خيّاطو الوهم… من ينسج روايتنا؟

خيّاطو الوهم… من ينسج روايتنا؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الجمعة 13 يونيو 202507:07 ص

عام 1837، نشر الكاتب الدنماركي هانز كريستيان أندرسن، مجموعةً قصصيةً بعنوان "حكايات خرافية للأطفال"، وكانت من ضمن تلك الحكايات حكاية "ملابس الإمبراطور الجديدة" (The Emperor's New Clothes). والقصص التي نشرها آنذاك بدا في ظاهرها أنها للأطفال، ولكنها في باطنها رسالة أكبر من ذلك تتضمن انتقادات للواقع البشري. فالقصة تتميز بأسلوبها النقدي الساخر، وهي أقرب إلى هجاء اجتماعي للسلطة والنفاق الجمعي.

فكيف نُسقط هذه القصة على واقعنا الإنساني في المنطقة الناطقة بالعربية؟ وهل القصة تتجلّى في واقعنا دون أن نُسقطها عليه حتى؟

تبدأ القصة بالتحدّث عن إمبراطور مغرور، مولع بالملابس المزخرفة، كان لا يُكلّف نفسه عناء الاهتمام بتحقيق العدالة لشعبه، أو الاهتمام بجنوده، ولا يذهب إلى المسرح أو إلى الصيد، إلا إذا أُتيحت له الفرصة ليستعرض ملابسه أمام الناس.

النسيج اليوم هو الإعلام الذي يخلق سرديات كاملةً، ربما يكون بعضها سرديات مشوّهةً أو ناقصةً. فلمَ نصرخ نحن الغزّيين كالطفل في قصتنا بالحقيقة؟ لمَ ننتقد الإعلام الموجود والمتداول اليوم؟


ذات يوم، حضر محتالان وصفا نفسيهما بأنهما نسّاجان، وأعلنا أنهما يعرفان كيف ينسجان أقمشةً تمتاز بأجمل الألوان والزخارف. ولكن الملابس التي تُصنع من هذه الأقمشة لها ميزة خاصة، فهي تظلّ غير مرئية من قبل كل من يكون غبياً أو غير لائق بالوظيفة التي يشغلها! قال الإمبراطور هنا إنه بعد نسج تلك الملابس وخياطتها، سيكون بإمكانه التفريق بين العاقل وبين الأحمق الخائن الطائش. دفع لهما الإمبراطور أموالاً طائلةً لنسج ثوب غير موجود، ثم بعث وزيره ليرى الثوب أوّلاً، فدخل مشغل المحتالين، ولم يرَ شيئاً سوى أنّ المحتالين منهمكان في نسج اللاشيء، حتى أنه لم يرَ حتى قطعةً صغيرةً من الخيط على النول. تظاهرا بأنهما يلفّان القماش، ويرفعانه من النول، ويقطعان الهواء بمقصّ كبير، ويخيطان القماش بإبرتين ليس فيهما أي خيط.

كل من زارهما ادّعى أنه رأى الثوب، خوفاً من أن يُتّهم بالغباء، أو عدم الأهلية، أو خيانة الولاء!

وفي اليوم التالي، وفي موكب كبير، خرج الإمبراطور عارياً، وراح الجميع يصفق له ويُمجّد جمال الثوب غير المرئي كما وصفه المحتالان، حتى صرخ طفل صغير: "ولكن الإمبراطور لا يرتدي شيئاً على الإطلاق!".

واستمرّ السادة النبلاء القائمون على خدمته، في عملهم جاهدين ليُظهروا أنهم يرفعون ذيل الثوب!

لو تأمّلنا هذه الحكاية جيداً، لوجدنا أنها لم تكن مجازاً، بل نبوءة تحاكي واقعنا الذي نعيشه. وعليه، الإمبراطور، الثوب السحري، النسّاجون المحتالون، والمصفقون... من هم في واقعنا؟

خذوا الحقيقة من أفواه الأطفال الواقفين على طابور التكايا، الذين فقدوا أطرافهم، أو والديهم، أو كامل عائلتهم في قصف إسرائيلي.

النسيج اليوم هو الإعلام الذي يخلق سرديات كاملةً، ربما يكون بعضها سرديات مشوّهةً أو ناقصةً. فلمَ نصرخ نحن الغزّيين كالطفل في قصتنا بالحقيقة؟ لمَ ننتقد الإعلام الموجود والمتداول اليوم؟

ربما لأننا نرى واقعاً مختلفاً، أو بسبب التناقضات التي نعيشها اليوم في الإقليم العربي، والتي تجعل من النقد والتحدث بصوت مسموع ضرورةً وجودية. وكما أنّ الشرّ معضلة، فالغباء معضلة لا تقلّ ضرراً عن الشر. لذا نرى اليوم تناقضات على المستوى الديني، الاجتماعي، الشعبوي، العادات والتقاليد، الإعلام والصحافة، وغيرها من الأمور.

استدعاء العقل اليوم أمر مهم، بعد أن خرجنا من التاريخ الحديث.

ففي إطار المستوى الإعلامي، نرى أنّ بعض القنوات لا تنشر أخباراً بعين الحقيقة، بل تخلق أخباراً بما يناسب أجندة أنظمة معيّنة. فالإمبراطور في قصتنا الخرافية هو الحزب أو الأنظمة، أما الثوب السحري الذي صُنع من اللاشيء، فهو الأكاذيب الرسمية أو الرواية المفروضة، والخياطون المحتالون هم الإعلام أو المثقفون الحمقى.

ما نراه في المحصلة من حكومات، أحزاب، عقليات، سلطات، مواد إعلامية، وغيرها... مبدأها يقول لك: "إن لم يكن لديك ولاء لشخصيات فاسدة، لقرارات مدمرة، لحروب لا نفهمها، ولشعارات جوفاء، فأنت خائن".


على المستوى السيكولوجي، نرى الجماهير تتأثر بالرأي المُتبنّى من قبل عدد كبير من الناس، في ما يُسمّى بالإيحاء الجماعي، أو ما يعرف بتأثير القطيع. أيضاً، نرى أنّ التفاعل مع الإعلام يؤثر على تشكيل الهوية والانتماء، من خلال تمثيلات الفرد لعرق، لنوع، لدين، لحزب، أو لطبقة اجتماعية.

أما عن التأثير الاجتماعي، فهو يخلق رأياً عاماً موحّداً أو منقسماً، قد يساهم في التطبيع؛ فما يُعرض باستمرار يصبح طبيعياً في نظر الناس، حتى لو كان مرفوضاً في البداية. كما أنه يروّج لما هو مقبول أو مرغوب، فيصبح رقابةً اجتماعيةً غير مباشرة، ويقيس من يمتثل أكثر إلى العادات الاجتماعية السائدة. وبالطبع، هو أداة أساسية في إعادة إنتاج الحكم أو السلطة؛ فمثلاً يعزز شرعيتهم، يشوّه خصومهم… وهكذا. وهذه أسباب توضح من هو الجمهور الذي صفق للإمبراطور في قصتنا.

كل يوم، أقرأ تغريدات أو منشورات على منصات التواصل الاجتماعي لأشخاص تابعين لقناة إخبارية تتبع أجندة إحدى الحركات الراديكالية جزئياً، أو ذات الطموح الراديكالي، في الإقليم الناطق بالعربية، وتكون عبارةً عن خمسة أمور:

تهويل القوى العسكرية، تهميش معاناة المدنيين على حساب أغراض أخرى، وصف المعاناة والدم النازف يومياً بطريقة شاعرية خيالية، التنظير على الصوت الذي قد يجرؤ على قول الحقيقة، وعدم فعل أي شيء حقيقي للناس الذين يُعدمون كل يوم بآلة القتل الإسرائيلية، سوى التغريدات أو نشرات الأخبار التي تعيش في جو فنتازيا تاريخية. قد نُطلق عليهم "مراهقي الفتوحات"، أو كما وصفتهم قصتنا في البداية: "النسّاجون المحتالون".

فما نراه في المحصلة من حكومات، أحزاب، عقليات، سلطات، مواد إعلامية، وغيرها... مبدأها يقول لك: "إن لم يكن لديك ولاء لشخصيات فاسدة، لقرارات مدمرة، لحروب لا نفهمها، ولشعارات جوفاء، فأنت خائن".

هنا، لا يسعني إلا أن أتساءل، كفرد وسط جماعات تنقاد وراء الأخبار الشاعرية، والأساطير المركبة، وسط جماعات تعتقد أنها تمتلك الحقيقة على المستوى الديني، القومي، الحزبي:

لمَ تصفقون لسرديات زائفة، ووعود كاذبة، وأيديولوجيات مشوّهة، ومشاريع فاشلة؟

هنا، لا يسعني إلا أن أتساءل، كفرد وسط جماعات تنقاد وراء الأخبار الشاعرية، والأساطير المركبة، وسط جماعات تعتقد أنها تمتلك الحقيقة على المستوى الديني، القومي، الحزبي: لمَ تصفقون لسرديات زائفة، ووعود كاذبة، وأيديولوجيات مشوّهة، ومشاريع فاشلة؟


إنّ الغريب في الأمر، هو ذلك الولاء الأعمى للجماعة التي ينتمي إليها الفرد؛ كأنّ الجماعة تبرم معك عقداً قبل الانضمام إليها، بنده الأول: ليس مطلوباً منك أن تصدّق، بل أن تطيع. لا نحتاج إلى اقتناعك، بل إلى إظهار ولائك. وكل يوم نعمل على اختلاق أسطورة أو وعود كاذبة، وهذه الاختلاقات لاختبار ولائك، فكلما كانت الخرافة أكبر، كان تصديقها معياراً أقوى للولاء.

يواجه الإنسان الغزّي على وجه الخصوص، والعربي على وجه العموم، اليوم، تلك الكمية الهائلة من الخطابات، وذلك الإعلام، وتلك القيادات، وهي تنهال على صوته؛ تكتمه أو تسرقه. يسرق النسّاجون صوته ويخيطون الوهم ويصدّرونه للعالم، ويصفّق الجميع لهم.

ربما يصفّقون لرواية لم تتكلم بلساننا، ولم تصف معاناتنا كما نعيشها.

من حقنا المشروع أن نسأل: كيف تحولت قضيتنا من قضية أخلاقية إنسانية إلى أداة خطابية؟ كيف تحوّلنا من ضحايا إلى رموز؟ هل تستهويكم التحليلات؟ أم تُسحرون بطريقة الموت الشاعرية؟ ولمَ لا وجود للعقل بينكم يرفض تصديق الأوهام؟

نحن اليوم، كأفراد، لا نزال نتنفس الرماد الناجم عن القصف، ولا تزال إشعاعاته تؤثر علينا، ولا يزال يقتل أحبابنا، أو يفقدهم أطرافهم. نطلب من هذا العالم ألا يختزل معاناتنا في أكياس خُطب إنشائية، يُصفق لها الجمهور، خوفاً أو نفاقاً أو حتى جهلاً بمعطيات الواقع ومجرياته.

في ذلك الحفل التنكري، نكون نحن ذلك الطفل الذي صرخ بالحقيقة، في قصة الإمبراطور.

فإذا لم نُعِد امتلاك سرديّتنا، سيظلّ النسّاجون يروون عنا ما يخدم مصالحهم، وسيبقى الإمبراطور عارياً يظنّ أنه يرتدي ثوباً من خيوط الشمس، ويصفق له الجميع.

فالكلمة لم تعد ترفاً، بل بقاء وضرورة وجودية. الحكاية ليست قصةً تُروى، بل حياة تُنتزع. وها هو الوقت كي ننتزعها بأصواتنا.

خذوا الحقيقة من أفواه الأطفال الواقفين على طابور التكايا، الذين فقدوا أطرافهم، أو والديهم، أو كامل عائلتهم في قصف إسرائيلي.

لسنا أرقاماً في طابور الموت، ولا نريد لأولئك الذين يرسمون لنا زوايانا في "خريطة الفردوس"، أن يتحدثوا باسمنا عن "موت شاعري".


خذوا الحقيقة من الشباب الذين اعتُقلوا أو فقدوا الأمل في حياة أو مستقبل. خذوا الحقيقة من أمّ لا يزال أطفالها مفقودين أو تحت الركام.

خذوا الحقيقة من المرضى الذين فقدوا حقّهم في العلاج. خذوا الحقيقة من كبار السنّ الذين لم يستطيعوا العيش في هذه الظروف الصعبة. خذوا الحقيقة من صبية في مقتبل العمر فقدت أحبّاءها...

نحن الحقيقة؛ الوجع الذي لا يجرؤ أحد على الاقتراب منه أو التحدّث عنه بصدق.

لسنا أرقاماً في طابور الموت، ولا نريد لأولئك الذين يرسمون لنا زوايانا في "خريطة الفردوس"، أن يتحدثوا باسمنا عن "موت شاعري".

نريد أن تكون لنا نحن، مسلوبي الحياة، حياة.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image