في طريقي إلى مستشفى ناصر الطبي، مشيت على أقدامي مسافةً تناهز ثلاثة كيلومترات من منطقة نزوحي في مواصي خان يونس جنوبي قطاع غزّة، لإعداد تقرير صحافي عن تبادل الأسرى في سياق اتفاق وقف إطلاق النار في غزّة.
كانت هذه المرة الأولى التي أغطّي فيها حدثاً مهيباً كهذا. صوت الأقدام المتلاحمة يمتزج بلهفة الأطفال وشوق الأمهات وصبر الآباء. من حولي وجوه مألوفة، جيران وأقارب وأناس آخرون لا أعرفهم، يتبادلون بصوت عالٍ أخبار قرب وصول الأسرى إلى غزّة، وآخرون ينفون هذه الأخبار. المدينة كلها تتحرّك في موجة واحدة. إنه يوم التقاء كل أصناف المشاعر في آن واحد.
أجساد نحيلة منهكة، وأرواح تطير فرحاً باللقاء، وباحثون عن مفقوديهم… وعد أبو زاهر تكتب لرصيف22 عن لحظات عودة الأسرى المحرّرين إلى غزّة واستعادة المدينة نبضها
13 تشرين الأول/ أكتوبر 2025، هو اليوم الذي شهد عملية تسليم الأسرى الإسرائيليين في قطاع غزّة، وفي الوقت نفسه إطلاق سراح أسرى فلسطينيين من السجون الإسرائيلية، وفقاً لخطة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، حيث أُفرج عن 1،950 أسيراً فلسطينياً من قطاع غزّة، ضمن الصفقة.
هو يومٌ يُعيد إلى غزّة نبضها. وصلت إلى المستشفى، دقائق طويلة من الانتظار ثم فُتحت البوابة ببطء، دخل الباص الأول، فالثاني… توقّف الزمن لحظةً، كل شيء من حولي اختفى إلا وجوه الأسرى المحرّرين. الرؤوس التي تصدّعت من الألم تخرج من شبابيك الباصات، والسؤال الأكثر تكراراً: "وين أمّي؟"، "أهلي بخير؟".
آلاف الأصوات المتناثرة في الهواء الرطب. بعضهم يسقط في كرسيّه، يضمّ رأسه بين يديه، يبكي بحرقة. كنت أراقب اهتزاز كتفيه بنهمٍ حين يخبرونه بأنّ أحداً من عائلته قد استشهد أو جميعهم... والبعض الآخر يطير فرحاً حين تكون الإجابة "كلهم بخير"، فيهلّل، ويكبّر، و/ أو يبكي فرحاً.
تتدافع القلوب المتلهّفة بأجسادها نحو شبابيك الباصات، لتكون أقرب ما يمكن ممن ينتظرونها. يمدّ الأسرى أياديهم من النوافذ، يسرقون قبلات سريعةً من الأجبُن والأيادي. يحاولون محو سجلّ الاشتياق.
أما الأطفال، فكانوا غير مدركين تماماً ما تعنيه الحرية، لكن قلوبهم بدت نابضةً بفرحة بلا حدود. أغمضت عينيّ قليلاً، ورحت أسمع بعمق الأصوات المتعالية: "يا با... حبيبي يا با، اشتقتلك يا عمري، هيك هنت عليك تروح وتسيبني يا مهند؟، تعال تعال يلا انزل مشتاقلك أنا، هيك يا جميل غبت عنّي سنة ونص وأنت عارف إني بقدرش على بعدك"... عبارات تمسكُ القلب وتجلب السعادة.
في مشهد مغاير تماماً، من وراء الزجاج، يحمل أهالي مفقودين صور أبنائهم على الهواتف، ترتجف أياديهم، يرفعونها للأعلى، يصرخون بالأسماء، والدموع تنهمر على وجوههم وهم يبحثون عن طرف خيط، ويتساءلون بشفاهٍ مرتعشة: "شفته؟… مرّ عليك؟… بتعرفه؟". أسئلة قصيرة لكنها تعكس معارك داخل النفس، وكل لحظة انتظار تزيد الانفجار العاطفي قوّةً.
نزل الأسرى المحرّرون من الباصات صفوفاً متتاليةً، لكن في زيٍّ موحّدٍ رمادي اللون، جميعهم هياكل عظمية يكسوها القليل من اللحم، والعيون جاحظة، والذقون يغزوها الشيب الكثيف، والأكتاف منحنية، والصدور غائرة قليلاً، والأيدي نحيلة، عروقها بارزة، ومطوّقة بأساور ملوّنة بالأزرق أو الأصفر، وقلّة منها بيضاء، والسيقان نحيلة ومرهقة تظهر عليها ندوب أو جروح قديمة لم تُشفَ تماماً، وبالكاد تحمل الأجساد المنهكة.
قضيت يوماً كاملاً في استقبال الأسرى المحرّرين. كنت أنظر في كل الوجوه، وألتقط صوراً، وألقي السلامات والتهاني وأسمع الحكايات. كانت ملحمة من الشوق، لحظات حتى النصوص الأدبية لا يمكنها أن تصف هذا المشهد
لحظة اللقاء، يُمسك الأسرى المحررون بذويهم، وهم متلهفون إلى الحديث عما قاسوه، كأنّ بركاناً ينفجر غيظاً. حقاً لقد آذوهم، وعذّبوهم حدّ التوحّش والسادية والجنون. لا يزال صوت العمّ أبو باسل يئنّ في أذني: "ذبحوني، ذبحوني"، وهو يشرح لأصدقائه الذين وصلوا للتوّ لاستقباله. حملوه على الأكتاف، وهم يغنّون: "زيّنوا ساحات الدار… رجعوا أسرارنا الأحرار".
قضيت يوماً كاملاً في استقبال الأسرى المحرّرين ولقائهم ذويهم، لم يكن في وسعي إلا أن أطلق عنان الفرح الجموح في قلبي، وأن أداهم جنون اللقاءات والأحضان، وأن أبكي حزناً أيضاً، وأركض هنا وهناك. كنت أنظر في كل الوجوه، ألتقط صوراً، ألقي السلامات والتهاني وأسمع الحكايات. كانت ملحمة من الشوق. أجساد تتلاطم ببعضها البعض، مشاهد مهيبة، لحظات حتى النصوص الأدبية لا يمكنها أن تصف هذا المشهد.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.