مع كثرة التكهنات والتسريبات حول تفاهمات سورية إسرائيلية على اتفاقيات أمنية بين دمشق وتل أبيب، تتبادر إلى الذهن تساؤلات عدة، بما في ذلك موقف العناصر والجماعات الجهادية في سوريا تجاه هذا التطبيع المحتمل، ولا سيّما أنّ توقيع مثل هذه الاتفاقيات يتناقض شكلاً ومضموناً مع سرديات الجهاد السلفي التي ترى في إسرائيل عدوّاً يجب القضاء عليه.
بحسب مؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات (FDD)، فإنّ الاتفاق الذي قطع مسؤولون سوريون وإسرائيليون شوطاً كبيراً في التوصّل إليه، بوساطة أمريكية، لا تزال تعرقله مسائل عالقة تتعلّق بـ"التوقيت الدقيق للإعلان عنه"، و"الاعتبارات السياسية الداخلية" في سوريا.
وفي نهاية أيلول/ سبتمبر 2025، قالت أربعة مصادر مطلعة على المحادثات، لوكالة "رويترز"، إنّ جهود التوصّل إلى اتفاق أمني بين سوريا وإسرائيل واجهت عقبةً في اللحظة الأخيرة بسبب مطلب إسرائيل السماح لها بفتح "ممر إنساني" إلى محافظة السويداء (جنوبي سوريا).
أياً كان الأمر، فإنّ المفاوضات السرّية التي تحدثت عنها مصادر متنوعة مُطلّعة قد تفضي في أي وقت إلى اتفاق بين دمشق وتل أبيب. وفي كلّ الأحوال، تبقى المخاوف من موقف العناصر والجماعات الجهادية في سوريا، التي شاركت في الإطاحة بنظام بشار الأسد بقيادة الرئيس الانتقالي حالياً أحمد الشرع، أحد أهم "الاعتبارات السياسية الداخلية" التي تؤثّر على توجّه الحكومة الانتقالية السورية في مسألة توقيع اتفاق مع إسرائيل، خاصةً أنّ ذلك يصطدم بأيديولوجيتها الدينية، ومن ثم هناك سيناريوهات عديدة تطرح نفسها على صعيد هذه الجماعات حال توقيع أي اتفاق، وهو ما نسعى إلى رصده في هذا التقرير.
ترى قنديل أنه لا يمكن النظر إلى انفتاح أحمد الشرع، على التعاون الأمني مع إسرائيل بعيداً عن رحلته البراغماتية، حيث قد ينظر إلى التطبيع مع إسرائيل على أنه "تكيّف واقعي"، وأداة لاستمرار النظام وقبوله دولياً
"العدوّ القريب" و"العدوّ البعيد"
الفصل بين "العدوّ القريب" و"العدوّ البعيد" إطار أساسي في الفكر الجهادي ضد إسرائيل، تشرح الباحثة غدي قنديل في دراستها "التطبيع سردية للخيانة... قراءة جهادية للتقارب السوري الإسرائيلي"، المنشورة عبر مركز الدراسات العربية الأوراسية، مبرزةً أنّ "العدو القريب" يشمل الأنظمة المحلية "المرتدة" -من وجهة نظر الجماعات الجهادية- وكذلك الحكومات العربية العلمانية. في حين يتمثّل "العدو البعيد" في القوى العالمية، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوروبية وإسرائيل، والتي تدعم الأنظمة المحلية، ويُنظر إليها على أنها "معتدٍ خارجي على الإسلام".
وبحسب قنديل، تُصنّف إسرائيل بأنها محور "العدو البعيد"، ليس فقط لموقعها الجغرافي، ولكن أيضاً لمركزيتها الأيديولوجية والرمزية في النظرة الجهادية العالمية، إذ يُنظر إلى إسرائيل على أنها مشروع استعماري غربي مفروض على أرض المسلمين، ووكيل للمصالح الأمريكية في الشرق الأوسط، فضلاً عن كونها معتدياً دائماً على الإسلام بسبب احتلالها فلسطين، وهي أرض مقدّسة في الفقه الإسلامي. وعليه، تُعدّ أيّ محاولة من جانب النظام السوري لتطبيع العلاقات مع إسرائيل خيانةً دينيةً ووطنيةً، لا مناورة سياسية في وجهة النظر هذه.
ترى قنديل أيضاً، في دراستها، أنه لا يمكن النظر إلى انفتاح أحمد الشرع، على التعاون الأمني مع إسرائيل بعيداً عن رحلته البراغماتية، خاصةً عقب سقوط نظام الأسد في كانون الأول/ ديسمبر 2024، حيث كثّف مقابلاته مع وسائل الإعلام الغربية، ليؤكد تخلّيه الرمزي عن عباءة التشدّد بهدف جذب الجهات الفاعلة الدولية، ومن ثم يُمكن النظر إلى التطبيع مع إسرائيل على أنه "تكيّف واقعي"، وأداة لاستمرار النظام وقبوله دولياً.
غير أنّ براغماتية الشرع قد تُعرّضه لخطر وصف الفصائل الأصولية له بالخائن أو المُبتدع، ما قد تترتب عليه إثارة التشرذم أو التمرّد داخل صفوفه، وتقويض ادعائه بالأصالة الدينية، ما يفرض عليه صياغة خطاب سياسي جديد لتبرير تحوّل الموقف التاريخي تجاه إسرائيل، حسب ما تقول قنديل.
ولإضفاء الشرعية على هذا التطبيع، قد يُركّز أحمد الشرع، على توظيف مبادئ الشريعة الإسلامية، من منظوره ووفق تفسيره أيضاً، مثل المصلحة والضرورة، واستحضار سوابق تاريخية، والرسائل المزدوجة المُستخدمة للحفاظ على شعبيته بين صفوف المجاهدين داخلياً وخارجياً.
وفي السلفية الجهادية، ينبغي أن يكون أي انحراف عن العداء تجاه إسرائيل قائماً على أساس فقهي. ومن ثم قد يجادل الشرع في أنّ التطبيع يخدم مصلحةً مجتمعيةً أكبر، مثل الحفاظ على "السيطرة السنّية على سوريا"، و/ أو "منع الاحتلال الأجنبي". كما قد يلجأ أيضاً إلى "مبدأ الضرورة"، الذي يجيز أفعالاً غير مسموح بها لتجنّب الضرر. وفي هذا الإطار، يُعدّ التعامل مع جهات معادية -مثل إسرائيل- أمراً مسموحاً به مؤقتاً لضمان بقاء الدولة السورية الجديدة وسيادتها.
فضلاً عن كل ما سبق، قد يستشهد الشرع بوقائع إستراتيجية من التاريخ الإسلامي المبكر لتبرير موقفه، على غرار "صلح الحديبية"، الذي كثيراً ما يُستخدم في الخطاب الجهادي لتبرير الهدن المؤقتة مع الأعداء، حيث قد يصوّر من خلاله التطبيع بأنه مناورة تكتيكية، لا خيانة.
إلى ذلك، قد تواجَه هذه المبررات برفض بعض الفصائل أو العناصر الجهادية، حينها، قد يواجه الرئيس الشرع سيناريو جديداً يتمثّل في إعادة النظرة الجهادية السنّية خطابياً وإستراتيجياً إلى "محور المقاومة" الذي يضمّ الفصائل الشيعية المدعومة من إيران، وعدّ هذا المحور المناضل الوحيد لأجل القضية الفلسطينية في مقابل "التخاذل السنّي"، واعتبار أنّ خطاب "المقاومة السورية" ضد إسرائيل كان ستاراً لهيمنة هيئة تحرير الشام على مفاصل الدولة السورية، ما قد يدفع بعض هذه العناصر والفصائل المنضمّة إلى الجيش السوري الجديد -خاصةً الفصائل السنّية ذات الأصولية الجهادية- إلى التقارب التكتيكي مع جماعات شيعية، وإن لم تغيّر أيديولوجياتها المعادية لـ"محور المقاومة".
صدام مسلّح؟
الفصائل الجهادية، سواء كانت تضمّ قادةً ومقاتلين سوريين أو أجانب، في مأزق وحيرة مما يحدث من تطوّرات، حيث تندفع الحكومة الانتقالية باتجاه عقد اتفاق تعاون أمني مع إسرائيل، ربما يتطوّر مستقبلاً إلى اتفاق سلام، مدفوعةً بالرغبة في نيل الاعتراف الإقليمي والدولي، ورفع العقوبات عنها، فصائل وأفراداً، وتالياً قد تضطر هذه الفصائل إلى الالتزام بأيّ اتفاق مع إسرائيل. لكن بعضها قد يدخل في صدام مسلّح مع الحكومة الانتقالية، وهذا ما يراه الباحث السياسي السوري عبدالرحمن ربوع.
يتوقّع سلطان أنّ يقدّم الرئيس الشرع مبررات عديدةً لتسويق الاتفاق مع إسرائيل، منها "حكم الضرورة"، ومن ثم سيقول إنه "مضطر" إلى هذا الاتفاق، متكهناً بأنّ الفصائل الجهادية لن تصمت على هذا الاتفاق فحسب، بل بعضها قد يبرّره ويروج له باعتباره "مصلحةً وطنيةً"
يتوقّع ربوع، في حديثه إلى رصيف22، أنه في حال توقيع اتفاق من أي نوع أو شكل بين دمشق وتل أبيب، ربما تمرّ سوريا بمرحلة من الاقتتال بين بعض الفصائل الرافضة لهذا الأمر، والتي تحاول خرقه عبر أعمال تخريبية تستهدف قيادات الحكومة أو تلك التي اختارت الاتفاق مع إسرائيل، وسيكون على الحكومة الانتقالية وضع حد لذلك، وربما تصفية هذه المجموعات التي ستخرج عن قرار الحكومة وتعارضه نهائياً. كما يمكن لهذه الفصائل الرافضة أيضاً أن تستهدف جنوداً إسرائيليين في مناطق تواجدهم سواء داخل الأراضي السورية أو عند الطرف الآخر من الحدود.
في الوقت نفسه، يستبعد ربوع سيناريو تقارب مجموعات جهادية سورية مع المحور الشيعي على خلفية أي تطبيع أو تعاون محتمل بين الحكومة الانتقالية وتل أبيب، مستدركاً بأنه قد تنخرط بعض المجموعات غير السورية في اتفاق تكتيكي مرحلي مع الإيرانيين أو الأحزاب والفصائل الشيعية في العراق أو لبنان، وسيكون عليها مواجهة الحكومة السورية الحالية وبقية الفصائل الجهادية السورية التي تبدو في حالة قطيعة تامة وعداء مطلق مع الجانب الشيعي.
الجماعات الجهادية وتسويق التطبيع
أما الباحث في الأمن الإقليمي والإرهاب، أحمد سلطان، فلديه وجهة نظر مغايرة إذ يقول لرصيف22، إنّ الرئيس الشرع سيمضي في مساره بغض النظر عن موافقة هذه العناصر الجهادية من عدمها، متوقعاً أنه "لن يكون هناك تمرّد واسع أو خروج عن الخط العام الذي رسمه".
ويعدّد سلطان، الأسباب التي تعزّر اعتقاده ذلك بأنّ الرئيس الشرع أعلن بعد وصوله إلى السلطة انتهاء عصر الثورة وبدء عصر الدولة، وهذا يعني تحوّلاً في الفكر الحركي الجهادي من إستراتيجيات وتكتيكات معيّنة إلى أخرى، ويقتضي ذلك منه أن يسير في طريق مختلف يشمل الاتفاق مع الولايات المتحدة وإسرائيل.
وبحسب سلطان، سيقدِّم الرئيس الشرع مبررات عديدةً لتسويق الاتفاق مع إسرائيل، منها "حكم الضرورة"، ومن ثم سيقول إنه "مضطر" إلى هذا الاتفاق، وليست هناك خيارات أخرى أمام سوريا، وإنه في مرحلة بناء الدولة من جديد، ولا يريد أن تعطّله مثل هذه المسائل عن مساره، كما أنه لا يملك أي وسائل لمواجهة إسرائيل.
ولن تصمت الفصائل الجهادية على هذا الاتفاق فحسب، بل بعضها قد يبرّره ويروّج له باعتباره "مصلحة وطنية"، برغم أنّ هذه الحركات من المفترض أنها تنتمي إلى السلفية الجهادية التي ترتكز على منظومة عقائدية قائمة بالأساس على قضايا الجهاد والحاكمية وغيرها، يضيف سلطان.
هذا التصرّف المتوقّع من هذه الحركات، يفسّره سلطان بـ"اختلاف الحالة الجهادية السورية عن الحركة الجهادية التقليدية أو العالمية والتي يمثّلها تنظيم داعش أو ما تبقّى من تنظيم القاعدة"، حيث طرأت على الأولى تحوّلات على مستوى البنيتين التنظيمية والأيديولوجية، وكذلك على مستوى الخطاب الجهادي، وترافق ذلك مع حملات كسر شوكة الفصائل الخارجة عن هذا التوافق.
وعليه، تشكّل الحكومة الانتقالية السورية الآن امتداداً للعمل الطويل الذي قام به الرئيس الشرع ورفاقه في هيئة تحرير الشام، وتمثّل جزء منه في تحجيم بعض الفصائل وإخضاعها جميعها لأحمد الشرع والتوجّه العام الذي يقوده.
كما يدلّل سلطان على هذه التحوّلات بما حدث مع تركيا، ففي بداية تدخّلها واتفاقية المدن الخمس مع روسيا ونظام بشار الأسد، كان التيار الجهادي يقول إنه سيضرب أيّ جيش يدخل إلى مناطق الشمال الغربي في سوريا، وسيعدّ القوات التركية قوات مرتدةً، لكن بعد ذلك تعاونت هيئة تحرير الشام مع تركيا وتم التنظير لهذا فقهياً. ومن ثم، كما يقول سلطان، "نحن أمام سيرورة أيديولوجية، بمعنى أنّ التحوّلات تحدث ثم يتم التنظير لها بعد ذلك".
ويتابع سلطان، بأنّ أقصى ما يمكن أن يحدث من قبل بعض الفصائل الجهادية السورية المعترضة على الاتفاق مع إسرائيل هو الاعتزال وعدم الاشتراك في هذا الأمر، لكنها لن تتقارب مع المحور الشيعي باعتباره محور المقاومة الوحيد، فالحمولة الأيديولوجية فضلاً عن العداء والسواتر الكبيرة بين السلفية الجهادية والمحور الشيعي تحول دون ذلك في اللحظة الحالية، ولكن قد يتقارب فصيل من السلفية الحركية العالمية مع إيران استناداً إلى معيار "وحدة الأمة الإسلامية"، وسيتم وضع تنظيرات فقهية لذلك.
"لا يمكن وضع كل الجماعات الجهادية في سوريا في سلّة واحدة"، بحسب غيث، الذي يشدّد على أنّ هناك حركات منضويةً تحت لواء أحمد الشرع ترى أنّ التطبيع مع إسرائيل سيتحقّق بالتدريج، مقابل جماعات أكثر تشدّداً ترى أنّ التطبيع خط أحمر
"تخلّي" الرئيس الشرع عن أيديولوجيته
في الأثناء، "لا يمكن وضع كل الجماعات الجهادية في سوريا في سلّة واحدة"، حسب ما يقول الباحث في العلاقات الدولية، رمضان الشافعي غيث، لرصيف22. يشرح غيث أنّ هناك حركات منضويةً تحت لواء أحمد الشرع ترى أنّ التطبيع مع إسرائيل سيتحقّق بالتدريج، وترى أيضاً أنه من دون الرئيس الشرع لا يمكن أن تقبل بأشياء مثل التطبيع، لكن إذا قام هو نفسه به فستقبله، وذلك بالرغم مما يعدّه البعض منها تخلّياً منه عن أيويولوجيته ومحاولته تغيير صورته وخلفيته الجهادية التي أتى منها، وذلك في سبيل نيل الرضا الدولي وإعادة إعمار بلاده والتهدئة مع إسرائيل.
ويردف بأنّ هناك جماعات أكثر تشدّداً ترى أن التطبيع خط أحمر، وأنّ الرئيس الشرع لم ينفّذ ما طمحت إليه، لكنها في كل الأحوال لن تلجأ إلى تنفيذ عمليات مباشرة تجاه إسرائيل، لأنّ معظمها يرى ضرورة الإصلاح من الداخل أولاً، بمعنى أنّ إصلاح المسلمين سيؤدي إلى إصلاح أمور أخرى، على حد قوله. ويستطرد بأنه قد تنشّط هذه الجماعات في سوريا في ظلّ هشاشة الوضع الأمني، لكن يمكن السيطرة عليها من خلال التعاون مع الغرب وشنّ بعض الهجمات على مواقعها في إطار التحالف الدولي لمحاربة "داعش"، وكذلك في ظل وجود بعض القوات الأمريكية في سوريا.
ختاماً، يستبعد غيث تقارب هذه الجماعات المعترضة على التطبيع مع إيران، لأنّ السلفية الجهادية عموماً ترى أنّ التقارب مع المحور الشيعي من "المحرمات".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.