أنا والبهاق ومحمد منير…

أنا والبهاق ومحمد منير…

مدونة نحن والحقوق الأساسية

الثلاثاء 14 أكتوبر 202511 دقيقة للقراءة

كان ذلك في أحد صباحات أواخر شهر آب/ أغسطس 2019، عندما انتبهت إلى تلك البقع الأكثر بياضاً في وجهي ويدَيّ. لم أكن معتادةً حتى ذلك الوقت على المشكلات الجلدية الاعتيادية، فقد حباني الله بشرةً صافيةً ونضرة.

في البداية، لم أُعر هذه البقع البيضاء بالاً، وأرجعتها إلى الزيادة في الوزن التي عانيت منها في ذلك الوقت بالإضافة إلى الانتفاخ، أو ربما الضغط، والهرسلة (المضايقات) التي كنت أتعرّض لها بشكل يومي في العمل، حتى بدأت تلك البقع بالتوسّع والانتشار.

أخبرني الطبيب بلطف: "إنه Vitiligo" (بهاق). لم أفهم في البداية المصطلح الذي كان جديداً عليّ، ولكنني أدركت المعنى في عينيه حتى قبل أن يفسّره لي. استقبلت الخبر بهدوء غريب مزدحم بالأسئلة.

سألني إن كان هذا المرض وراثياً في العائلة، فأكدت له أنني الأولى.

بعد رحلة مضطربة مليئة بالأسئلة وبالمخاوف، آن لي أن أفتخر علناً بعبور الظلام إلى ضفة النور، وحدي. عبرت حرفياً على سفح البركان حافيةً، وواجهت نظرات الناس وأسئلتهم الصامتة واستجواباتهم الوقحة واقتراحاتهم المتطفّلة… عن البهاق والعزلة والخذلان

حان دوري لأسأله بتردّد وصوت خفيض: هل سيتغير شكلي كثيراً؟ ماذا عليّ أن أفعل؟ كيف يجب أن أتصرّف؟ هل سيغير هذا المرض حياتي؟… كنت جاهلةً وحائرةً وغريبةً تماماً عن نفسي.

دار حول مكتبه، وجلس على الكرسي المقابل: "تحدّثي معي… ماذا حدث معك في الفترة الأخيرة؟ هل فقدتِ عزيزاً عليكِ؟ هل تعرّضت لضغوط عاطفية أو عائلية؟ هل تعرّضت للهرسلة في العمل مثلاً؟".

للوهلة الأولى صُدمت من أسئلته، ثم بدأت الغيمة فجأةً تنقشع ومرّ أمامي شريط الذكريات القريبة… هل يُعقل أنني مررت بذلك كله ولم أنتبه؟ أو ربما خطت تلك الأحداث فوق جسدي؟ هل يُعقل أنني نسيت وأنا أحاول أن أخرج نفسي من كل ذلك الخذلان والخيبة والحقد، وبدلاً من أن أحرّر روحي من وجود هذه المشاعر، أغرقتها فيها حتى طبعت على جلدي؟ كيف أخبره بأنّ ذلك كله حدث معي؟

تبسّمت له، وقلت: "لا أذكر أنّ شيئاً من هذا حدث معي".

حتى ذلك الوقت، لم أكن قد تعلّمت بعد الحديث عن نفسي، ودون خجل.

خرجت من العيادة مذهولةً تماماً، أنظر إلى السبابة اليمنى التي أشهد بها؛ كان لونها قد بدأ يتغيّر، أو بالأحرى بدأت تتمازج فيها درجات اللون الأبيض.

حينها، استوقفتني عجوز: "يرضى عليكِ عاوني حتى بحق خبزة".

نظرت إليها بذهول، فتحت حقيبتي بيدٍ مرتعشة وسلّمتها ورقةً ماليةً وأنا في حالة تشبه الغياب عن الوعي. نظرت إليّ، وكادت تطير فرحاً: "برا بنيتي يفت…"، قالت.

لم أعد أسمع ما تقوله، فقد ذبت وسط الزحام في الشارع الواسع باتجاه ذلك المؤدّي إلى شاطئ البحر، فالبحر صديقي الوحيد الذي يحسن الاستماع إليّ، وهي صفة كان أولئك الذين خذلوني يمتدحونني بها.

جلست في المقهى المتكاسل على شاطئ "بوجعفر"، أحد شواطئ مدينة سوسة الساحلية، وجاء صديقي النادل الوسيم الذي لطالما تودّد إليّ، خاصةً عندما أحضر حاسوبي معي للعمل. كان يسرق لحظات للجلوس معي والحديث حول البطالة، وتدنّي الأجور وخيانة السياسيين لمشاغل شباب الثورة، وانسداد الأفق أمام هؤلاء، حتى صار "حلم الحرقة" (الهجرة غير النظامية)، عدوى تنتشر في هواء فاسد يخنقهم.

كان يرحّب بي ويسألني عن حاسوبي، ويتوقّع أنني لن أبقى طويلاً هذه المرة.

لم أكن أسمعه، فقد كنت أتحدّث إلى نفسي: هل سيتعامل معي هكذا، بعد أشهر، عندما تنال هذه البقع من كل مساحتي الجلدية، أو سيهرب نافراً؟

جلست أنظر إلى البحر وأسأله: هل هذا اختبار آخر من الله؟ لا أظنني سأنجح هذه المرّة في تجاوزه. ربّما هي آخر مرّة سأجلس إليك فيها علناً. سأنعزل، وأحاول إيجاد عمل منزلي. ربما أقوم بكتابة قصص باسم وصورة مستعارَين حتى لا يعرفني أو يتذكّرني أحد، وربما سأزورك ذات فجر أو ذات ليل، عندما يكون الناس نياماً. أو ربما هو عقاب إلهي لذنب ارتكبته ونسيته في خضم صراعي مع الحياة. ربما جرحت أحدهم دون قصد، فأنا لا أتعمّد، حسب ما أذكر، الإساءة إلى الغير. هل ارتكاب إساءة واحدة متعمّدة يوجب أن أنال مثل هذا العقاب؟ هل كانت سيئةً إلى هذا الحدّ؟ إذاً، لماذا لم يعاقب ربي أولئك الذين أساؤوا إليّ حتى اليوم، برغم كل ما تعمّدوا فعله بي وإصرارهم على ذلك؟

رفعت نظري فالتقيت عينين صغيرتين وشفاهاً مبتسمةً لطفل مكتنز يصفق فرحاً. ابتسم لي بخجل وأشار إليّ وهو يغمغم، فابتسمت، لأنني كعادتي دوماً أينما أذهب، أثير الأطفال والقطط.

تلاشت ابتسامتي وحدّقت في الطفل مصدومةً: سيكره الأطفال وجهي، منذ اليوم أو ربما سأثير رعبهم… يا الله.

عدت إلى البيت مسرعةً، وخائفةً من شيء ما لا أدرك كينونته: المجهول. كنت دوماً على موعد معه في مراحل عدّة من حياتي، أستشعره يترصدني خلف إحدى الزوايا المظلمة، ينتظر سقوطي بنهم، وأنجح دوماً في الإفلات منه في اللحظة الأخيرة.

لقد ربحت كل الجولات السابقة، وأظنني خسرت المعركة بالضربة القاضية.

دخلت غرفتي طالبةً بعض العزلة والصمت. استلقيت على فراشي ونظرت إلى السقف في حالة من اللاشيء، اللاأفكار. حتى الأسئلة المزعجة الغبية اختفت.

فتّشت في قائمة الهاتف، ما من صديق أثق به أو حبيب أهاتفه. أين أولئك الذين وجدوني عندما احتاجوا إليّ؟ لماذا لا أجدهم؟

لم يبقَ لي إلا محمد منير... كان يغنّي "مهموم"، أغنيته الجديدة. هل كان منير يعلم بما يحدث لي؟ لا شكّ أنّ هذه الأغنية لي.

"عملت لحبّكو ألف حساب أنا عاشق فعلاً مش كدّاب... كل اللي حييجي في بال إنسان ليكو عملته. قلبي المحني بحمل الأشواق تقلت شيلته… بتحبوني ولا ده كيفكو تتحدوني. اللي ما بينا بقى بالنسبالي مهوش مفهوم... على قدّ الحب بيبقى اللوم وأنا باقي عليكو… إنما مهموم… والغربة في حضنكو طعمها خوف"... أسمعه فتتساقط دموعي. تغرقني. شهقت حتى لم أعد أجد أنفاسي، وبكيت حتى غرقت في نوم عميق جداً.

حين شخّص الطبيب مرضي، أردت أن أصيح بصوتٍ عالٍ: أنا خائفة، ولست كما أبدو لكم، التفتوا إليّ، اعتنوا بي، لا أرغب بعد اليوم في أن أكون تلك الفتاة القوية المستقلة قليلة الشكوى

هو الخوف... تلك الرائحة القديمة الجديدة، القادمة من زمن ليس ببعيد، عادت تتسلّل كغبار نووي إلى هوائي. الخوف من كائن مجهول لا أعرفه، اقتحم حياتي بطلاسم نحتت في جلدي ولا سبيل إلى فكّ "لعنتها".

أكثر ما تملّكني في تلك الأيام، الرغبة في الصياح بأعلى صوت: "أنا خائفة، ولست كما أبدو لكم، التفتوا إليّ، اعتنوا بي، لا أرغب بعد اليوم في أن أكون تلك الفتاة القوية المستقلة قليلة الشكوى".

لكن لم يكن لي صوت. العائلة كانت وقتها منشغلةً في مواجهة مرض خالي الأصغر الذي اكتشفنا أنه مصاب بالسرطان. لم يكن هناك وقت لي... لا كلمات تشجيع ولا رعاية خاصة ولا بحث عن حلول طبية ناجعة.

كنت حزينةً جداً من أجل خالي العزيز، لكنني كنت أنانيةً جداً أيضاً، وأحسده على كل ذلك الحب والاهتمام اللذين حظي بهما خلال مرضه، بينما تُركت أنا وحيدةً أواجه مخاوفي وحدي وأسئلتي في رحلة طويلة أستعجل نهايتها، ولا أملك مفاتيحها.

أستعيد اليوم ذلك المشهد، وقد تعلّمت أنّ الحياة تعصرنا حتى تتأكد بطريقتها الخاصة ما إذا كنا جاهزين للتحدّي التالي. أظن أنّ الحياة تعصرك أقوى كل مرّة وفق ما تحتويه سيرتك الذاتية من تجارب قديمة وتحديات سابقة. فكلما كنتَ أقوى توقّع أن يكون التحدي التالي أصعب، وفي كل مرة سيزداد عدد التجارب في الباقة الواحدة، قدر الألم وكمية التجارب الموجعة التي تخرجت منها منتصراً في التحدي السابق.

لا مجال للمساومة، وإن اخترت أن تستسلم فعليك أن تتحمّل النتائج. نعم، الاستسلام خيار، بل هو خيار يبدو سهلاً ولذيذاً ومحبّباً إلى القلب.

التخلّص من الحياة كان أيضاً خياراً، تلك الفكرة الغامضة التي تجمعك سرّاً بالله، فتجعلك تظن أنه، وهو العالِم بك وبخبايا نفسك، سيعفو عن قرارك الأحادي إلى الرحلة الأخيرة. أليس هو القائل: "لا يكلّف الله نفساً إلا وسعها"؟ وهو العالِم بذات الصدور، ودرجة طاقتها على التحمّل؟ هو وحده سيدرك حقيقة نفاد طاقتي.

لم يعد في النفس نفسٌ، فما ألذّ الاستسلام وما أسهل فكرة أن ينتهي كل شيء.

راودتني كل هذه الأفكار والأحلام التي ظننتها آنذاك "سهلةً". على حافة النافذة الكبيرة، كنت أتطلّع إلى السماء، وأحادثها بلا حواجز ولم أشعر بضغينة منها، كنت ممتنّةً جداً لها لأنها لم تتلُ عليّ قائمة الأعمال الصالحة، والتوبة من ذنوب لا أذكر أنني ارتكبتها، وتسرد عليّ قصص الصبر والصالحين.

كانت تنصت إليّ بصبر، ولكنها لم تمنحني الإجابات السهلة التي كنت أبحث عنها. لا إجابات تشبهني. لا إجابات تترجمني... لكن، ما الذي أبحث عنه؟

أيّام طويلة بلياليها، قضيتها وسط الدائرة المغلقة لنافذة كبيرة، كانت هي صوتي اليتيم في هذا الكون ومنفذي الوحيد لأعرف أنني لا أزال على قيد الحياة. ثمّ تلك المرآة المعلقة في غياهب صمتي تدقّ مساميرها كعقارب ساعة حائطية تبحث عن العناوين والإجابات في دائرة الزمن القريب، والبعيد. مرآة جلدت ذاتي أمامها حتى آخر قطرة في ذاكرتي، واتهمتني بكل الظلم الذي سلّطوه عليّ.

صرخت فيها: لا حبيباً يخون عهده، ولا صديق يفرّط فيك بسهولة، ولا قريب يستسهل وجعك، ولا أعداء يجتمعون عليك إلا لعيبٍ فيك وروح شيطانية تتلاعب بك.

وتكتمل الدائرة بتلك الوجوه المرصّعة على جدار الذاكرة التي لا تهدأ رحاها، فتزهر حقداً وخذلاناً. أن تعيش الظلم حتى العمق حتى ينطبع عليك، كانت ساعة الصفر، لكني لم أدرك ذلك حينها.

اليوم، وأنا أقف على أطلال تلك الذاكرة الهزلية، وأبتسم لضوء القمر المزروع في جلدي، وأنصت بمتعة وحبّ إلى رسائل ذلك الكائن المجهول الذي خفت منه يوماً، كترانيم مقدّسة أو أجراس تدق إيقاع الحياة الجديدة. أتذكّر أنه لم يكن سهلاً الخروج من تلك الدائرة، وليست بطولة ما عايشت وما تجاوزت، بل كانت ملحمة.

نعم، آن لي أن أفتخر علناً بعبور الظلام إلى ضفّة النور، وحدي، دون قريب أو حبيب أو صديق، أو حتى عدوّ تمكّن مني.

اليوم، وأنا على أطلال تلك الذاكرة الهزلية، بعد أن عدت من لحظة الصفر، لا إيمان مطلقاً إلا بالسماء وبالروح التي نفختها في كياني، ولا فخر إلا بحياة طرّزتني بحنّة سرمدية.

لقد عبرت حرفياً على سفح البركان حافيةً، واجهت نظرات الناس وأسئلتهم الصامتة واستجواباتهم الوقحة واقتراحاتهم المتطفّلة.

خرجت ذات صباح، ولم أعد أملك ما أخفيه، أو بالأحرى لم أُرِد أن أخفي شيئاً. لقد كان إعلاناً جديداً، جسداً جديداً أفتخر به ولن أخبّئه. قلت للجميع: أنا لا أحتاج إلى ختمٍ يؤكد هويتي وإيماني وقد ختمتني الحياة، ونزعت عني حجاباً لم أرتدِه يوماً مقتنعةً، بل كانت أوامر أبوية، أسترضيه بها ولم أرضَ يوماً بها، فتنازلت عنه وعن تلك الأوامر. 

حريّ بأبي اليوم أن يستمع إلى صوت روحي، وحريّ بي أن أراقص الحياة بلا حواجز.

خرجت من هذه الدائرة متعطّشةً إلى مواجهة العالم بجلدٍ مكشوف. غادرت علاقاتي كلها، وزهدت في كل ما عملت عليه وطمحت إليه طوال سنوات عملت فيها بجدّ، وأحببت بصدق، وآمنت بالصداقة فيها حتى العمق

خرجت من الدائرة متعطّشةً إلى مواجهة العالم بجلدٍ مكشوف. غادرت علاقاتي كلها وزهدت في كل ما عملت عليه وطمحت إليه طوال سنوات عملت فيها بجدّ، وأحببت بصدق، وآمنت بالصداقة فيها حتى العمق واكتشفت في المشهد الأخير أنني كنت مجرد "سدّ خانة" وجسراً للعبور وإناءً لاستفراغ طاقتهم السلبية، ثم يمرّون بعدها فوق وجعي صمّاً، بكماً، لا يلتفتون إليّ.

لقد احترقت ذات صيف حتى كرهت مرآتي، ونفرت من النظر إليّ. رمّمت مرآتي وحدي، وأحرقت كل المراكب خلفي وحدي، وبحثت عن الحلول البديلة وحدي، وقضيت ليالي طويلةً أتجرّع الصورة الجديدة والتوقعات وحدي، وبُعثت وحدي.

العناوين الكبيرة لم تستسلم بسهولة لرغبتي في الكتابة عن تلك التجربة، لقد كان شللاً موضعياً مؤقتاً، يهرب مني إلى آلة زمن معطّلة. 

قرأت ذات يوم أنّ الكتابة ولادة من الخاصرة. لقد حاولت منذ اللحظة الأولى استفراغي بواسطة الحبر، وتكريس كل اللغة لأتخلّص من ثقلي. لم أكن أتصوّر أنّ المحاولة ستمتد ستّ سنوات، أخضع فيها لقوانين الصمت العقابي من الذات التي جلدتها طويلاً، حتى تعلّمت كيف أحيا تلك الحياة كما هي، وأن أكون فيها القلب والنبض. لا مواعيد نهائيةً، ولا فصول أخيرة، لا جسور بلا أوتاد، لا بدايات بلا نهايات، ولا نهايات محدّدة.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

من 12 سنة لهلّق، ما سايرنا ولا سلطة، ولا سوق، ولا تراند.

نحنا منحازين… للناس، للحقيقة، وللتغيير.

وبظلّ كل الحاصل من حولنا، ما فينا نكمّل بلا شراكة واعية.


Website by WhiteBeard
Popup Image