على الرغم من الأهمية الكبرى التي تحتلها شخصية السيدة نرجس في المُتخيل الشيعي الإمامي الاثني عشري، باعتبارها أم الإمام الثاني عشر والمهدي المنتظر محمد بن الحسن العسكري، فإن المصادر الشيعية قد حملت الكثير من الاختلافات حول تفاصيل أصلها وسيرة حياتها ووفاتها.
المصادر الشيعية –ولا سيما المتأخرة منها- عملت على الربط بين شخصية السيدة نرجس من جهة وما ورد من إشارات في الكتب المقدسة القديمة من جهة أخرى، لتظهر قصتها في صورة نبوءة قديمة متواترة، الأمر الذي تم استغلاله في الكثير من الأوقات في سبيل إضفاء النزعة التبشيرية العالمية على شخصية المهدي المنتظر.
القصة التقليدية: اختلاف في الأصل والاسم
من المؤكد أن المصادر الشيعية عرفت تضارباً كبيراً حول أصول السيدة نرجس، فبينما ذهبت بعض الآراء إلى أنها –أي نرجس- كانت ربيبة، عاشت منذ صغرها في بيت السيدة حكيمة بنت الإمام التاسع محمد الجواد، وأن الإمام الحادي عشر الحسن العسكري قد تزوجها لما بلغ وأُعجب بها، وذلك بحسب ما يذكره حسين بن عبد الوهاب الذي عاش في القرن الخامس الهجري في كتابه "عيون المعجزات"، فإننا سنجد في الناحية المقابلة، الكثير من المصادر التي أكدت على أن الاسم الحقيقي لأم المهدي هو مليكة، وأنها كانت أميرة بيزنطية، وقعت في أسر المسلمين في إحدى المعارك، وأنها إنما سمت نفسها نرجس، لتخفي حقيقة شخصيتها، وفي ما بعد عُرفت باسم صقيل بسبب حملها بالإمام الثاني عشر، لأن الحمل كان يشع منه النور.
تؤكد كثير من المصادر أن الاسم الحقيقي لأم المهدي هو مليكة، وكانت أميرة بيزنطية، وقعت في أسر المسلمين في إحدى المعارك
أشهر الروايات التي تحدثت عن السيدة نرجس، كانت تلك التي ذكرها محمد بن علي بن بابويه القُمي المعروف بالشيخ الصدوق (المتوفى 381هـ) في كتابه "كمال الدين وتمام النعمة"، والذي وردت فيه قصة زواج السيدة نرجس من الإمام الحسن العسكري، على لسان شخص مجهول يُدعى بشر بن سليمان النخّاس، والذي ورد في الرواية أنه من نسل الصحابي أبي أيوب الأنصاري.
بحسب تلك الرواية، فإن الإمام الحادي عشر، الحسن العسكري، والذي كان يعيش في مدينة سامراء عاصمة العباسيين، في حالة أقرب إلى الإقامة الجبرية، قام باستدعاء بشر النخّاس، وقال له: "يا بِشْرُ إِنَّكَ مِنْ وُلْدِ الأَنْصارِ وَهذهِ الوِلايَةُ لَمْ تَزَلْ فيكُمْ يَرِثُها خَلَفٌ عَنْ سَلَفٍ، فَأَنْتُمْ ثُقاتُنا أَهْلَ البَيْتِ، وَإِنِّي مُزَكِّيكَ وَمُشَرِّفُكَ بِفَضيلَةٍ تَسْبِقُ بِها شَأْوَ الشيعَةِ في المُوالاةِ بِها: بِسِرٍّ أُطْلِعُكَ عَلَيْهِ، وَأَنْفِذُكَ في ابْتِياعِ أَمَةٍ....".
تذكر الرواية أن الإمام العسكري قد أعطى بشراً مبلغاً من المال، وأنه قد كتب له كتاباً بلغة الروم ووضع عليه خاتمه، وأمره بأن ينطلق إلى بغداد ليبحث عن نخّاس يُدعى عمر بن يزيد، وأن ينظر فيمن معه من الجواري، ووصف له واحدة بعينها وأمره أن يسلمها الكتاب وأن يشتريها، ڤأطاعه بشر ولمّا وصل لعمر بن يزيد وجد عنده السيدة نرجس، وأعطاها كتاب الإمام" فلمّا نظرَتْ في الكتابِ بكتْ بُكاءً شديداً، وقالتْ لعمرَ بنِ يزيدَ النَّخّاسِ: بِعْنِي منْ صاحبِ هذا الكتابِ، وحلفتْ بالمُحْرِجَةِ المغلَّظةِ إنَّهُ متى امتنعَ منْ بيعِها منْهُ قتلتْ نفسَها"، فلم يجد عمر بن يزيد إلا أن يبيعها لبشر وأخذ ما معه من مال، لتذهب السيدة نرجس إلى سامراء وتقابل الإمام الحادي عشر.
الرؤيا والبشارة: خطبها النبي محمد، وأسلمت على يد الزهراء
بحسب رواية بشر النخّاس، فإن السيدة نرجس قد أخبرته بقصتها العجيبة قبل أن يصلا إلى سامراء، إذ قالت له: "أنا مليكةُ بنتُ يشوعا بنِ قيصرَ ملكِ الرُّومِ، وأمِّي منْ ولدِ الحواريِّينَ، تُنسَبُ إلى وصيِّ المسيحِ شمعونَ"، وأخبرته أن جدها القيصر قد أراد أن يزوجها من بعض أقاربه من ذوي السلطة والنفوذ، ولكن ترتيبات الزواج كانت تفشل في كل مرة، وأنها قد رأت في نومها ذات يوم المسيح والحواريين، والنبي محمد ومجموعة من الأئمة، وأن النبي قد خطبها من المسيح.
بحسب الرواية فإن الخطبة لم تنعقد فقط بمباركة الرجال –النبي محمد والمسيح وسمعان وباقي الأئمة والحواريين- بل إن العنصر النسائي أيضاً كان له دور مهم ومحوري، إذ ورد على لسان السيدة نرجس، أنه بعد أربع ليال من الرؤيا الأولى، قد رأت رؤيا ثانية، وفي هذه المرة حضرت السيدة فاطمة الزهراء، والسيدة مريم، مع ألف وصيفة من الجنة.
رأت في نومها ذات يوم المسيح والحواريين، والنبي محمد ومجموعة من الأئمة، وأن النبي قد خطبها من المسيح
ثم عرفتها السيدة مريمُ على الزهراء فقالت لها: "هذِهِ سيِّدةُ النِّساءِ أمُّ زَوْجِكِ أبي محمَّدٍ"، فسلمت عليها نرجس، وشكت إليها من تأخر زيارة الإمام الحسن العسكري لها، فطمئنتها الزهراء، وقالت لها: "إنَّ ابْنِي أبا محمَّدٍ لا يزورُكِ وأنتِ مشركةٌ باللهِ وعلى مذهبِ النَّصارى، وهذِهِ أُخْتِي مريمُ تبرأُ إلى اللهِ تعالى منْ دِينِكِ، فإنْ مِلْتِ إلى رِضا اللهِ عزَّ وجلَّ ورِضا المسيحِ ومريمَ عنْكِ وزيارَةِ أبي محمَّدٍ أيّاكِ فقولي: أشهَدُ أنْ لا إلهَ إلّا اللهُ وأشهَدُ أنَّ أبي محمَّداً رسولُ اللهِ، فلمّا تكلَّمْتُ بهذِهِ الكلمةِ ضمَّتْنِي سيِّدةُ النِّساءِ إلى صدرِها فطيَّبَتْ لي نفسِي، وقالتْ: الآنَ توقَّعِي زيارَةَ أبي محمَّدٍ إيّاكِ، فإنِّي مُنْفِذةٌ إليْكِ".
وفاتها قبل زوجها أم في قصور العباسيين؟
الرؤى المنامية استمرت حاضرة في رواية بشر النخّاس، إذ ورد أن نرجس قد عرفت في إحداها أن جدها القيصر سيرسل جيوشه لقتال المسلمين، فقامت في الصباح وتنكرت وصحبت الجيش المتجه لميدان المعركة، ولمّا هُزم البيزنطيون وقعت في أسر أحد المقاتلين فباعها إلى النخاس، وتنتهي الرواية بخبر لقاء الأميرة البيزنطية بحفيد الرسول، وأنه قد بشرها بميلاد المهدي، فقال لها: "أَبْشِرِي بولدٍ يملكُ الدُّنيا شرقاً وغرباً، ويملأُ الأرضَ قسطاً وعدلًا كما مُلِئَتْ ظلماً وجوراً"، ثم عهد بها لأخته حكيمة فعلمتها العبادات والفرائض الإسلامية.
لم يقتصر الجدل الدائر حول شخصية السيدة نرجس، حول تحديد اسمها وأصولها فحسب، بل تعدى ذلك ليصل إلى التضارب حول تفاصيل حياتها بعد ولادة المهدي، وتوقيت وفاتها؛ رجل الدين الشيعي المعاصر علي الكوراني رجح في كتابه "معجم أحاديث الإمام المهدي"، أن السيدة نرجس قد توفيت قُبيل وفاة الإمام الحادي عشر في سنة 260هـ، معتمداً في ذلك على بعض الروايات التي تذكر أن الإمام الحسن العسكري قد أخبرها بما سيحدث لعياله بعد وفاته من ملاحقة العباسيين لهم، "فسألته أن يدعو الله عز وجل لها أن يجعل منيتها قبله، فماتت في حياته".
بعض المصادر الأخرى، ومنها على سبيل المثال، "الغيبة" لمحمد بن الحسن الطوسي (المتوفى 460هـ)، أكدت على أن السيدة نرجس كانت حاضرة أثناء وفاة الإمام العسكري. من هنا، فإن الكثير من المصادر قد أكدت على الدور الكبير الذي لعبته نرجس في حماية ابنها، وأنها قد ادعت أنها حامل، لتبعد الأنظار عن المهدي، فلما عرف العباسيون بذلك تحفظوا عليها لفترة طويلة، وفي ذلك يقول ابن حزم (المتوفى 456هـ) في كتابه "الفصل في الملل والأهواء والنحل"، إنها قد سُجنت لمدة سبع سنين كاملة في قصر الخليفة.
في هذا السياق، ذكر بعض مؤرخي الشيعة أن العباسيين لمّا انشغلوا بالفتن والثورات التي اشتعلت ضدهم، هربت السيدة نرجس وهامت على وجهها حتى استقرت في بيت أحد العلويين. فلما مات انتقلت إلى منزل واحد من كبار الشيعة الذين كانوا يعملون بالبلاط العباسي في ذلك الوقت، وهو الحسن بن جعفر النوبختي، فلما عرف العباسيون مكانها قبضوا عليها مرة أخرى بعد فترة طويلة من هروبها، "فحبسها المعتضد بعد نيف وعشرين سنة من موت سيدها، وبقيت في قصره إلى أن ماتت في زمن مقتدر"، وذلك بحسب ما يذكر شمس الدين الذهبي (المتوفى 748هـ) في كتابه "سيَر أعلام النبلاء".
"المنعوتة في الإنجيل"... دور السيدة نرجس في المُتخيل الشيعي
في الواقع، وجه المؤرخون والباحثون العديد من سهام النقد والتشكيك إلى الوجود التاريخي لشخصية السيدة نرجس، فعلى سبيل المثال، شككوا في وقوع معركة بين المسلمين والبيزنطيين في تلك الفترة، كما أنهم قد نفوا وجود أي أميرة بيزنطية أسيرة تنطبق عليها الأوصاف الواردة في رواية بشر النخّاس. رغم ذلك فإننا سنجد أن شخصية السيدة نرجس قد تمتعت بمكانة مهمة في المُتخيل الشيعي الجمعي على مر القرون، الأمر الذي ظهر في الكثير من المصادر والمرويات المعتبرة.
المُتخيل الشيعي الإمامي قد حرص –كعادته- على التأكيد المُطلق على طهارة السيدة نرجس، خصوصاً وأن أحد الانتقادات الموجهة لقصة نرجس وبشر النخاس، كانت احتمالية هتك عرض الأسيرة أثناء وجودها في الأسر
أولى النقاط التي بوسعها التأكيد على مكانة السيدة نرجس، كانت محاولة ربطها بالعديد من الآيات والبشارات الواردة في الكتب المقدسة القديمة، ولا سيما الكتاب المقدس، بعهديه القديم والجديد، الأمر الذي يمكن ملاحظته فيما ورد في متن الزيارة المخصصة لها، والتي جاء فيها "السلام عليك أيتها المنعوتة في الإنجيل....".
من جهة أخرى، وبعيداً عن ربطها بالكتب المقدسة، فإن المُتخيل الشيعي الإمامي قد حرص –كعادته- على التأكيد المُطلق على طهارة السيدة نرجس، خصوصاً وأن أحد الانتقادات الموجهة لقصة نرجس وبشر النخاس، كانت احتمالية هتك عرض الأسيرة أثناء وجودها في الأسر.
في هذا السياق، استثمر الوجدان الشيعي ما روي في "الكافي" لمحمد بن يعقوب الكليني (المتوفى 329هـ)، من خبر الحماية الإلهية لأم الإمام موسى الكاظم، وكيف أن الله قد أوكل بها من يحميها في الوقت الذي كانت فيه لا تزال جارية تُباع في سوق النخاسة، الأمر الذي جرى تعميمه ليصبح سمة ملازمة لجميع أمهات الأئمة.
أيضاً، سنجد أن الحضور المركزي لشخصية السيدة نرجس في المُتخيل الشيعي، قد ظهر في بعض الأوقات الحرجة والعصيبة، ومن ذلك ما ذكره آية الله محمد الحسيني الشيرازي في كتابه "أمهات المعصومين"، من أن الطاعون لما ضرب مدينة سامراء في القرن التاسع عشر الميلادي، واستشرى الموت في الناس حتى عجزوا عن دفن موتاهم، فإن بعض العلماء قد أمروا الناس بالتوسل بالسيدة نرجس، فلما فعلوا انكشفت الغمة وذهب الوباء إلى غير رجعة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...