"الفن الأصيل ليس هدفه إرضاء ذائقتنا، بل إحداث يقظة تعيد تشكيل وعينا، وتوقظ فينا الشعور بالاستلاب. أن يشير إلى الاغتراب المتغلغل في حياتنا اليومية، فيعيد وصلنا بذواتنا".
ثيودور أدورنو، "صناعة الثقافة".
من الإنسان إلى الكيان
في ظلّ هيمنة نمط الإنتاج ما بعد الرأسمالي وتحولات السوق المفتوح، يبرز "مفهوم الاغتراب" كظاهرة محورية تتشابك جدلياً مع سليله: "التشيؤ". وتحت هذه الوطأة يتحول الإنسان من ذات فاعلة إلى كيان مغترب عن ذاته ومحيطه؛ إذ تعيد القوى الاجتماعية والاقتصادية صياغة العلاقات لتغدو أدوات أو سلعاً خاضعةً لمنطق السوق، فتكتسب طابع الشيء وتستقلّ وهمياً عن أصلها البشري.
هذا التشابك يظهر أنّ "الاغتراب" يغذّي "التشيّؤ" الذي يعمّق بدوره جذور الاغتراب، فتختزل التجربة الإنسانية إلى تفاعلات ميكانيكية جوفاء، ويغدو الواقع سلسلة عمليات أداتية تعكس الانفصال بين الإنسان وذاته، وبين الأفراد ومجتمعهم.
تاريخياً مرّ مفهوم "الاغتراب" بتحولات بارزة بين الاقتصاد والفلسفة وعلم الاجتماع والتحليل النفسي.
انطلقت جذوره من اللاهوت إلى الفلسفة الهيغلية، ثم خضع لتحوّل راديكالي في الفكر الماركسي الذي أعاد صياغته ضمن سياق مادي تاريخي. لكنه لم يظلّ حكراً على الماركسية، بل تبنّته مدارس متعددة، وبعضها حاد عن جوهره النقدي المرتبط بالرأسمالية، ما أضفى عليه طابعاً جدلياً ملهماً.
الفن الحقيقي ليس ترفاً جماليّاً، بل فعل يقظة يوقظ وعينا من الاستلاب اليومي، ويعيد وصلنا بذواتنا المغتربة في مواجهة آليات السوق وتحويل الإنسان إلى مجرد سلعة
لغوياً، تترجَم كلمة "اغتراب" عن اللاتينية "alienatio"، المشتقة من "alienare" بمعنى "النقل" أو "الإبعاد"، وأصلها "alienus" أي "ما يخص الآخر"، من "alius" أي "الآخر".
ويُعدّ هوغو غروتيوس (1583–1645)، من أوائل من استعمل المصطلح في سياق سياسي، خصوصاً في كتابه قانون الحرب والسلام (1625)، حيث قال: "كما يمكن تغريب الأشياء بنقل ملكيتها، يمكن كذلك نقل السلطة السيادية".
الروح التائهة
ظهر مفهوم الاغتراب مبكراً في الكتابات المسيحية معبّراً عن اغتراب الروح عن خالقها. ففي رسالته إلى أفسس، يصف بولس، البشر بأنهم "مظلمون في جهلهم، مغتربون عن حياة الله بسبب قسوة قلوبهم"، في دلالة على انفصال الإنسان الخاطئ عن القداسة الإلهية. وقد أوقعت خطيئة آدم -وفق اللاهوت المسيحي- الإنسان في اغتراب وجودي: غربة عن أصله السماوي وجوهره الروحي.
أكد مارتن لوثر، أنّ الجهل الروحي يغترب بالإنسان عن الله ونعمته، وأشار جان كالفن إلى أنّ الأمم الوثنية "غريبة عن عهد الموعد" ما دامت بعيدةً عن الإيمان.
عكس الاستخدام اللاهوتي للمفهوم مفارقةً وجوديةً: الإنسان يشعر بالنفي عن موطنه الأصلي (الله) وتيهه في عالم الخطيئة. لذا ارتبط الخلاص التقليدي بالتحرر الروحي عبر الزهد في الدنيا، فظلّ الاغتراب محصوراً في علاقة الفرد بالله دون نقد للحياة الدنيوية.
واستمر هذا الاستخدام حتى انطلقت البروتستانتية في القرن السادس عشر، حين علّق لوثر رسائله الـ95 على باب كنيسة "ويتنبرغ" (1517)، رافضاً صكوك الغفران واستبدال التوبة بمعاملات مالية. عندها أعاد تشكيل العلاقة بين الإنسان وربه، مؤكداً أنّ الإيمان وحده يكفي للخلاص دون وساطة؛ ما أزال اغتراب الفرد الروحي عن الله وفتح آفاقاً جديدةً لفهمه كعلاقة مباشرة بين الفرد وخالقه.
الاغتراب الجدلي
مع الفيلسوف الألماني جورج فيلهلم ف. هيغل (1770–1831)، خرج مفهوم الاغتراب من عباءته اللاهوتية ليصبح حجر الزاوية في فلسفة جدلية لتطور الوعي والتاريخ. استخدم هيغل مصطلح "الاغتراب" (Entfremdung)، لوصف مرحلة ضرورية في مسيرة الروح نحو إدراك ذاتها. ففي كتابه "ظاهريات الروح" (1807)، يعرض حركة وعي تغترب عن نفسها حين تتجسد في موضوعات خارجية -الطبيعة أو المؤسسات أو القوانين- فتواجه ذاتها كـ"آخر مفارق".
غير أنّ هذا الاغتراب لم يكن سلبياً محضاً، بل خطوة لا بدّ منها لكي تعي الروح ذاتها وتتجاوز انفصالها عبر الجدل "Aufhebung"، أي النفي والتجاوز. بكلمات هيغل: الروح تخرج من ذاتها إلى غيرها ثم تستعيد وحدتها على مستوى أعمق.
تعمّق مفهوم الاغتراب عبر التاريخ من اللاهوت إلى الماركسية، لكنه ظل يكشف فقدان الإنسان لجوهره، وجاء الفن ليطرح نفسه مساحة مقاومة تحفظ إنسانية الفرد من الذوبان.
وفق هذه الرؤية، تاريخ البشرية هو سلسلة من اغتراب ومصالحة؛ اغتراب يتبعه تصالح، يعقبه اغتراب جديد.
فالروح المطلقة تصطدم بذاتها حين تتوهم أنّ منجزاتها (الدين، الدولة، الثقافة)، كيانات مستقلة، لكنها في الأصل ليست إلا تجلّياتها. مثلاً، قد يرى الفرد الدولة قوةً فوقيةً منفصلةً، بينما هي عند هيغل تجسيد للعقل الجمعي (الإرادة العامة). من هنا فإنّ غاية التاريخ هي الحرية: حين تدرك الروح أنّ العالم الذي أنشأته ليس غريباً عنها بل تحقق لذاتها، تبلغ الحرية التامة والمعرفة المطلقة.
الاغتراب عند هيغل إذاً ذو وجهين: سلبي كفقدان للذات في الآخر، وإيجابي كمحرك للتقدم. حتى الدولة والمؤسسات -وإن بدت مغتربةً- يمكن أن تكون وسائط لتحقيق حرية أوسع إذا وعيت كامتداد للعقل.
هذا التصور ترك أثراً عميقاً في فلاسفة ومدارس عدة: من لودفيغ فيورباخ وكارل ماركس، إلى كيركيغارد وهايدغر، وصولاً إلى سارتر ومدرسة فرانكفورت. وهكذا قدّم هيغل الاغتراب كعملية ديناميكية مرنة قابلة للتجاوز جدلياً. لكن الجوهر ظلّ واحداً: الإنسان يصنع عالمه ولا يدركه فوراً، فيغترب عنه حتى يعيه فيعود.
بداية القطيعة واستعادة الجوهر
شكل لودفيغ فيورباخ (1804-1872)، نقطة انتقال محوريةً نقلت مفهوم الاغتراب من اللاهوت والفلسفة المثالية إلى أرض الإنسان الواقعية. رأى فيورباخ، أحد طلاب هيغل، أنّ الاغتراب الحقيقي هو اغتراب الإنسان عن جوهره الإنساني. في كتابه "جوهر المسيحية" (1841)، طرح أطروحةً ثوريةً: "الدين هو إسقاط الإنسان لذاته خارجاً"، فالإله صورة مثالية للإنسان نفسه.
يستودع البشر صفاتهم الجوهرية -كالقدرة العقلية والمحبة والقوة- في كائن متعالٍ، ثم يعبدونه. بهذا يفقدون وعيهم بهذه الصفات ويغتربون عنها، إذ تبدو وكأنها تخصّ آخر غريباً عنهم. يقول فيورباخ: "الدين هو أول وعي غير مباشر للإنسان بذاته"، مرحلة يتعرف فيها الإنسان على جوهره لكن بصورة مغتربة عبر كائن مفارق.
انتقد فيورباخ هيغل بشدّة، عادّاً أنه -برغم جدليته البرّاقة- وقع في فخّ الاغتراب اللاهوتي. فالفلسفة الهيغلية جعلت "المطلق" مركز الوجود وابتلعت الفرد في منظومة مجردة. في المقابل، دعا إلى فلسفة أنثروبولوجية تعيد الإنسان، (الكائن المادي الحسي) إلى مركز الفكر. فالإنسان ليس روحاً مجرّدةً ولا فكرة علوية، بل مجموع صفاته الطبيعية والاجتماعية. وهكذا ينهض الإنسان من استلابه، مستعيداً جوهره ومصلحاً اغترابه عن ذاته.
هذا النقد مهد لماركس كي يوسع المفهوم إلى مجالات مادية دنيوية. فقد تأثر بعمق بفكرة فيورباخ، بأنّ الدين شكل من الاستلاب الذاتي، لكنه سرعان ما نقلها إلى بنى المجتمع والاقتصاد. وبذلك أعاد فيورباخ "جوهر الإنسان من السماء إلى الأرض"، جاعلاً من تحليل الدين مدخلاً لفهم استلاب الإنسان داخل واقعه المعيش.
من السماء إلى المصنع
جاء كارل ماركس (1818-1883)، ليقلب الطاولة على الفلسفات التأملية عموماً، وبالأخص مفهوم الاغتراب، حين أعاده إلى الأرض والمصنع. استلهم المفهوم من هيغل وفيورباخ معاً، لكن بروح نقدية جديدة؛ فبدل أن يبقى شأناً روحانياً أو مجرّداً، جعله ماركس أداةً تحليليةً لفهم واقع العمل المأجور في ظل الرأسمالية، حيث يغترب الإنسان لا عن إله متعالٍ أو فكرة مطلقة، بل عن عمله ونتاجه وعلاقاته الإنسانية ذاتها.
صاغ ماركس نظريته عن الاغتراب مبكراً في المخطوطات الفلسفية-الاقتصادية لعام 1844، وفيها بيّن أنّ الإنسان يفقد ذاته في أتون العمل الاستغلالي. ثم راح تحليله يتبلور ويتعمق في مؤلفاته اللاحقة، مثل الأيديولوجيا الألمانية و"Grundrisse" ورأس المال.
مع ماركوز وهيغل ولوكاتش، يصبح الفن أفقاً للتحرر حين تعجز السياسة، لأنه قادر على زعزعة الرضا المخدَّر وابتكار صور بديلة ترفض الواقع، فيعيد للوعي بعدهُ النقدي، ويعيد لعملية التفكيك حيويتها
ففي كتاباته الأولى، المتأثرة بالمثالية الإنسانية، نظر إلى الاغتراب بوصفه فقداناً لـ"جوهر الإنسان النوعي" المبدع "Gattungswesen". أما في أعماله الناضجة، فقد تخلّى عن لغة "الجوهر" لصالح تحليل مادي تاريخي صارم، ورأى في الاغتراب حصيلةً لبنية علاقات الإنتاج السائدة. من هنا عدّ بعض الباحثين هذا التحول بمثابة "قطيعة إبستمولوجية" تفصل بين ماركس المبكر وماركس الناضج.
حدد ماركس أربعة أوجه كبرى لظاهرة الاغتراب في المجتمع الرأسمالي:
أولاً- الاغتراب عن منتج العمل. يصنع العامل سلعةً لا يملكها ولا ينتفع بها، تُنتزع منه لتباع في السوق، فتقف أمامه كشيء غريب. فالعامل في مصنع أحذية ينجز مئات الأزواج، لكنه قد يعجز عن اقتناء واحد منها.
ثانياً- الاغتراب في عملية الإنتاج. لم يعد العمل تعبيراً عن إرادة حرة أو إبداع، بل أوامر رتيبة يؤديها مكرهاً كوسيلة للبقاء لا كتحقق للذات.
ثالثاً- الاغتراب عن الكينونة النوعية. جوهر الإنسان قدرته على الإبداع الحر، غير أنّ العمل المأجور يطفئ هذه الشرارة، فيحوّله إلى ترس صامت في آلة.
رابعاً- الاغتراب عن الآخرين. يفتت النظام التنافسي الروابط الإنسانية إلى حسابات باردة، ويزرع خصومة بين العمال المتزاحمين على البقاء، كما بين العامل المطالب بأجر والرأسمالي الساعي إلى خفض التكاليف.
واليوم تكشف هذه الأبعاد أنّ نمط الإنتاج الرأسمالي لا يقتصر على توليد السلع، بل ينسج استلاباً شاملاً، فالإنسان يبدع منتجات ومؤسسات لكنها ترتد فتعلو عليه كقوى مفارقة مستقلة.
ولأنّ الاستلاب متشعب الأوجه، فإنّ الرأسمالية لا تكتفي بالهيمنة على مجال العمل، بل تعيد صياغة الوعي في هيئة استلاب استهلاكي، حيث توجَّه رغبة الفرد إلى الاستهلاك كمنفذ وحيد للتحقق، بعد أن تقطع صلته بذاته ويشوّه نسيجه الاجتماعي، يملأ فراغه باقتناء ما يُعرض عليه، متوهماً أنّ الاستهلاك دليل وجود وفاعلية.
بهذا يغدو الاستهلاك آليةً أيديولوجيةً تمنح النظام طابعاً طبيعياً، وتقدّم الحرية في صورة وهمية قائمة على تعدد السلع، لكنه في الجوهر بديل فقير عن الخلق والإبداع، يمنح إشباعاً عابراً ويعمّق التبعية لمنطق السوق. وهكذا يصبح الاستهلاك مكملاً للاستلاب: ممارسة اقتصادية وثقافية تنتج وعياً زائفاً يخفي العجز الوجودي خلف واجهة المتع المادية.
وهنا يتجلّى لبّ نقد ماركس: السوق والبضائع لا تحرران الإنسان بل تستعبدانه. وعلى خلاف هيغل، الذي رأى الاغتراب ظاهرةً أنثروبولوجيةً أبديةً، شدّد ماركس على طابعه التاريخي المرحلي المرتبط بالرأسمالية الصناعية. لذا فإنّ تجاوزه لا يتم بالتصالح الفكري أو الوعي الجدلي وحدهما، بل بقطيعة ثورية تعيد صياغة علاقات الإنتاج وتحرر العمل الإنساني، لتردّ إليه أصله الخلاق.
تشيّؤ الوعي واستعادة الكلّ
في مطلع القرن العشرين، عمّق جورج لوكاش (1885-1971)، التحليل الماركسي للاغتراب بإضافة مفهوم "التشيؤ" ("Reification")، لتفسير آليات الاستلاب في الرأسمالية المتأخرة. في كتابه "التاريخ والوعي الطبقي" (1923)، أوضح أنّ الرأسمالية، بعد أن تغرّب الإنسان عن عمله، تشيّئ وعيه أيضاً: إذ تصبح العلاقات بين البشر شبيهةً بأشياء جامدة، وهنا يبدو القانون والقيمة والمعايير حقائق طبيعيةً لا بشرية.
رغم تغوّل الرأسمالية وهيمنتها على العمل والاستهلاك، يبقى الفن القلعة الأخيرة للحرية، حيث تنتصر المخيلة على التشيؤ والاغتراب، وتبقى شعلة الجمال والرفض متقدة في وجه الاستلاب.
يفقد الإنسان إدراك الأصل الاجتماعي لهذه البنى، ويتفتت وعيه حتى يرى المشاهد منفصلةً، ويكتفي بدور المراقب بدل أن يكون فاعلاً تاريخياً. ومع الوقت يغدو الواقع "طبيعةً ثانيةً" تفرض نفسها كحتمية، بينما هي في الواقع من صنع البشر.
هذا هو التشيّؤ: اعتبار نتاج الإنسان كياناً قائماً بذاته، على شاكلة "تقديس السلعة" عند ماركس أو عبادة صنم صنعته الأيدي. غير أنّ لوكاش، لم يتوقف عند التشخيص، بل رأى أنّ إدراك زيف هذه الموضوعية يفتح أفق التحرر.
فبحكم موقعها في قلب الإنتاج، تعاني الطبقة العاملة أقسى أشكال الاستلاب، ما يؤهلها لتطوير وعي طبقي ثوري يحوّلها من تروس صامتة إلى فاعلين جماعيين. وهذا التحول معرفي بقدر ما هو سياسي: إذ يتجاوز الوعي المشظّى ويستعيد رؤية الكلّ الاجتماعي.
وعلى المستوى الثقافي والأدبي، وسّع لوكاش الفكرة نفسها. فالرواية الواقعية العظيمة، برأيه، قادرة على كشف البنية العميقة خلف الظواهر وربط مصائر الأفراد بالقوى التاريخية. لذلك، انتقد تيارات الحداثة (كالتعبيرية والسوريالية)، التي حصرت الفن في التجربة الفردية وزادت التشظي، في حين أنّ الأدب الواقعي يعيد وصل الأجزاء بالكلّ ويمنح القارئ وعياً نقدياً أوسع.
من هنا عدّ لوكاش المعركة حول "واقعية الأدب والفن" جزءاً من النضال الفكري في المجتمع. وقدّم مفهوم "الكلّ" (totality): أن نفهم الجزء في ضوء المجموع، والإنسان الفرد في سياق البنية التاريخية. وبذلك يصبح الفن -شأنه شأن الوعي الطبقي- ساحةً لتحرير الإنسان من التشيّؤ والاغتراب.
الجمالية الثائرة… الفن كفعل رفض
في منتصف القرن العشرين، قدّم هربرت ماركوز (1898-1979)، في "الإنسان ذو البعد الواحد" (1964)، تشخيصاً للمجتمع الصناعي المتقدّم بوصفه "أحادي البعد"، بعد أن دمجت الرأسمالية الأفراد في حاجات زائفة واستهلاك مفرط أخمدا كل صوت نقدي وحيد المخيّلة عن ابتكار بديل.
ومع هيمنة التكنولوجيا والفكر الوضعي، ترسّخ القبول بالواقع كأنّه قدر محتوم، وتضاءلت القدرة على النقد والتجاوز. حتى الأفكار الثورية جرى استيعابها وتشويهها، فانغمس الوعي الجمعي في تخدير أيديولوجي يرضى بحريات زائفة ويغفل عن الحرية الأصيلة والإبداع الحق.
أمام هذا المشهد تساءل ماركوز: من أين إذاً سيولد صوت الـ"لا"؟
لم يعوّل على بروليتاريا اندمجت في الاستهلاك، بل على قوى هامشية كالأقليات والطلاب والمثقفين النقديين. غير أنه رأى المنبع الأعمق للرفض في البعد الجمالي نفسه؛ إذ يحمل الفن والأدب إمكانية "النفي العظيم"، مانحين المخيّلة قدرة ابتكار صور بديلة ترفض سطوة الواقع القائم.
فإذا حافظ الفن على استقلاله عن السوق والهيمنة الإعلامية، صان شعلة الحرية، لأنه بفعل الخلق ذاته ينفي الواقع ويفتح إمكانات مغايرة. وكلما تحول إلى سلعة فقد فاعليته، أما بقاؤه حرّاً صادماً للذائقة فيضمن زعزعة الرضا المخدر وإيقاظ الأسئلة، مستعيداً للوعي "بعده الثاني": القدرة على رؤية ما وراء الواقع.
في حضارة البعد الواحد، يصبح الدفاع عن "التفكير السلبي" (النقدي) واجباً أخلاقياً. فإذا خبت الثورة السياسية في المجتمعات المترفة، يبقى الفنّ ملاذ الوعي الحرّ، يمنح مسافةً نقديةً لرؤية العيوب، ويقدّم تجربةً جماليةً توقظ الفكر. ومن هنا دعا ماركوز إلى "رفض عظيم" ينبذ قيم الاستهلاك والطاعة، ويحيي حساسيةً جديدةً تعلي الجمال والحرية بدل الأداء والربح. فالفنّ وحده لا يحرر المجتمع، لكنه يفتح الطريق بتأجيج المخيلة نحو واقع بديل، ليظلّ في جوهره فعل مقاومة ومخيلة تحررية.
الفن… آخر القلاع الصامدة
بعد هذه الجولة على دروب الاستلاب، نصل إلى خلاصة توحّد خيوط النقاش: إنّ الوعي الإنساني، المنهك بقوى الاغتراب والتشيؤ، وجد ملاذه الأخير في الفن والجمال.
كشف ماركس، جرح الاغتراب في روح الإنسان الحديث، وأوضح لوكاش كيف يضاعفه تشيّؤ العلاقات داعياً إلى استعادة رؤية الكلّ عبر وعي طبقي شامل، ثم حذّر ماركوز من تخدير هذا الوعي في حضارة الاستهلاك الأحادية، فلم يبقَ من فسحة حرّة إلا في البعد الجمالي الثائر الذي يعيد إلينا القدرة على الحلم والرفض. هكذا التقت الرؤية الاجتماعية والجمالية لتؤكدا أنّ الفن -في جوهره- فعل مقاومة.
وكما وصف الناقد الماركسي أدولفو سانشيث فاثكيث، فإنّ الفن الحديث "محاولة للهروب من تشيؤ الوجود تحت هيمنة الرأسمالية". وقد زخر تاريخ الفن الحديث بأمثلة لانتصار الروح الإنسانية: من جداريات دييغو ريفيرا التي مجّدت العامل وتاريخه، إلى سينما إيزنشتاين التي كشفت بعدستها صراع الطبقات وأرست نظرية المونتاج الجدلي، وصولاً إلى موسيقى "البانك" التي صرخت في وجه البؤس اليومي، وجميعها أسلحة رمزية ضد الاغتراب.
لقد تحدّت تلك الأعمال "صناعة الثقافة" التجارية التي فضح أدورنو وهوركهايمر زيفها، وأثبتت أنّ الإبداع الأصيل عصيّ على الترويض. من هنا، يصحّ القول إنّ الفن هو القلعة الأخيرة للبشرية، حيث تبقى شعلة الحرية متّقدةً حتى حين تنطفئ في ساحات أخرى.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.