الفيلسوف إدغار موران يشهد على دم غزة حين يصمت العالم

الفيلسوف إدغار موران يشهد على دم غزة حين يصمت العالم

رأي

الجمعة 25 يوليو 20256 دقائق للقراءة

في عيد ميلاده الـ104، يبدو إدغار موران، آخر حكماء القرن العشرين في فرنسا، أشبه بنبيٍّ منهك يتأمل نكبةً جديدةً تُرتكب أمام عينيه. رجلٌ قضى أكثر من ثمانية عقود وهو يحفر في فكرة "التعقيد"، بحثاً عن طريقة أكثر إنصافاً لفهم العالم، يقف اليوم مذهولاً أمام مجازر غزة، وهو يعترف: "أنا عاجز". لكن هذا العجز ليس صمتاً؛ بل يتحوّل عند موران إلى شهادة، والشهادة في فلسفته ليست محض نقلٍ للواقع، إنما هي فعل مقاومة أخلاقيّة ضد النسيان.

في عيد ميلاده الـ104، يبدو إدغار موران، آخر حكماء القرن العشرين في فرنسا، أشبه بنبيٍّ منهك يتأمل نكبةً جديدةً تُرتكب أمام عينيه. رجلٌ قضى أكثر من ثمانية عقود وهو يحفر في فكرة "التعقيد"، بحثاً عن طريقة أكثر إنصافاً لفهم العالم، يقف اليوم مذهولاً أمام مجازر غزة، وهو يعترف: "أنا عاجز".

الفيلسوف الذي هرب من الموت

قبل أن نتأمل موقفه من غزة، من المفيد أن نتذكر من هو إدغار موران حقاً. وُلد سنة 1921 في باريس، لأب يهودي سفاردي من سالونيك اليونانية. فقد أمّه مبكراً، ليجد نفسه لاحقاً -شابّاً عشرينياً- يقاتل ضد الاحتلال النازي في صفوف المقاومة الفرنسية. لقد اختبر في حياته فكرة أنّ الإنسان قادر على أن يصبح ذئباً لأخيه الإنسان، تماماً كما آمن هوبز من قبل. لكن موران رفض النظريات الاختزالية، وكرّس حياته لفهم "التعقيد"، إذ يرى أنّ التاريخ ليس خطياً، والخير والشرّ ليسا ثابتين، ولكن كل منظومة يمكن أن تولّد نقيضها في أي لحظة.

في كتابه المرجعي "الفكر المعقد" (La Pensée complexe)، كتب: "إنّ تبسيط الواقع خيانة له. التعقيد هو شرط الأمانة الفكرية".

[Morin, E. La Pensée complexe. 1990]

بهذه الروح، ظلّ يؤكد أنّ على الفيلسوف ألا يكتفي بشرح العالم، ولكن عليه أن يحاول الدفاع عن القيم وسط فوضى الأحداث. وحين نعود إلى مسيرته، نجد أنّ موران كان دائماً ناقداً شرساً للاستعمار، ومسانداً لحركات التحرر، ومؤمناً بأنّ ذاكرة الضحايا لا يجوز أن تتحول إلى ذريعة لاضطهاد ضحايا جدد.

موران و"فلسطين"... الجرح المستمر

ليس هذا موقفه الأول. ففي مقال نشره في "لوموند ديبلوماتيك"، سنة 2002، بعنوان "إسرائيل-فلسطين: الجرح المفتوح"، كتب موران مع الفيلسوف جان بيير فيرنون والمؤرخ سامي نعيم، نقداً حادّاً للسياسات الإسرائيلية، وقال بوضوح: "إننا أمام دولة تكرر أبشع ما حدث لها، ولكن في صورة أخرى". وقد أثار ذلك جدلاً واسعاً في فرنسا، إذ اتهمته بعض المنظمات الموالية لإسرائيل بمعاداة السامية، برغم كونه يهودياً! لكن موران ظلّ على موقفه بأنّ التضامن مع الفلسطينيين ليس نقيضاً للاعتراف بفظائع "الهولوكوست"، إنما هو امتداد لها من ناحية الالتزام الأخلاقي بألّا تتكرر المذابح أبداً ضد أي شعب.

في تشرين الأول/ أكتوبر 2023، حين بدأت حرب الإبادة الإسرائيلية الجديدة على غزة، أرسل إدغار موران، رسالةً قصيرةً نشرها Middle East Eye، يقول فيها: "أنا مذهول ومستنكِر المجزرة التي ترتكبها إسرائيل في غزة. كيف أمكن لمن تعرّضوا لأفظع أشكال الاضطهاد أن يصبحوا هم من يمارسون القمع؟"

لا أحد يستطيع أن يقول "لم أكن أعلم"

في تشرين الأول/ أكتوبر 2023، حين بدأت حرب الإبادة الإسرائيلية الجديدة على غزة، أرسل إدغار موران، رسالةً قصيرةً نشرها Middle East Eye، يقول فيها: "أنا مذهول ومستنكِر المجزرة التي ترتكبها إسرائيل في غزة. كيف أمكن لمن تعرّضوا لأفظع أشكال الاضطهاد أن يصبحوا هم من يمارسون القمع؟".

(Middle East Eye, 2023)

بعدها بأيام، شارك في توقيع بيان جماعي مع أكثر من 700 أكاديمي ومثقف فرنسي نشرته صحيفة "ليبراسيون"، جاء فيه: "نعلن أننا لن نصمت. لن يستطيع أحد أن يقول لاحقاً: لم أكن أعلم".

(Libération, 2023)

هنا تتكشف نبرة التحدّي. في فلسفة موران، الشهادة ليست ترفاً. إنها واجبٌ أخلاقي في زمن التواطؤ. القصف قد يطمر الأجساد تحت الركام، لكن الصوت الإنساني الذي يقول "لقد حدث ذلك"، يظلّ عصيّاً على الدفن.

دروس الذاكرة الصعبة

يعتقد موران أنّ أخطر ما يمكن أن يحدث لذاكرة المجازر هو أن تتحول إلى أداة سياسية تبرر اضطهاد الآخرين. يقول في مذكراته: "إنّ مأساة الهولوكوست علّمتنا أنّ الإنسان قادر على تحطيم الإنسان حتى آخر ذرّة. لكن هذا الدرس يصبح جريمةً إذا تحوّل إلى درع أخلاقي يبرر تدمير شعب آخر".

([Morin, E. Mes démons. 2013])

إنّ كثيرين من المثقفين الفرنسيين، للأسف، تواطأوا بالصمت، إذ تحوّلت منابر الثقافة إلى تكرارٍ بليد للرواية الرسمية: "إسرائيل تدافع عن نفسها". وحدهم قلة كإدغار موران، تجرأوا على تسمية الأشياء بأسمائها: هذا ليس دفاعاً عن النفس، إنه إبادة بطيئة. لذلك حين يقول: "أنا عاجز"، فهو يقصد العجز الجسدي لا الأخلاقي. فيلسوف يبلغ 104 أعوام، لا يملك إلا كلماته، لكنها كلمات قاسية على ضميرٍ يريد أن يغسل يديه من دم الأبرياء.

إنّ كثيرين من المثقفين الفرنسيين، للأسف، تواطأوا بالصمت، إذ تحوّلت منابر الثقافة إلى تكرارٍ بليد للرواية الرسمية: "إسرائيل تدافع عن نفسها". وحدهم قلة كإدغار موران، تجرأوا على تسمية الأشياء بأسمائها: هذا ليس دفاعاً عن النفس، إنه إبادة بطيئة.

الشهادة كآخر أشكال المقاومة

ربما أهم ما يمكن أن نتعلمه من موران اليوم، هو أنّ وظيفة المثقف ليست أن يقدّم حلولاً عمليةً دائماً، ولكن أن يرفض التواطؤ. حين تسقط القدرة على الفعل، يبقى الحق في الشهادة، وهذا تحديداً ما كتبه في كتابه "الإنسانية للغد" (L’humanité de l’humanité): "الشهادة فعل مقاومة حين تغدو المقاومة مستحيلةً".

إن غزة اليوم ليست مجرد جرح فلسطيني؛ هي مرآة كاشفة لعطب الغرب الأخلاقي. كيف يمكن أن تدافع حكومات تتباهى بحقوق الإنسان عن مجازر تُرتكب علناً؟ كيف يلوذ صحافيون كبار بصمتهم حين تتحول الصور القادمة من مخيمات اللاجئين إلى مشاهد موت جماعي؟ هنا يصرّ موران على أنّ المثقف الذي يصمت ليس سوى شريك في الجريمة.

ربما أهم ما يمكن أن نتعلمه من موران اليوم، هو أنّ وظيفة المثقف ليست أن يقدّم حلولاً عمليةً دائماً، ولكن أن يرفض التواطؤ.

فيلسوف المئة عام يعلّمنا كيف لا نصمت

ما يقدّمه إدغار موران ليس "تحليلاً سياسياً" بالمعنى الضيق، إنما وصية إنسانية: لا تسمحوا لآلة الدعاية أن تقتل الضحية مرتين؛ مرةً بالقصف، ومرةً بالمحو من الذاكرة. ولعلّ أجمل ما يلخّص فكره هنا، هو قول له قديم: "عالم بلا ذاكرة هو عالم بلا ضمير".

ربما لن يغيّر صوت موران شيئاً في ميزان القوى العسكري، لكنه يزرع بذرةً في ضمير كل من يقرأه: لعلّ أحداً في المستقبل يقول إنّ في ذلك الزمن، زمن المجازر والبروباغندا، بقيت أصوات تقول: لا.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image