّة في القطاع.

وشمل التدمير مختلف القطاعات الاقتصاديّة: نحو 28 مليار دولار في قطاع الإسكان، و6 مليارات في قطاع الخدمات والبلديّات، و5 مليارات في القطاع الصحي، و4 مليارات في كلٍّ من القطاعين التعليميّ والصناعيّ، و4.5 مليارات في القطاع التجاري، و2.8 مليارات في القطاع الزراعيّ، و4 مليارات في القطاع المنزليّ، و3 مليارات في قطاع الاتصالات والإنترنت، و2.8 مليارات في قطاع النقل والمواصلات، و1.4 مليارات في قطاع الكهرباء، ونحو 2 مليار دولار في القطاعين الترفيهيّ والفندقيّ، بالإضافة إلى 1 مليار دولار في القطاع الدينيّ، و800 مليون دولار في القطاع الإعلاميّ.

مفهوم مُلتبس للإعمار

الواقع الاقتصاديّ في قطاع غزة يحتّم على الجميع القيام بجهود إغاثة، لا جهود تنمية أو استثمار، في ظلّ التدمير الممنهج للكيانات الاقتصاديّة والبنية التحتيّة والقطاعات الإنتاجيّة والخدماتيّة كافة، بالإضافة إلى إزالة الركام والأنقاض وتهيئة الأرض والبنية التحتيّة لمشاريع الإعمار. وبالحدّ الأدنى تحتاج العمليّة إلى ما بين ثلاث إلى أربع سنواتٍ لإزالة الركام وإعداد المشاريع وتوفير الظروف المناسبة للإعمار. وفي ظلّ تلك الظروف، لن يكون القطاع نقطة جذب للمستثمرين، بحسب الخبير الاقتصادي الدكتور ثابت أبو الروس، في حديثه إلى رصيف22.

إعمار غزة ملف له شروط واضحة أمن واستقرار وبيئة لوجستية مفتوحة. بتقديرات تتراوح بين 52 و70 مليار دولار على مدى 15 عاماً، تبدأ بالإغاثة فالترميم فالتحديث والنشاط الاقتصادي التدريجي.

ويضيف: "إنّ الإعمار بالمفهوم الفلسطينيّ يتمثّل في إعادة بناء البنية التحتيّة في قطاعات التعليم والصحّة والبلديّات والمباني السكنيّة وشبكات المياه والكهرباء والصرف الصحيّ التي دمّرها الاحتلال.

وهذا مبني على التجربة السابقة منذ عام 1993، إذ كان ما قُدِّم عبارةً عن منحٍ ومساعدات لا مشاريع استثماريّة. أمّا الآن، ووفق الرؤية الأمريكيّة، فيُتحدَّث عن إعادة الإعمار كفرصة استثماريّة للأفراد والشركات والمستثمرين الأجانب. غير أنّه في هذا الإطار لا يمكن أن يكون هناك استثمار أوروبيّ وأمريكيّ بنسبة 100%، بل سيكون بالشراكة مع مستثمرٍ عربيٍّ أو فلسطينيّ، ولن تسمح الظروف السياسيّة والأمنيّة المعقّدة باستثمارٍ مستقلٍّ استقلالاً تامّاً؛ وربما سيتمّ التعامل مع أيّ مستثمر مستقلّ وكأنّه عدوّ، ولذلك لن ينجح الاستثمار المستقلّ".

ويردف: "إعادة الإعمار ظاهريّاً ستكون لتمكين المواطن الفلسطينيّ، والحديث عن دول ستُقدِّم معونات له، وهذا هو المطلوب في الظرف الحاليّ. لكن قد تُستَخدم تلك الاستثمارات لتحقيق أهداف ربحيّة لصالح شركات وأفراد وكيانات أجنبيّة، مع منح تسهيلات للمستثمرين الأجانب. وبرغم ذلك، لن يحصل هذا بسبب عدم وضوح الرؤية حول التطوّرات القادمة والمستقبل السياسيّ لقطاع غزة. والاستثمار في العادة بحاجةٍ إلى أمن واستقرار، وهذا يبدو ضبابيّاً حتّى اللحظة في مستقبل القطاع وعلاقته بالجانب الإسرائيليّ، وسيبقى المستثمر ينتابه الخوفُ والتردّد".

الإعمار هدفٌ بالغ التعقيد وبعيد المنال

إنّ إعادة إعمار قطاع غزة تشكّل هدفاً بالغ التعقيد. ويبدو أنّ الحرب لم تنتهِ بعد، بل ربما يتغيّر شكلها فقط، وقد نلاحظ خلال الأيّام القادمة استهدافاتٍ لمواقع في القطاع بسلاح الجوّ الإسرائيليّ. وإذا كان هناك مؤتمر للإعمار، فسيكون في الختام، حين تضع الحرب أوزارها، لأنّ الإعمار يتطلّب وقفاً شاملاً وكاملاً للحرب، وهذا لم يتحقّق بعد. فالإعمار هدف بعيد المنال، ومن السابق لأوانه الحديث عنه. 

وربما تكون هناك بعض التعديلات أو الترميم أو البناء غير المنظّم، لا بطريقة مشروعٍ دوليّ، لأنّ هناك مشروع تهجيرٍ لدى إسرائيل، والذي أوقفه موجة الاعتراف بالدولة الفلسطينيّة وعزل إسرائيل دوليّاً وتحويلها إلى دولةٍ هامشيّةٍ في العالم. وأمريكا تحاول إعادة إسرائيل إلى مكانتها الدوليّة وتجميل صورتها في العالم، يقول نزار نزال، الباحث في قضايا الصراع، في حديثه إلى رصيف22.

تغييب جبهة غزة عن الحالة النضاليّة الفلسطينيّة

يضيف نزال: "إذا كان هناك مؤتمر للإعمار، فربما تكون المرحلة الأخيرة في مشروع الإعمار هي تغييب جبهة غزة عن الحالة النضاليّة الفلسطينيّة عموماً. ثمّة تصريحات أمريكيّة وأوروبيّة لتحييد الحالة الوطنيّة المقاومة داخل غزة، وإيجاد كيانٍ سياسيٍّ يتفهّم الاحتياج الأمنيّ لإسرائيل، مع استثماراتٍ أمريكيّةٍ في العقارات والغاز تعود بالأرباح على الولايات المتحدة، كون الذين يتحكّمون بالقرار أمريكيّين من قلب الرأسماليّة؛ رجال الصفقات والعقارات وأباطرة المال والأعمال في الولايات المتحدة، من أمثال ويتكوف، وكوشنير، وترامب. وعليه، الجوّ العام الذي تريده أمريكا بعد الحرب في غزة حالة اقتصاديّة منسلخة عن المناخ السياسيّ الفلسطيني العام".

الترويج لمسار إعمار تُمسكه دوائر "ويتكوف–كوشنر–ترامب" كرأسمال عقاري تكنولوجي جاذب، مع التعويل على شراكات تمويل عربيّة لإضفاء شرعيّة إقليميّة، يثير مخاوفاً من وجود خطر بتحوّل المال العربي إلى غطاء سياسي لإعادة هندسة الحكم، بلا ضمانات سيادة، ومقابل كلفة تطبيعٍ رمزيّة مرتفعة

ويردف: "للإعمار هدفان: الأوّل الاستثمار العربيّ والأجنبيّ وجني الأرباح وعقد الصفقات والمردود الماليّ. والثاني نزع مفاهيم المقاومة والانتماء والثقافة الوطنيّة المناهضة للاحتلال من نفس الفلسطينيّ. وبذلك يُوظَّف الإعمار لتنفيذ مشاريع سياسيّة على حساب الحقوق المشروعة للشعب الفلسطينيّ.

ويسعى ترامب إلى تجسيد خطّته ليكون قطاع غزة مركزاً اقتصاديّاً وتكنولوجيّاً وترفيهيّاً عالميّاً، لتحقيق الهدف المركزيّ الذي يطمح إليه، لا بهدف ترفيه المواطن الفلسطينيّ وإيجاد بقعة جغرافيّة يحمل فيها الورد والياسمين. هذه الرؤية بحاجةٍ إلى تبريد للحالة الفلسطينيّة بعد هذه الحرب وسقوط نحو 70 ألف شهيد. ولا أعتقد أنّ هذا التبريد قادم؛ فالهدف تغييب الحركات الوطنيّة المقاومة في غزة واجتثاثها بفعل المال والاقتصاد. لذلك هناك مشروع سياسيّ بالدرجة الأولى يُغلَّف بتجلّيات اقتصاديّة لتسهيل تنفيذه على الأرض".



رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

وراء كل تقرير في رصيف22، أيام من العمل: من التفكير والتحرير إلى التحقق والإنتاج البصري.

نحن نراهن على النوع، والصدق، والانحياز إلى الحقيقة والناس.

وحتى يستمرّ هذا العمل، نحتاج إلى من يؤمن بأنّ الجودة والحرية تستحقان الاستثمار.

Website by WhiteBeard
Popup Image