صراع الممرات… كيف يعيد الممر الهندي-الأوروبي تشكيل قواعد الردع بين إيران وإسرائيل؟

صراع الممرات… كيف يعيد الممر الهندي-الأوروبي تشكيل قواعد الردع بين إيران وإسرائيل؟

سياسة نحن والتنوّع

الخميس 25 سبتمبر 202517 دقيقة للقراءة

في مشهد إقليمي متقلب ومشحون بالتحوّلات السريعة، لم تعُد المنافسة في الشرق الأوسط محصورةً في الميادين العسكرية أو ملفات السلاح النووي فقط، بل امتدت لتشمل الممرات التجارية والبنى التحتية العابرة للحدود، التي أصبحت أدوات صراع ناعمةً بين القوى المتنافسة، قادرةً على إعادة رسم خرائط النفوذ وتعديل موازين الردع. 

في هذا السياق، يبرز الممر الهندي-الشرق أوسطي-الأوروبي كأحد أبرز المشاريع الإستراتيجية المثيرة للجدل في السنوات الأخيرة، ليس فقط لطموحه الاقتصادي، بل لما يحمله من دلالات جيوستراتيجية تؤثر بشكل مباشر على معادلة القوة في المنطقة.

الممر الهندي-الأوروبي... الرؤية والمصالح

منذ كانون الثاني/ يناير 2023، بدأت واشنطن سلسلةً من المحادثات الموسعة مع الهند والسعودية والإمارات وإسرائيل، ضمن رؤية لتطوير ممرات اقتصادية متعددة الأوجه عبر استثمارات في قطاعات الطاقة والنقل والتكنولوجيا، بما يسهم في تعزيز التنمية الاقتصادية وتأمين سلاسل التوريد العالمية وتحقيق تواصل إقليمي أوسع. وفقاً لما أورده المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، تمثّل هذه المحادثات امتداداً للاتفاقات الرباعية التي أفضت إلى تأسيس مجموعةI2U2 في 2022، والتي جمعت الولايات المتحدة والهند وإسرائيل والإمارات، مع التركيز على مجالات المياه والطاقة والنقل والفضاء والصحة والأمن الغذائي. برغم ذلك، تتجاوز أهداف هذه الاتفاقات الأبعاد الاقتصادية، لتشمل توسيع النفوذ السياسي والاقتصادي في المنطقة.

ترى إيران أنّ إدراج إسرائيل في الممر خطوة خطيرة نحو "تطبيع اقتصادي" تدريجي بين دول عربية وإسرائيل، تحت غطاء التعاون اللوجستي. ويُفهم في طهران أنّ هذا التطور يعزز الوجود الإسرائيلي في قلب التجارة الإقليمية، ويضعف موقعها كفاعل رئيس في معادلات النقل والطاقة

أُعلن عن مبادرة إستراتيجية بعنوان "الممر الاقتصادي الهند-الشرق الأوسط-أوروبا"، خلال قمة مجموعة العشرين التي عُقدت في نيودلهي في أيلول/ سبتمبر 2023، في سياق المنافسة العالمية على ربط الأسواق الكبرى. يهدف المشروع إلى إنشاء مسار تجاري بديل عن مبادرة "الحزام والطريق" الصينية، وتعزيز الروابط الاقتصادية بين الهند وأوروبا مروراً بالدول الخليجية. كما يسعى المشروع إلى تعزيز النفوذ الأمريكي في المنطقة، ودمج إسرائيل في البيئة العربية، وتقوية موقع الهند في مواجهة الصين.

يُعدّ الممر الهندي-الأوروبي ممرّ نقل متعدد الأوجه يبدأ من السواحل الغربية للهند عبر خطوط بحرية إلى ميناء الفجيرة في الإمارات، ثم عبر السكك الحديدية السعودية إلى الأردن، وصولاً إلى ميناء حيفا في إسرائيل، ومنه إلى ميناء بيرايوس في اليونان، ليستمر تدفّق البضائع إلى مختلف الدول الأوروبية. ويتضمن المشروع مسارين متكاملين: المسار الشرقي الذي يربط الهند بالدول الخليجية، والمسار الشمالي الذي يربط الدول الخليجية بالأردن وإسرائيل وصولاً إلى أوروبا، وتُعدّ إسرائيل الحلقة المركزية بينهما.

ويهدف المشروع إلى تطوير البنية التحتية والتجهيزات اللوجستية في المجالات الحيوية التي تُعدّ من أولويات العالم اليوم، مثل مصادر الطاقة التقليدية، الطاقات المتجددة، التكنولوجيا والتحول الرقمي، نقل البيانات بسرعة، وتجارة البضائع من خلال استخدام كابلات نقل الكهرباء والبيانات وبناء السكك الحديدية لنقل البضائع. يُقدّر المؤيدون للمشروع أنه سيقلل الوقت اللازم لنقل البضائع من الهند إلى أوروبا بنسبة 40%، والتكاليف بنسبة 30%.

وحسب دراسة مركز البيان للدراسات والتخطيط، يحظى المشروع بدعم دولي واسع ويتميز بموقع جغرافي إستراتيجي وأهداف اقتصادية مشتركة، ما يعزز فرص نجاحه، كما يتيح الدعم الأمريكي والأوروبي تمويل البنية التحتية ويضمن تعزيز النفوذ الغربي في مواجهة النفوذ الصيني. بشكل عام، تم تقديم دوافع تصميم وتنفيذ مشروع الممر الاقتصادي لتحقيق أهداف اقتصادية وسياسية وإستراتيجية متعددة. ومع ذلك، فإنّ الممر الاقتصادي ليس مجرد مشروع اقتصادي، بل هو أيضاً مشروع سياسي وأمني يهدف إلى تحقيق أهداف متعددة.

إسرائيل... من العزلة الجغرافية إلى محور لوجستي إقليمي

يشكّل المشروع الهندي-الشرق أوسطي-الأوروبي بالنسبة لإسرائيل، فرصةً إستراتيجيةً نادرةً لإعادة تعريف موقعها الجغرافي ضمن خريطة النقل والتجارة العالمية. فبعد أن كانت لعقود تُعدّ "نقطة تماس" محاطةً بالتحديات الأمنية والقيود السياسية، يفتح هذا المشروع أمامها الباب للتحول إلى مركز ربط دولي بين آسيا وأوروبا، في سياق إقليمي متغيّر تُعيد فيه البنى التحتية تشكيل موازين النفوذ. منذ الإعلان عن الممر الهندي-الأوروبي، لم يُخفِ رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو حماسته، واصفاً المشروع بأنه "إنجاز تاريخي" لإسرائيل، مؤكّداً أنّ بلاده ستكون نقطة وصل محوريةً في المسار الاقتصادي الجديد. وأعلن أنّ جميع الوزارات الحكومية تلقّت توجيهات بالتعاون الكامل لإنجاح المشروع، بوصفه أكبر جهد اقتصادي-تعاوني في تاريخ إسرائيل.

سياسياً، يوفّر الممر لإسرائيل فرصةً ذهبيةً لتعزيز مكانتها الإقليمية، وتجسيد عقيدة "بن غوريون" القائمة على بناء تحالفات إستراتيجية مع قوى غير عربية، وهي العقيدة التي أعيد تكييفها لاحقاً بدعم أمريكي لترسيخ دور إسرائيل وتهميش بعض الأطراف العربية. في خطابه أمام الأمم المتحدة (أيلول/ سبتمبر 2024)، وصف بنيامين نتنياهو، الممرّ بأنه "بركة ونعمة في الشرق الأوسط"، مهاجماً إيران وحلفاءها بوصفهم "قوى الشر والكراهية"، وهو ما يعكس الرؤية الإسرائيلية التي تربط بين التعاون الاقتصادي وإعادة رسم الخريطة الجيوسياسية للمنطقة.

أما وزير الطاقة الإسرائيلي إيلي كوهين، فأكد أنّ التحديات الأمنية لم تُضعف إسرائيل، بل عززت مكانتها وسرّعت وتيرة التطبيع مع دول المنطقة، ودمجتها في مشاريع إستراتيجية عابرة للحدود. ورأى أنّ عودة ترامب إلى الرئاسة الأمريكية، واتفاقات أبراهام، والربط الطاقي مع أوروبا، فتحت آفاقاً جديدةً أمام إسرائيل لتعزيز الاستقرار الإقليمي والازدهار الاقتصادي.

يتجاوز الممر الهندي-الأوروبي كونه مشروعاً اقتصادياً لإسرائيل، ليشكّل تحوّلاً إستراتيجياً يتناغم مع عقيدة الأمن القومي منذ بن غوريون، الذي سعى إلى كسر الطوق العربي عبر تحالفات محيطية. واليوم، يغدو الممر آليةً عمليةً لتجسيد هذا المنظور في بيئة دولية متغيرة. يفرض المشروع على إسرائيل شراكات وظيفيةً مع قوى عربية محورية مثل السعودية والإمارات، ما يحوّل التطبيع من مستوى رمزي إلى اندماج وظيفي قائم على مصالح اقتصادية متشابكة. هذا التداخل البنيوي يعزز شرعية إسرائيل في الفضاء الإقليمي، ويُضعف معادلة "الاشتراط الفلسطيني" كمدخل وحيد للتقارب العربي-الإسرائيلي. بهذا المعنى، يصبح الممر بمثابة رافعة للتطبيع تسرّع من إعادة هندسة التوازنات الإقليمية.

جيوسياسياً، يتيح المشروع لتل أبيب الخروج من حالة "الانغلاق الجيوسياسي" التي كبّلت إستراتيجيتها لعقود، ويحوّلها من طرف محاصر إلى عقدة وصل مركزية في سلاسل الإمداد العالمية. هذا التموضع الجديد يعيد تعريف مكانة إسرائيل في الشرق الأوسط الموسّع، ويمنحها أوراق قوة إضافيةً في مواجهة خصومها، وعلى رأسهم إيران. فاستبعاد طهران من خطوط العبور يُضعف رهانها التقليدي على موقعها الجغرافي، بينما يعزز موقع إسرائيل كبديل أكثر أماناً.

كما يقلّل الممر اعتماد إسرائيل على الممرات البحرية التقليدية، مثل البحر الأحمر ومضيق هرمز وباب المندب، التي أثبتت هشاشتها بعد تهديدات الحوثيين واحتجاز السفن الإسرائيلية، وبذلك يوفر لها المشروع مرونةً إستراتيجيةً أعلى لإدارة أمنها الاقتصادي.

بجانب المكاسب الأمنية، يتحول موقع إسرائيل كمركز عبور إلى أداة قوة ناعمة، إذ يمكنها التأثير في شروط التجارة وتوليد اعتماد اقتصادي متبادل مع الدول العربية، ما يعزز قدرتها التفاوضية في الملفات الإقليمية والدولية. هذا النمط من الاعتماد المتبادَل يجسد مفهوم "الاندماج الوظيفي" الذي تشير إليه الدراسات الإستراتيجية، حيث تُفضي المصالح الاقتصادية المشتركة إلى تآكل الخلافات السياسية وتعزيز مسارات التنسيق الأمني.

كما أنّ تدفق الاستثمارات الأجنبية نحو مشاريع البنية التحتية، خصوصاً في ميناء حيفا، يرسّخ مكانة إسرائيل كلاعب لوجستي محوري، ويحوّلها إلى نقطة ارتكاز في النظام الاقتصادي العالمي. هذا التوسع في البنى التحتية بمجالات النقل والطاقة والاتصالات يتناغم مع الرؤية الإسرائيلية لبناء "اقتصاد أمني" قادر على جذب الاستثمارات وتسخيرها لخدمة الأهداف الإستراتيجية.

الممر الهندي-الأوروبي بالنسبة لإسرائيل ليس مشروعاً اقتصادياً عابراً، بل أداة جيوستراتيجية تُعيد تموضعها في قلب التوازنات الإقليمية. إنه تجسيد متجدد لعقيدة بن غوريون القائمة على كسر العزلة، لكن هذه المرة عبر أدوات الاقتصاد واللوجستيات، لا عبر التحالفات العسكرية وحدها. وبذلك تتحول إسرائيل من دولة محاطة بالتحديات إلى لاعب محوري يمتلك أوراق تأثير فعّالةً في المعادلات الإقليمية والدولية على السواء.

إيران... قلق جيوسياسي ومخاوف من العزل

إذا كانت إسرائيل ترى في الممر الهندي-الأوروبي فرصةً إستراتيجيةً، فإنّ إيران تنظر إليه كتهديد مباشر لنفوذها ودورها التاريخي كحلقة وصل بين الشرق والغرب. فالمشروع لا يمرّ فقط خارج حدودها، بل يتجاوزها تماماً، ليُقصيها من منظومة النقل والطاقة المستقبلية في المنطقة، وهو ما تعدّه طهران محاولةً لعزلها إستراتيجياً وتهميش قدرتها على التأثير في التوازنات الإقليمية.

"تتبع إيران مسارين متوازيين؛ المسار الأول يهدف إلى تقويض فعالية الممر الهندي-الأوروبي من خلال الضغط السياسي والإعلامي والتشكيك في شرعيته ومخاطره. أما المسار الثاني فيركز على تطوير ممرات بديلة، مثل 'الشمال-الجنوب'، لتعزيز موقعها كممر رئيسي بين آسيا الوسطى وروسيا والهند، مع الحفاظ على سيادتها على جغرافيتها الحيوية"

بحسب وكالة تسنيم للأنباء، يُمثّل الممر الهندي-الأوروبي تحدّياً إستراتيجياً لإيران، التي ترى فيه محاولةً مقصودةً لتقويض موقعها الحيوي، خاصةً في ظلّ التوترات مع أطراف رئيسة مشاركة فيه. وبرغم غياب إعلان رسمي واضح بمعارضة المشروع، تكشف التصريحات غير المباشرة وخطابات كبار المسؤولين عن قلق عميق من تداعياته الجيوسياسية والاقتصادية.

منذ الإعلان عنه في قمة العشرين (2023)، تعاملت طهران مع الممر كتحوّل مقلق لا يقتصر على الاقتصاد، بل يمتد إلى تهديد الأمن القومي والنفوذ الجيوسياسي الإيرانيين. فالممر الجديد يُقصيها من دورها التقليدي كممر برّي طبيعي بين الهند وأوروبا، ما يعني خسارةً اقتصاديةً وسياسيةً في آن واحد.

ترى إيران أنّ إدراج إسرائيل في الممر خطوة خطيرة نحو "تطبيع اقتصادي" تدريجي بين دول عربية وإسرائيل، تحت غطاء التعاون اللوجستي. ويُفهم في طهران أنّ هذا التطور يعزز الوجود الإسرائيلي في قلب التجارة الإقليمية، ويضعف موقعها كفاعل رئيس في معادلات النقل والطاقة.

حتى علاقتها التاريخية بالهند، القائمة على مشاريع مثل ميناء تشابهار، باتت موضع شكّ. إذ إنّ انحياز نيودلهي أكثر فأكثر إلى الدول الخليجية وإسرائيل في مشاريع إستراتيجية كبرى، يثير قلقاً في إيران، ويفتح الباب أمام تحولات قد تقلّص الاعتماد على الموانئ الإيرانية لصالح بدائل أخرى أكثر انسجاماً مع التحالفات الناشئة.

السفير الإيراني السابق لدى جمهورية أذربيجان، محسن باك‌آيين، يصرّح في حديثه إلى رصيف22، بأنّ الممر ليس مجرد مسار تجاري، بل هو ممر ذو أبعاد إستراتيجية وأمنية تتصل مباشرةً بالهيمنة الإقليمية وإعادة رسم خريطة التحالفات. لذلك، تعدّ إيران المشروع تهديداً مركباً، يتجاوز الجانب اللوجستي إلى كونه أداةً لإضعاف محور المقاومة، وإعادة تموضع الجغرافيا السياسية بما يخدم مصالح الغرب وإسرائيل، خاصة أن بنيامين نتنياهو، وصف المشروع بأنه يمثّل تحوّلاً جذرياً في العلاقات الإقليمية، ويُضعف بشكل مباشر النفوذ الإيراني، ويعزز مكانة إسرائيل كشريك أساسي في التحولات الاقتصادية والسياسية المقبلة. وقد انعكس هذا الإدراك بشكل واضح في خطابات قائد الثورة الإسلامية، آية الله علي خامنئي، الذي أشار إلى أنّ هذا الممر ليس مجرد مشروع اقتصادي بل جزء من "مخطط غربي-عبري" يستهدف تحويل "إسرائيل" إلى بوابة رئيسة لتصدير الطاقة من المنطقة إلى الغرب، واستيراد السلع والتكنولوجيا منها، عادّاً أنّ ما وصفه بـ"السلوك الإجرامي" "لإسرائيل" يرتبط بشكل مباشر بهذا المشروع.

كما عبّر رئيس مجلس الشورى الإسلامي، محمد باقر قاليباف، عن هذا القلق بوضوح، مشيراً إلى أنّ الممر الناشئ، الذي تشارك فيه إسرائيل والإمارات والسعودية، يُعدّ محاولةً لتجاوز إيران وعزلها عن شبكات التجارة الإقليمية، فيما كتبت صحيفة "كيهان" المقرّبة من مكتب المرشد الإيراني، أنّ مشروع الممر الاقتصادي الهندي-الأوروبي يُعدّ محاولةً واضحةً لإعادة تشكيل خريطة النفوذ الجيوسياسي في المنطقة على حساب إيران. وهو ما يزيد من عزلة إيران على الصعيد الإقليمي ويضعف نفوذها في محيطها الجغرافي والسياسي.

تاريخياً، استفادت إيران من موقعها الجغرافي عند مفترق آسيا الوسطى والهند والشرق الأوسط، وهو ما أشار إليه الباحث الأمريكي روبرت كابلان، في كتابه "انتقام الجغرافيا". لكن مع تفعيل الممر الجديد، ستتراجع هذه الأهمية، كما حذّرت صحيفة "کیهان" من تحوّل إسرائيل وبعض الدول الخليجية إلى عقدة رئيسية للتجارة العالمية على حساب إيران. موقع "تابناک" الإيراني، حذّر بدوره من أنّ الدعم الأمريكي للممر، مقترناً بإمكانية عودة ترامب إلى البيت الأبيض، قد يضاعف عزلة طهران ويُسرّع من وتيرة التطبيع العربي-الإسرائيلي.

أمنياً، تشير تقديرات نقلتها وكالة "مهر إلى أنّ المشروع يوفر إطاراً مؤسسياً لتكثيف التعاون العسكري والاستخباري بين الولايات المتحدة وإسرائيل والهند والدول الخليجية، بما في ذلك تبادل البيانات الإستراتيجية وتنفيذ تدريبات مشتركة، الأمر الذي يرفع من مستوى التهديدات المحيطة بإيران ويزيد من الضغط على قدراتها الردعية. كما نبّهت وكالة الجمهورية الإسلامية للأنباء إلى أنّ إشراك إسرائيل في الممر يتجاوز كونه خياراً اقتصادياً، ليغدو عاملاً أمنياً جوهرياً يرسّخ وجودها في قلب شبكات النقل الإقليمية، ما يفتح الباب أمام تشكّل كتلة أمنية-إقليمية ذات طابع مناوئ لإيران، ويقوّض قدرتها على المناورة في بيئتها الجيوسياسية المباشرة.

وفي هذا السياق، يوضح محمد محمدي، أستاذ العلاقات الدولية في جامعة آزاد الإسلامية، في حديثه إلى رصيف22، أنّ إيران تتبع مسارين متوازيين؛ المسار الأول يهدف إلى تقويض فعالية الممر الهندي-الأوروبي من خلال الضغط السياسي والإعلامي والتشكيك في شرعيته ومخاطره. أما المسار الثاني فيركز على تطوير ممرات بديلة، مثل "الشمال-الجنوب"، لتعزيز موقعها كممر رئيسي بين آسيا الوسطى وروسيا والهند، مع الحفاظ على سيادتها على جغرافيتها الحيوية.

المشهد المستقبلي... صراع الممرات وإعادة هندسة التوازنات

لا يمكن النظر إلى الممر الهندي-الأوروبي كخيار اقتصادي بحت، بل كأداة جيوستراتيجية تعيد رسم خرائط النفوذ في الشرق الأوسط. فهو يمنح إسرائيل وحلفاءها العرب والدوليين تفوّقاً نوعياً في مجالات اللوجستيات والتجارة والأمن، ويقوّض في المقابل قدرة إيران على توظيف موقعها الجغرافي كمصدر قوة، ما يفتح الباب أمام إعادة تشكيل ميزان القوى الإقليمي بشكل غير مسبوق.

لا يمكن اختزال الممر الهندي-الأوروبي في كونه مشروعاً للنقل أو التنمية الاقتصادية فحسب؛ بل هو "خريطة إستراتيجية متحركة" تتجاوز حدود التجارة لتعيد تعريف النفوذ والصراع في الشرق الأوسط. تسعى إسرائيل لتكريس موقعها كمركز لوجستي محوري في قلب النظام الإقليمي، بينما يترك إيران أمام اختبار إستراتيجي

فمع انتقال المشروع من مرحلة التصوّر إلى خطوات التنفيذ الأولى، تتبلور ملامح صراع جديد لا يُدار بالوسائل التقليدية للجيوش والمواجهات المباشرة، بل عبر البنى التحتية، وشبكات النقل، والتحالفات الاقتصادية الناعمة. تسعى إسرائيل إلى تكريس نفسها كممر إجباري في التجارة العالمية، بينما تجد إيران نفسها أمام تحدٍّ إستراتيجي يفرض عليها البحث عن بدائل وتحالفات مضادة لكسر مساعي تحجيم دورها.

نقاط الاشتباك المحتملة تشمل حماية خطوط الإمداد، تأمين الموانئ والممرات البحرية، والسيطرة على البنية التحتية الحساسة. وقد تجلّى هذا التوتر عملياً خلال الهجمات الصاروخية الإيرانية على مدينة حيفا في حرب الأيام الـ12 الأخيرة مع إسرائيل، التي استهدفت رموزاً إستراتيجيةً واقتصاديةً، في رسالة واضحة لإظهار قدرة إيران على الردع والتأثير المباشر على قلب الاقتصاد الإسرائيلي والممرات الحيوية المرتبطة بالمشروع.

النزاعات المستقبلية قد تتحول من مواجهات عسكرية تقليدية إلى حروب غير مباشرة، تشمل الهجمات السيبرانية، العمليات البحرية، الصواريخ الدقيقة، والتنافس على السيطرة الاقتصادية والبنية التحتية الحيوية، ما يعكس تحوّلاً في قواعد الردع الإقليمي نحو التركيز على الممرات الإستراتيجية وأصول اللوجستيات العالمية.

المشروع قد يعمّق الانقسام الإقليمي بين محور غربي-آسيوي تقوده الهند وإسرائيل بدعم من واشنطن وبعض الدول الخليجية، ومحور شرقي تميل إليه إيران عبر شراكاتها مع روسيا والصين، ليعيد رسم خطوط النفوذ الاقتصادي والسياسي بحدّة تتجاوز التقسيمات التقليدية السابقة. وإذا رأت طهران أنّ المشروع يمسّ جوهر وجودها الجيوسياسي، فقد تلجأ إلى تفعيل أدواتها الإقليمية لاستهداف البنية التحتية أو الممرات المرتبطة به، ما قد يدفع الصراع نحو مواجهة غير مباشرة ذات تداعيات إستراتيجية عميقة.

المعطيات تشير إلى سباق متوازٍ لتشييد ممرات بديلة، مثل "الشمال-الجنوب"، بما يحوّل التنافس من نزاع ثنائي إلى مواجهة متعددة الأطراف تزيد من تعقيد المشهد الإقليمي. وقد تحاول السعودية والإمارات الموازنة بين المشاريع المتعارضة لتفادي التصعيد، غير أنّ نجاح هذا النهج سيبقى مرهوناً بإرادة القوى الكبرى المشاركة، أكثر من اعتماده على خيارات الأطراف الخليجية وحدها، ما يجعل إدارة التوازن عمليةً شديدة الدقة والحساسية.

ختاماً، لا يمكن اختزال الممر الهندي-الأوروبي في كونه مشروعاً للنقل أو التنمية الاقتصادية فحسب؛ بل هو "خريطة إستراتيجية متحركة" تتجاوز حدود التجارة لتعيد تعريف النفوذ والصراع في الشرق الأوسط. تسعى إسرائيل لتكريس موقعها كمركز لوجستي محوري في قلب النظام الإقليمي، بينما تجد إيران نفسها أمام اختبار إستراتيجي يفرض إعادة تموضع شامل على مستويات الجغرافيا والاقتصاد والتحالفات والأمن السياسي. ويبقى السؤال الجوهري: هل ستُحسم معارك النفوذ على قضبان السكك الحديدية أو على جبهات المواجهة التقليدية؟ في عمقه، يشكّل الممر إطاراً لإعادة صياغة النظام الإقليمي، وتحويل إسرائيل إلى عقدة إستراتيجية في الشرق الأوسط، بما يمنحها مكاسب وازنةً، لكنه في المقابل يُعيد تراجع التأثير الفلسطيني في المعادلات الإقليمية، ويعيد هندسة موازين القوى لصالح إسرائيل وحلفائها، ليصبح الممر أداةً مركزيةً في رسم معادلات النفوذ الإقليمي لعقود مقبلة.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

قد لا توافق على كل كلمة ننشرها…

لكن رصيف22، هو صوت الشعوب المضطهدة، وصوت الشجعان والمغامرين. لا نخاف من كشف الحقيقة، مهما كانت قبيحةً، أو قاسيةً، أو غير مريحة. ليست لدينا أي أجندات سياسية أو اقتصادية. نحن هنا لنكون صوتكم الحرّ.

قد لا توافق على كل كلمة ننشرها، ولكنك بضمّك صوتك إلينا، ستكون جزءاً من التغيير الذي ترغب في رؤيته في العالم.

في "ناس رصيف"، لن تستمتع بموقعنا من دون إعلانات فحسب، بل سيكون لصوتك ورأيك الأولوية في فعالياتنا، وفي ورش العمل التي ننظمها، وفي النقاشات مع فريق التحرير، وستتمكن من المساهمة في تشكيل رؤيتنا للتغيير ومهمتنا لتحدّي الوضع الحالي.

شاركنا رحلتنا من خلال انضمامك إلى "ناسنا"، لنواجه الرقابة والترهيب السياسي والديني والمجتمعي، ونخوض في القضايا التي لا يجرؤ أحد على الخوض فيها.

Website by WhiteBeard
Popup Image