توفى الخليفة العباسي هارون الرشيد في الرابع والعشرين من شهر مارس سنة 809م/الثالث من جمادى الآخرة سنة 193هـ. اعتلى الرشيد كرسي الخلافة لمدة ثلاث وعشرين سنة. وذاع صيته بوصفه واحداً من أشهر السلاطين الذين عرفتهم الحضارة العربية الإسلامية عبر تاريخها الطويل. وصفه شمس الدين الذهبي في كتابه الموسوعي "سيَر أعلام النبلاء": "وكان -أي الرشيد- من أنبل الخلفاء وأحشم الملوك ذا حج وجهاد وغزو وشجاعة ورأي... ذا فصاحة وعلم وبصر بأعباء الخلافة وله نظر جید في الأدب والفقه... كان یصلي في خلافته في كل یوم مائة ركعة إلى أن مات ویتصدق بألف وكان یحب العلماء ویعظم حرمات الدین ویبغض الجدال والكلام ویبكي على نفسه ولهوه وذنوبه".
لعلنا لا نبالغ إذا قلنا إن شخصية هارون الرشيد قد أضحت إحدى الشخصيات النموذجية المؤثرة في المُتخيل الإسلامي الجمعي. تمتعت شخصية هذا الخليفة بمجموعة من المميزات والسمات اللاتي مكنت صاحبها من التغلغل داخل الوجدان العربي عبر العصور. ومن خلال القصص الشعبية المرتبطة بالرشيد عبّرت الطبقات الشعبية عن أحلامها وأمانيها وتصوراتها الخاصة للسلطة والحكم، والعلاقة بين الديني والدنيوي.
"يحج عاماً ويغزو عاماً"... المدافع عن الدين
لا يمكن أن ننكر دور الدين في بناء الحضارة العربية الإسلامية. بُنيت القاعدة الأولى من تلك الحضارة على أساس ديني إسلامي قوي لا يمكن إنكاره. ومن ثم فقد كان من الطبيعي أن نجد الدين/التدين حاضراً -بقوة- في تشكيل سيّر أهم الشخصيات الإسلامية عبر القرون.
جسدت شخصية الرشيد إمكانية وقوع التلاقي والتماهي بين البعدين الديني والسلطوي. كما عبرت بشكل عملي عما وصفه حجة الإسلام أبو حامد الغزالي في كتابه إحياء علوم الدين بعد قرون عندما قال: "إنما المُلك والدين توأمان، فالدين أصل، والسلطان حارس، وما لا أصل له فمهدوم، وما لا حارس له فضائع".
من خلال القصص الشعبية المرتبطة بالرشيد عبّرت الطبقات الشعبية عن أحلامها وأمانيها وتصوراتها الخاصة للسلطة والحكم والعلاقة بين الديني والدنيوي
برغم أن حدود الدولة العباسية مع البيزنطيين في عهد الرشيد قد عرفت الثبات والاستقرار إلى حد بعيد، إلا أننا نجد أن المؤرخين المسلمين وقد استفاضوا في ذكر أخبار بطولات الخليفة العباسي الأشهر في جهاد العدو البيزنطي. كانت أشهر تلك الأخبار تلك التي حكت عن الرسالة المسيئة التي بعث بها الإمبراطور البيزنطي نقفور إلى بغداد، والتي هدد فيها نقفور الرشيد بالحرب.
يذكر المؤرخون أن الرشيد غضب غضباً شديداً عندما وصلته تلك الرسالة، وأنه رد رداً حازماً مقتضباً، جاء فيه "من هارون أمير المؤمنين إلى نقفور كلب الروم، قد قرأت كتابك يا ابن الكافرة، والجواب ما تراه دون أن تسمعه، والسلام". هاجم الرشيد بعدها حدود بيزنطة، وهزم البيزنطيين في أكثر من معركة، وأجبر نقفور على دفع الجزية ثم عاد إلى عاصمة ملكه مظفراً منتصراً.
كانت تلك هي الصورة المُثلى التي ظهر عليها الرشيد في الكتابات التاريخية. بطل مغوار قادر على دحر الأعداء الكافرين من جهة، وعلى حماية الأراضي الإسلامية من جهة أخرى. وحتى تكتمل الصورة الدينية المثالية للرشيد، تواترت الروايات التي تؤكد على تقواه وعدله، كما كثرت الأخبار التي تحدثت عن عبادته، حتى ذاع بين الناس أنه الخليفة الذي "كان يحج عامًا ويغزو عامًا".
"إنما العاجز من لا يستبد"... صاحب السلطة المطلقة
لم يعرف العقل الإسلامي الجمعي في العصور الوسطى فكرة تداول السلطة أو الديموقراطية. ومن ثم كانت الديكتاتورية أو الحكم المطلق للفرد هو النموذج السياسي الأقرب للتصور العام. مرت فترة خلافة الرشيد بفترتين متمايزتين، في الفترة الأولى تمكن آل برمك من إدارة شؤون الدولة حيث سمح لهم الرشيد بالحكم. أما في الفترة الثانية فقد تولى الرشيد الحكم بنفسه بعدما أطاح بالبرامكة ونكبهم، وزج بهم في غياهب السجون.
تحظى حادثة إطاحة الرشيد بالبرامكة بأهمية كبيرة في الوجدان الإسلامي الجمعي. جسدت تلك الحادثة أهمية استحواذ الحاكم على مقاليد السلطة المطلقة، وبينّت قيمة الاستبداد في الحفاظ على هيبة المُلك وتماسك الدولة.
بطل مغوار قادر على دحر الأعداء الكافرين من جهة، وعلى حماية الأراضي الإسلامية من جهة أخرى.
تحكي القصة المعروفة أن واحدًا من العامة دخل على هارون الرشيد وطلب منه العطايا فأمر له الخليفة ببعض الجوائز المالية. ولكن الوزير يحيى بن خالد البرمكي لم يعط الأموال للرجل. دخل الرجل على الرشيد مشتكياً مرة أخرى، وتمثل بقول الشاعر عمر بن أبي ربيعة:
ليت هنداً أنجزتنا ما تعد/ وشفت أنفسنا مما نجد
واستبدّت مرة واحدة/إنما العاجز من لا يستبد
تذكر المصادر التاريخية أن الرشيد قضى يومه وهو يردد البيت الأخير "إنما العاجز من لا يستبد"، وبعدها قرر أن ينكب البرامكة بعدما تيقن من كونهم قد صاروا يشاركونه ملكه وسلطانه.
احتفى المُتخيل الإسلامي بتلك الحادثة باعتبارها لحظة فارقة في تاريخ خلافة الرشيد. في تلك اللحظة استبد الخليفة بالسلطة الكاملة وأحكم قبضته على مقدرات دولة الخلافة، ليتحول من شيخ قبيلة عربي يطلب المشورة والرأي من جلسائه وندمائه إلى واحد من أكاسرة الفرس الغابرين الذين يعلو مقامهم فوق مقام البشر، وليحقق الرشيد ما تكلم عنه جده أبو جعفر المنصور من قبل عندما تحدث عن السلطان بوصفه "ظلّ الله في الأرض".
"أمطري أينما شئت"... صاحب الثراء الفاحش
عاشت الخلافة العباسية عصرها الذهبي في عهد هارون الرشيد. اشتهرت بغداد في ذلك العهد باعتبارها أعظم مدن الأرض وأكثرها ثراءً وتحضراً. كما كانت أموال الجزية والخراج والعشور تُحمل من المشرق والمغرب لتُكنز في خزائن الرشيد وبيوت المال.
تسبب كل ذلك في أن نُظر إلى الرشيد على كونه واحداً من أغنى الخلفاء الذين اعتلوا كرسي الخلافة الإسلامية على مر العصور. خصوصاً وأن المؤرخين حكوا كثيراً عن مظاهر البذخ والإسراف التي شاعت في عهده. على سبيل المثال يذكر ابن خلدون في تاريخه في معرض الحديث عن زواج الرشيد من زبيدة "تقاطر الناس من كل الأمكنة ووزعت مبالغ مالية لم يشهد لها الإسلام من قبل مثيلاً...".
كما تحدث جورجي زيدان في كتابه "تاريخ التمدن الإسلامي" عن مظاهر الحضارة الراقية التي وصل لها العباسيون في تلك الفترة "... وأحدث العباسيون في عهد الرشيد أشكالاً من الفرش وفنونه لم يسبقهم إليها أحد، منها ما ينسبون اختراعه إلى زوجته زبيدة، فقد ذكروا أنها أول من اتخذ القباب من الفضة والأبنوس والصندل وكلاليبها من الذهب والفضة ملبسة بالوشي والسمور والديباج وأنواع الحرير الأحمر والأصفر والأخضر والأزرق". كل تلك القصص رسخت من صورة الرشيد الذي اتسع ملكه إلى درجة غير مسبوقة إلى الدرجة التي حدت به ليقف في شرفة قصره ذات يوم وينادي السحابة في السماء قائلاً: "أمطري أينما شئت فسوف يأتيني خراجك!".
شهريار العربي: الخليفة الأسطوري
لمّا كانت قصص ألف ليلة وليلة ذات الأصول الهندية والفارسية قد تُرجمت إلى اللغة العربية في فترة حكم الخليفة العباسي هارون الرشيد، فقد كان من الطبيعي -والحال كذلك- أن نجد أن الرشيد قد أُقحم في تلك القصص ليحل محل البطل الأصلي الملك شهريار.
في الحقيقة، وجد المترجمون والإخباريون ضالتهم في شخص الرشيد، ولم يكن من العسير عليهم أن يؤسطروا قصة هذا الخليفة الشهير، لا سيما أن سيرته قد تضمنت أبعاداً أسطورية لا يمكن تجاهلها. تمثلت أولى تلك الأبعاد في قصة ابن الرشيد المجهول الذي ولدته أمه في إحدى نواحي العراق وعاش وتربى بعيداً عن قصور والده العامرة. بحسب ما ورد في الكثير من المصادر التاريخية فإن ذلك الابن قد عُرف باسم أحمد السبتي، وكان معروفاً بالزهد والتقشف والعبادة.
ويذكر ابن كثير في كتابه "البداية والنهاية" أن السبتي لمّا اقترب من الموت بعث بوصيته المؤثرة إلى أبيه، والتي جاء فيها: "إياك أن تموت في سكرتك هذه فتندم حيث لا ينفع نادماً ندمُه، واحذر انصرافك من بين يدي الله إلى الدارين، وأن يكون آخر العهد بك، فإن ما أنت فيه لو دام لغيرك لم يصل إليك، وسيصير إلى غيرك وقد بلغك أخبار من مضى". يذكر ابن كثير أن الرشيد تأثر كثيراً لمّا سمع تلك الكلمات "فقام فضرب بنفسه الأرض وجعل يتمرغ ويتقلب ظهرا لبطن ويقول: والله لقد نصحتني يا بني، ثم بكى....".
تتمدد الأبعاد الدرامية في سيرة الرشيد لتصل إلى الحديث عن فحولته التي ضربت بها الأمثال. يذكر ابن كثير "أنه كان في دار الرشيد من الجواري والحظايا وخدمهن وخدم زوجته وأخواته أربعة آلاف جارية…". انتشرت قصص لهو الرشيد مع جواريه بين العامة، وصار الخليفة العباسي نموذجاً للذكر المهيمن الذي تتفانى الحسناوات على خدمته والتقرب إليه، الأمر الذي أثار المُتخيل الذكوري العربي على مر العصور.
بقيت سيرة هارون الرشيد في نهاية الأمر سيرة خصبة متجددة عبر العصور. وبرهنت على إمكانية وقوع الاشتباك بين التاريخي والمتخيل، الديني والدنيوي، الأرضي والسماوي
أيضاً، سنجد في سيرة الرشيد تطرقاً للحديث عن الصداقة والصحبة. يتحدث المؤرخون عن خالد بن يحيى البرمكي الذي كان أقرب الناس إلى الرشيد، وكان نديمه وصاحبه في مجالس الخمر والغناء والشعر. وكذلك تحدثت بعض الحكايات عن تجوال الرشيد ليلاً مع جعفر في شوارع وأزقة بغداد للاطمئنان على أحوال العامة. تنتهي تلك الصداقة بشكل دامي ومؤسف يتناغم مع الطابع الملحمي لسيرة الرشيد. تذكر بعض الروايات أن خالداً لمّا هام بالعباسة -أخت الرشيد- وتزوج منها سراً، فإن الرشيد قد غضب غضباً شديداً وقتل خالداً ونكل بأهله وأقاربه.
كذلك تتحدث السيرة الأسطورية للرشيد عن علاقته الغامضة مع القاضي أبي يوسف التلميذ النجيب للإمام أبي حنيفة النعمان. لا يظهر أبو يوسف في عالم الرشيد الأسطوري بوصفه عالماً ورعاً أو تقياً. بل إن القصص قد مثلته في صورة الفقيه الحاذق الذي يستخدم القواعد الفقهية للتحايل على الشرع والدين.
في الأدب الفارسي نجد أن ذكر هارون الرشيد جاء في أغلب الأحيان كحاكم مقتدر وعادل بل متسامح؛ فعلى سبيل المثال يأتي بذكره سعدي الشيرازي في كتابه "كُلستان" (باب "سيرة الملوك")، وتقول الحكاية أن أحد أبناء الرشيد شكا له شتماً من قبل أحد أقرانه. سأل الخليفة حاشيته، فكان من نصح بالقتل، وآخر من أكد على قطع اللسان، وآخر أوصى بالنفي. أما الرشيد فقال في النهاية أن العفو هو الأجدر بنا يا بُني: "اعفُ عنه، وإن لم تستطع فعامله بالمثل، واشتمه" فقط.
ويحق لنا أن نتساءل ها هنا: هل حملت الصورة المُتخيلة لأبي يوسف نقداً مضمراً لرجال الدين والفقهاء الذين زاد نفوذهم في القرن الثاني الهجري؟ وهل عبر الرواة من خلال تلك القصص عما اعترى صدور الناس من غضب دفين موجه للتحالف القائم بين السلطتين السياسية والدينية آنذاك؟
على أية حال، بقيت سيرة هارون الرشيد في نهاية الأمر سيرة خصبة متجددة عبر العصور. وبرهنت على إمكانية وقوع الاشتباك بين التاريخي والمتخيل، الديني والدنيوي، الأرضي والسماوي. وأثبتت أن للحقيقة نصفين، أولهما قابع في قصور الحكم ودواوين السلطة، أما ثانيهما فيتمثل في أحلام العامة، وخيالات البسطاء.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Mohammed Liswi -
منذ يومينأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ 3 أياملا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 6 أياممقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه
بلال -
منذ أسبوعحلو
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعالمؤرخ والكاتب يوڤال هراري يجيب عن نفس السؤال في خاتمة مقالك ويحذر من الذكاء الاصطناعي بوصفه الها...